پابلو نيرودا: البحر، في مديحِ نهارٍ طيِّبٍ، وقصيدةُ نثرٍ أخرى
ترجمها عن الانجليزيّة تحسين الخطيب

ربيعُ آب
يا حانوتَ جواهرِ صباحاتِ العالَمِ، الآنَ يلمعُ النّدى على التُّويجاتِ المُضيئةِ. أيّها الرّبيعُ! هَا أنتَ الآنَ مسنودٌ في مَواشيرِ الشّمسِ. أراكَ تنبلجُ من داخلِ كلّ شيءٍ! سأخبركَ، بلغتي الخفيّةِ، عن فرحيَ الغامرِ بعدَ حزنٍ أَنانيّ. يا إعصارَ اليَاقُوتيَّةِ، يا باعثَ الحياةِ في الفراشاتِ الزّرقاء، يا ربيعَ آب، إِنَّ المُطَّوِّفَ يمجدكَ. لقد ربَّيتَها في تلالِ بلادي، ثم نثرتَها فوقَ الطُّرُقِ الشّاحبةِ، غاباتِ المِيمُوزا (1) الشّهوانيّةِ! الميموزا! آهٍ، يا فرحَ قلبي! يا راياتِ الحريرِ الأصفرِ، يا أكشاكَ العِطرِ الكبيرةَ. في هذهِ الأرضِ الجنوبيّةِ حيثُ أُغنّي، تتفتّحُ، عند كلِّ مُنعطَفٍ، كَنِسْيَانِ شمعداناتٍ، مِيمُوزا بخمسمئةِ وحدةٍ كهربائيّةٍ، مُكتنزةً بأزهارٍ، بسيطةً، جَاهِدةً، أُوركستراليّةً!
آهٍ، أيّها الرّبيعُ، مَنْ غيركَ كَلَّلَ بساتينَ الخوخِ النّائمةَ بأجنحةٍ ورديّةٍ؟ أنتَ- بلا ريبٍ- مَنْ مَلأَ حُضنَهُ بالغدائرِ الجميلةِ المُراوغةِ لاشجارِ الكرزِ! لقد سمعتُ على الطّرُقِ، فوقَ أسلاكِ التّلغرافِ، عصافيرَ تُغنّي! ثُمَّ على أسقُفِ الشّتاءِ، قنواتِ المطرِ، تبدأُ الطّحالبُ التّعيسةُ بالاصفرارِ.
أنتَ وراءَ كلّ شيءٍ، أيّها الربيعُ. وَهَا أنتَ تكتبُ على النّداوةِ، بأصابعِ فتاةٍ لَعُوبٍ، الأبجديّةَ الهاذيةَ لهذا الزّمنِ الذي يَرجعُ.


في مديحِ نهارٍ طَيِّبٍ
يبدأُ النّهارُ الطيّبُ قبلَ الفجرِ وينتهي بعدَ الغروبِ. تُزهرُ أوّلُ سهامِ النّهارِ الطيّبِ بينَ اسفنجٍ ليليٍّ، فيأتيكَ النّهارُ الطيّبُ، كصديقٍ مُخلصٍ، مغروساً في منتصفِ الطّريقِ.
كما لُوْ أنَّ اشاراتٍ لا يتلقَّاها أحدٌ دَلَّتْ على هذا الوقتِ البهيجِ. مَنْ يقرأُ أبجديّةَ النّجومِ العابرةِ سريعاً؟ أبداً لا تتوقّفُ لِتَفُكَّ مَغالقَ الاشاراتِ الصّغيرةِ الواقعةِ في شِراكِ الشّوارعِ. ولا تسألُ عن وِجهةِ الرّياحِ الأخيرةِ.
بِمَ يُفيدُ ذلكَ. آهٍ أيّها النّهارُ الطيّبُ العميقُ؟ هَا أنتَ ترفعُ نَفْسكَ إلى رأسِ صاريةِ الفجرِ، ثُمَّ تَتراءَى هناكَ، محارباً باسماً. وَهَا أنتَ تجعلُ النَّدى يرتعشُ على الحنطةِ المُستيقظةِ للتّوِّ. نُوركَ يرسمُ الثِّمارَ ويبسطُ أجنحةَ النّحلِ التّائهِ. لا شيءَ كتلكَ الزّهرةِ الصّفراءَ على الجُرفِ، ذاكَ أنَّ أصابعَ وضوحكَ ترعاها.
سماءٌ مشدودةٌ ومفتوحةٌ؛ تهبطُ الفتاةُ بِخُطىً بطيئةٍ بينَ رائحةِ أوراقِ النّباتاتِ. لا يتبدّدُ الهواءُ المزفورُ، بَلْ يَستبقِي لونَهُ البنفسجيَّ الحَقَّ في الأعالي. في القريةِ- آهِ الاقليمُ الشّفافُ- يُدشّنونَ الجَرَسَ البرونزيَّ الذي لَمْ يَقدِروا على شرائهِ أبداً، وَرُبّانُ المركبِ، على ساحلِ البُؤسِ، يُبصرُ الشِّراعَ الذي كانتْ تنتظرُهُ سفينتُهُ عائماً بينَ الزّمردِ النَّدِيِّ للبحرِ. أيتها الصّغيرةُ، يا صغيرتي، هذا يومٌ لِلمَسيرِ، فلا تكوني حزينةً فيهِ، فَعَلَى صدركِ، خلفَ ثويكِ المشدودِ، بُرعمانِ أبيضانِ يَشقَّانِ طريقهما. أيّها الصّديقُ الطيّبُ، الرّفيقُ القصيُّ، أيّها البَحَّارُ الغِرُّ الأثيرُ، اليومَ تأتيكَ رسالةٌ بأخبارٍ تجلبُ السّعادةَ: لقد تَحَسَّنَتْ أحوالُ خِيْرَارْدُو السِّكّير. حصلَ تُومَاس على غرفةٍ. فيدريكُو، خوانيتّا. . . كلّهُم سعداءُ. اليومَ لنْ يتذمّرَ العُمَّالُ بأنَّ عطلةَ نهايةِ الاسبوعِ قدِ انتهَتْ، وأنَّ مشاهرهم ستهتزُّ قليلاً عندَ سماعِ الأطفالِ يبكون. لقد حصلَ المنزلُ الفقيرُ على زهرةٍ، في ذلكَ اليومِ الهادئِ، وفي البيتِ المُتهدّمِ كانَ ثمّةَ عنكبوتانِ يتدلّيانِ، يدخلانِ في الصّباحِ أو عندَ المغيب: عاشقينِ خَبَّئَا أملاً بلا منزلٍ.

البحر

كانَ، عن حدودِ الخريطةِ، يفيضُ المحيطُ الهادئُ. لا مكانَ ليوضَعَ فيهِ. كانَ رحباً، وحشيّاً، وأزرقَ لمْ يتلاءَم معَ أيِّ مكانٍ. لذلكَ، كانَ متروكاً أمامَ نافذتي.
قَلِقَ الخَيِّرونَ على اليافعينَ الذينَ يفترسهم البحرُ على مَرِّ السّنين.
ليسُوا في الحُسْبَانِ.
ولا حتّى تلكَ الغَلْيُون(2) المُحمَّلةُ قِرفةً وفُلفلاً، التي عطَّرتهُ حينَ هَوَتْ إلى أسفل.
كلاّ.
ولا حتّى سفينةُ المُستكشفِ- الهشّةُ كسريرِ طفلٍ تناثرَ قِطَعاً في الجحيمِ- التي انقلَبَتْ برجالها المُتضوّرينَ جُوعاً.
كلاّ.
في المحيطِ، يَنحلُّ الانسانُ كقضيبِ ملحٍ. ولا يُدركُ الماءُ ذلكَ.

هوامش:
1- الميموزا Mimosa، وتعرف باسم المُستحية، نبات السَّنْط، وشجرة الصّمغ العربي أيضاً: نباتٌ استوائيّ ذو رؤوس أو قرون من الزهور. تعرف في تشيلي بالـ aromos، وهي تتفتّحُ في أواخر الشّتاء وأوائل الربيع بزهور ليمونيّة اللون، زاهية، زغبة، بالغة الصّغر، ذات عطر نفّاذ قوي.

2- الغليون galleon: سفينة شراعية ضخمة ذات ثلاثة صوار استخدمت من القرن 15 الى 17 في اسبانيا كسفينة تجارية وحربية.