الجزء الثاني..

يعتقد البعض بمجرد إجادتهم اللغة العربية إنهم قد وصلوا إلى فهم مراد الله في كتابه الكريم..

وهذا شيء لا يصدق حتى يلج الجمل في سم الخياط نعم الذي يجيد العربية قد يفهم القرآن بوجه لكن لا يتحقق لديه التفسير ومراد الله كما هو الحال لدى أصحاب الإختصاص... فإن قيل: كيف ينزل الله كتاباً ويتعبدنا به ثم يصعب علينا فهمه؟ أقول هنا ليظهر الفرق بين العالم والجاهل فكما أخذ الله على العالم أن ينشر علمه أمر الجاهل أن يستفيد من ذلك العلم بواسطة أخذه من العالم وخلاف ذلك يختلط الغث بالسمين ويتلاشى فضل العلماء ويستوي من يقضي عمره بين أمهات الكتب مع آخر جل همه اللهو واللعب فالذي يفهمه العامة من الناس هو وجه من كلامه تعالى حسب مفارقاتهم واتجاهاتهم العلمية لا كما يفهمه العلماء الذين هم أيضاً تميز عندهم مراحل الفهم وإلا ما الذي يدعونا لدراسة هذا العلم إذا كان في متناول الجميع لمجرد معرفتهم اللغة العربية... علماً إنه في الجزء الأول من هذا البحث أشكل على البعض عنوان المقال الذي وضعته [ أخطاء في كتب التفسير ] ظناً منهم أن الكتب هي المجلدات التي تكون بين الدفتين والذي أقصده هو الكتب بمعناها الأصلي الذي وضعت له لا المعنى العرفي..

والكتاب بأصل الوضع هو على وزن فعال بمعنى المفعول فالكتاب يعني المكتوب إذاً الكتب هي مايكتب من العلم سواء كان في الكتب المتعارف عليها أو على صفحات الإنترنت أو حتى على الجدران ولافتات الشوارع ولوتأملت قوله تعالى ( رسول من الله يتلوا صحفاً مطهرة 0 فيها كتب قيمة ) البينة 2-3... لو تأملت في الآيتين لأتضح لك معنى الكتب التي تكون بداخل الصحف أي أن الصحف تحتوي على الكتب وليس العكس فتأمل ذلك.. ويؤيد هذا قول الشاعر: بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة.... أتتك من الحجاج يتلى كتابها... وكتابها يعني مكتوبها. من بعد هذه المقدمة: أقول إن أخطاء التفسير التي نريد أن نضع لها علاجاً ونلبسها حلتها الجديدة هي ليست وليدة مذهب أو مدرسة بعينها وإنما هي إرث تناقلته الأجيال وقد إستطاع المحدثون من المفسرين أن يجدوا حلولا ً لبعضها فيما إمتنع القسم الآخر منها بسبب الإرث المذهبي الذي يصعب عليهم مخالفة أسلافهم فيه ومن هذا الإرث التجسيم ونسبة الجوارح التي يتمتع بها ممكن الوجود إلى واجب الوجود جل شأنه.. لذلك نجد المجسمة قد نسبوا له تعالى الوجه واليد والساق ظنا ًمنهم أن يد الله هي كالجارحة التي عندنا لكن بحجم أكبر وأكثر من هذا إن كلتا يديه يمين لذلك عند مرورهم بقوله تعالى ( يد الله فوق أيديهم ) الفتح 10..

وكذلك قوله تعالى ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء... الآية ) المائدة 64.. نجدهم هنا قد إبتعدوا عن قواعد اللغة العربية ومجازها واستعارتها ولو دقق هؤلاء المجسمة في أساليب اللغة العربية لبانت لهم الحقيقة ولكن للأسف حتى مع ظهور تلك الحقيقة نرى تمسكهم بالمذهبية التي غرست هذه التجسيمات في مخيلتهم لعقود من الزمن.. والعلاج لا يحتاج إلى كثير جهد فاليد عند العرب يعبر فيها عن القوة أو التفضل والنعمة كقول الشاعر: أبنو لبينة لستم بيد........ إلا يداً ليست لها عضد. فهو هنا إستعار اليد التي ليست لها عضد وجعلها تعبيراً عن ضعفهم وهذا يعني أن اليد هنا تعني القوة كذلك حين قولك لفلان علي يد أي إنه متفضل عليك بنعمة معينة وهذا يناسب قوله ( بل يداه مبسوطتان ).. فإن قيل: لم حدد عدد الأيدي بإثنتين كما هو عندنا أليس هذا يوحي بالتشابه؟.. أقول: هذا من باب الرد بالمثل والقرآن كثيراً ما يعالج هذه الظاهرة فعند قولهم ( يد الله مغلولة ) أجابهم تعالى بقوله ( غلت أيديهم ) إلى أن قال ( بل يداه مبسوطتان ) فكان الرد عليهم بما هم يملكون هذا العدد دون العمل والنفقة التي شرعها الله تعالى وهذا الرد بالمثل كثير بالقرآن كقوله تعالى حين إستهزائهم ( الله يستهزىء بهم ) البقرة 15.. وقوله حين مكرهم ( والله خير الماكرين ) الأنفال 30.. وحين إنصرافهم عن سماع القرآن قابلهم بقوله ( صرف الله قلوبهم ) التوبة 127.. وهذا مألوف عند العرب أيضا ً كقول عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا....... فنجهل فوق جهل الجاهلينا. فالثاني ليس جهل وإنما رد على جهلهم كقوله تعالى ( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن إعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم...... الآية ) البقرة 194.. فالثاني ليس إعتداء وإنما رد على إعتدائهم فأنزل منزلة الإعتداء..

وكذلك جائت اليد بمعنى القوة منسوبة لغير الله في قوله ( واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب ) ص 17.. أي صاحب القوة إذا ً قوله تعالى ( والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون ) الذاريات 47.. يعني أنها بنيت بقدرته تعالى وعلى إهتمام شديد منه لا كما يدعي المجسمة بأن الله تعالى له أيد وكلاهما يمين وأكثر من هذا نراهم يضاهئون بأقوالهم هذه الذين نسبوا لله الولد والشريك والعياذ بالله ولذلك جعلوا العرش والكرسي من الأعيان التي يجلس عليها الحق جل وعلا متناسين السبب الأول لهذه التسمية وهي المراحل التي مر بها بها الكرسي منذ صناعته الأولى والتي معناها التجميع أي تكريس المواد المصنوع منها سواء كانت القصب أو الخشب أو الحديد ومرور الكرسي بهذه المراحل المتتابعة إلى يومنا هذا وهو لا يزال يحمل نفس الإسم وحين تمت صناعته الأولى التي كانت معدة لجلوس الحاكم وهو لا يزال يوحي بمعنى الحاكمية حتى نقلت هذه اللفظة كغيرها من الأشياء المحسوسة إلى المعنوية لذلك حين سماعنا لكرسي الحكم لا يتبادر إلى أذهاننا الكرسي المعد للجلوس وإنما مصدر التشريع والسلطة إذا ً قوله تعالى: ( وسع كرسيه السموات والأرض ) البقرة 255.. يعني وسع نفوذه وحكمه وسلطته وعلمه السموات والأرض لا أن هناك كرسي معد للجلوس وهذا يجري في العرش واللوح والقلم وغيره.. فإن قيل: كيف حدد حملة العرش بثمانية أليس هذا يوحي بأن هناك عرش محمول في قوله ( والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) الحاقة 17..

أقول: إن العرش المقصود هنا هو عرش رمزي يحمل من قبل الملائكة يوم القيامة كما هو الحال في [ بيت الله ] الموجود عندنا اليوم فإنه يسمى بيت الله في حين نعلم إضطرارا ً إنه ليس مكان لسكنه جل شأنه وإنما نسبة تشريفية وهذه النسب التشريفية كثيرة في القرآن كقوله تعالى: ( ناقة الله ) الأعراف 73.. هود 64.. الشمس 13.. ( أيام الله ) الجاثية 14.. ( تجري بأعيننا ) القمر 14.. ( ولتصنع على عيني ) طه 39.. وغيرها من النسب التشريفية فليس هناك استواء معلوم وكيف مجهول وإنما هذا يعد من التجسيم المنزه عنه تعالى.. فإن قيل: هل المقصود بالمجسمة هم السنة؟ أقول ليس جميع السنة هم من المجسمة وإنما بعض الفرق التي خالفت الجماعة في إتجاههم وأيضا ً لكل فرقة سلبياتها كما إن للشيعة غلاة ولهم أساليبهم الخاطئة في التفسير والذين سيكونون هم الوجبة القادمة التي سأعدها لكم على مائدة [ أخطاء في كتب التفسير ] بنسختها الجديدة والله الموفق.

عبدالله بدر إسكندرالمالكي

[email protected]