عبدالرحمن مصطفى :شهدت فترة السبعينات والثمانينات هجرات ملحوظة من المصريين إلى الدول العربية المجاورة بغرض العمل وتحسين المستوى المعيشي.. وكانت أكثر تلك الهجرات ndash; المؤقتة- مقصدها دول مجلس التعاون الخليجي كالكويت والسعودية وغيرها من دول المجلس ، وقد زادت أعداد المصريين العاملين في دول الخليج حتى أصبحت تشكل في مجملها أرقاما مليونية، وقدِّر لأبناء هؤلاء المصريين أن يعيشوا جزءا من طفولتهم أو شبابهم بعيدا عن مصر وسط بيئة مختلفة عن وطنهم الام جعلتهم يحملوا معهم ذكريات لها بعض الخصوصية.. سواء كانت ذكريات جميلة، أو تعيسة، فهي في النهاية ذكريات ذات طابع خليجي.

احتارت حنان (27 عاما)، طبيبة وباحثة من اين تبدأ، فقد قضت معظم فترات حياتها تقريبا مع أسرتها في الكويت، ولديها الكثير من الذكريات، غير أنها اختارت أن تبدأ بما تفتقده الآن من أيامها بالكويت، فتحدثت قائلة: quot;الكويت جميلة.. شوارعها مرصوفة، أماكنها نظيفة، أغلب أماكن العمل هناك فخمة وجميلة، والمعيشة سهلة، وما من شك أني أفتقد كل هذا الآن.. أفتقد صديقاتي من البلدان العربية سواء كن مصريات أو عراقيات أو فلسطينيات ndash; كن موجودات بكثرة قبل غزو العراق للكويت- وأعترف أن علاقاتي بزميلاتي الكويتيات كانت في حدود ضيقة نظرا للمشادات التي كانت تحدث أحيانا بيني وبينهن بسبب روح التعالي الموجودة لدى بعضهن، ولا أستطيع أن أعمم ذلك على كافة تعاملاتي مع الكويتيات، غير أنني لن أنسى بعض المواقف السيئة التي تعرضت لها وجعلتني أشعر بالمرارة إلى الآن،
كتعرضي للتوبيخ المبالغ به من قبل وكيلة المدرسة التي كنت أدرس بها كما تعرضت لمصر بأقوال أغضبتني كثيرا حينها ..quot;.

التحقت حنان بجامعة الكويت وسهل ذلك كون والدها أستاذ أكاديمي يعمل في الجامعة هناك. الا انه لم يكن في دفعتها سوى ثلاثة مصريات فقط. وعلى الرغم من ان احتكاكها مع زميلاتها الكويتيات بات على نطاق أكبر الا انها ظلت تتحاشى تلك التعاملات.
وما تزال حنان تذكر الحزن الذي تملكها حين قرروا الرحيل عن الكويت ، ولا تنكر صعوبة التخلي عن جزء من تاريخها الشخصي وحياتها على الرغم من بعض الفترات المزعجة المتعلقة بالمضايقات . وتقول عن تلك المرحلة : quot;بعد عودتي إلى مصر مررت بمرحلة لم أستطع فيها التواؤم مع المجتمع، وكنت أريد العودة إلى الكويت، أما الآن.. فأنا أكثر تواؤما مع المجتمع المصري، ولن أسعى إلى العودة إلى الكويت مرة أخرى، فأنا الآن أشعر في مصر بمساواة أكبر مع الآخرين وهذا شيء كنت أفتقده بشدة في الكويت..quot; .

أما الشاعرة والطالبة الجامعية مروة دياب (19 عاما)، فتقول : quot; أقمت في دولة الإمارات لسبعة عشرة عاما، منذ أن كنت طفلة لا تعي ما حولها حتى فرغت من المرحلة الثانوية، وكان ترتيبي التاسع على الدولة في المرحلة الثانوية، وكنت دائمة التفوق في مجالات الشعر والرياضة إلى جانب تفوقي الدراسي، لكن هذا لم يشفع لي أبدا عندما كنت أعامل كباقي الوافدين بنوع من التمييز في المجتمع، على سبيل المثال لم يكن بإمكاني أن اشترك في العديد من الأنشطة التي كانت حصرا على أبناء الدولة، وذلك رغم طول فترة إقامتي بالإمارات.. quot; وتضيف quot;مروةquot; quot; منذ طفولتي وأنا ألحظ تمييزا واضحا بين الوافدين وبين الإماراتيين، بل أحيانا كنت أشاهد مظاهر ظلم تقع على بعض العاملين الوافدين، أتذكر على سبيل المثال ذلك القرار بمنع أبناء الوافدين العرب من ارتياد المدارس الحكومية الذي تم تطبيقه منذ أعوام، والذي جعل أبناء العاملين هناك أمام خيارين.. إما الالتحاق بالمدارس الخاصة ذات المستوى الرديء، أو العودة إلى مصر..quot;

وترجع مروة هذه الممارسات الفوقية إلى أن بعض المصريين أنفسهم يسيؤون إلى بلادهم سواء داخل الإمارات أو في مصر، مما يجعل البعض يتعامل معهم على تلك الشاكلة، غير أن الإنسان المحترم المتماسك، لن يجد هناك إلا التقدير، وتختم قولها بأنها لا تحمل بغضا للإمارات، فأهل الإمارات في النهاية عرب ومسلمين، منهم الطيب ومنهم السيء.. غير أنها تعيب على بعض الممارسات التي تجعل الأجنبي الغربي أفضل حالا من العربي هناك ..!

ماجد حسني (24 عاما)، طالب جامعي، يتذكر فترة إقامته بالسعودية بكل خير، ويقول : quot;كانت فترة جميلة من حياتي، كنا نسكن في المنطقة الوسطى، حيث عمل والدي، وكانت علاقاتنا مع الآخرين هادئة ولا تشوبها مشاكل، ومنذ الطفولة وأنا طالب في المدارس السعودية، وأعتقد أن دراستي في المدارس السعودية قد أفادتني كثيرا في حياتي.. خصوصا وان المناهج هناك تقدم الكثير من المعلومات الدينية للطالب، غير أن تخرجي من المدارس السعودية قد أفقدني أيضا جزءا كبيرا من تقديري العام عندما أردت الالتحاق بالدراسة الجامعية هنا في مصر، حيث تم خصم درجات المواد الدينية التي تشكل نسبة من التقدير الكلي..quot;

وعن ذكرياته السئية التي ما زال يحملها عن اقامته في السعودية يقول quot; لا أفكر كثيرا في تلك المرحلة من حياتي، ومعظم ما قد يتعرض له المصري من مضايقات تأتيه من شخصيات سخيفة، أما ذكرياتي التي لن أستطع نسيانها أبدا، وأشعر بالراحة النفسية عندما أتذكرها، هي أنني قمت بالعمرة مع أسرتي عدة مرات أثناء فترة إقامتنا بالسعودية، وهو أمر ليس من السهل أن أقوم به الآن..quot;


أحمد علاء (27 عاما)، مهندس كمبيوتر من مواليد الكويت، يحكي عن ذكرياته quot; لم أكن أعاني من غربة شديدة في الكويت، حيث أن أغلب أفراد عائلتنا كانوا متواجدين في الكويت، وكان الحي الذي نسكن فيه ndash; حي السالمية ndash; يقطنه أغلبية من الفلسطينيين والمصريين، ويرجع أصل تواجد عائلتنا بالكويت إلى جدي - رحمه الله ndash; الذي سافر إلى هناك منذ أواخر الخمسينات هربا من نظام حكم quot;جمال عبد الناصرquot;، أما عن أجمل ذكرياتي، فأجدها اليوم مسجلة داخل ألبوم صوري، و على شرائط الفيديو العائلية التي سجلت أجمل ذكرياتي سواء لحظات التفوق الدراسي أو لحظاتنا العائلية الجميلة. أما أسوأ ذكرياتي فربما هي ابتعادنا عن الوالد بعد عودتنا إلى مصر من أجل الدراسة الثانوية، فأصبحنا نراه فقط لمدة شهرين في العام، اللهم إلا أثناء بعض زياراته الخاطفة التي كان يقوم بها على مدار العام.. وحاليا أنا أعمل في الكويت وأقيم مع والدي.quot;
ويختتم أحمد شهادته على فترة إقامته بالكويت بقوله مازحا : quot;أعتقد أنني أستحق الجنسية الكويتية بجدارة.. غير أن هذا على ما أعتقد من أكبر المستحيلات..!quot;

وتعلق أخته نانسي (23عاما)، طالبة جامعية، بأنها تستطيع أن تميز بين فترتين قضتهما بالكويت... فترة ما قبل غزو العراق للكويت، وفترة ما بعد الغزو، حيث أن علاقتي مع زميلاتي الكويتيات اصبحت أكثر حدة وتناطح لانني مصرية، وكثيرا ما كنت أتحمل أقوالهن السخيفة، وأعود إلى المنزل باكية لما أتعرض له من مضايقات..quot;، ورغم كل هذا تعترف قائلة: quot;مازلت إلى اليوم أشتاق إلى الكويت بين الحين والآخر، فهي محل ميلادي المثبت في أوراقي الرسمية إلى اليومquot;.

عبد الحليم طه 25 عاما، يعمل في مجال السياحة، قضى هو الاخر طفولته بالكويت، ويقول عنها: quot;أنا من مواليد الكويت، وقضيت المرحلة الابتدائية وبداية المرحلة المتوسطة هناك، وعدت إلى مصر مع غزو العراق للكويت، ولم أعد إلى الكويت مرة أخرى رغم أن والدي مازال يعمل هناك إلى الآن، وعن نفسي.. فقد طويت صفحة وجودي بالكويت من حياتي بمجرد أن عدت إلى مصر، وأعترف أنني قد واجهت صعوبات بعد عودتي ، خصوصا أثناء محاولتي الاندماج داخل المجتمع المصري، فعندما تكون أحد العائدين من دول الخليج.. يعاملك البعض معاملة مختلفة، فأتذكر أن جيراني كانوا يلقبونني بالكويتي، ولم أكن وحدي من يحمل هذا اللقب، فحينها كنت أجد من يحمل لقب السعودي أو الإماراتي أو...الخ، لمجرد كونهم قضوا فترة من حياتهم في الخليج، وأتذكر أن البعض كان ينظر إلىَّ فور عودتي من الكويت على أني فتى مدلل، ولا أحسن التصرف فيما يتعلق بالأمور الشبابية، بل كان البعض يريد استغلالي ماليا، غير أن دخولي إلى الجامعة كان نقطة تحول كبيرة في حياتي، حيث نجحت في الاندماج أكثر مع الآخرين وحدثت لي بعض التحولات التي أفقدتني الجانب الكويتي من شخصيتي .quot;


يصف الشاب العشريني الذي فضل عدم الكشف عن اسمه فترة إقامته بالسعودية بالجحيم (!)، ويستخدم ألفاظا حادة في وصف تلك المرحلة من حياته، ويقول: quot;كانت فترة غير طبيعية من حياتي ولا أحب حتى أن أتذكرها... كنت قد انتقلت إلى السعودية في التسعينات وأنا في الثانية عشرة من عمري، وطوال فترة إقامتي هناك لم أستطع التأقلم مع أجواء البلاد، بل الأسوأ من هذا أنه لم يسمح لي كمصري أن ألتحق بالمدارس السعودية ، ولم يكن بمقدور والدي تحمل تكلفة المدارس الخاصة، لذا قررت أسرتي أن أقيم أغلب العام في السعودية، وأذهب كي أمتحن المناهج المصرية في نهاية العام دون أن أكون مقيدا بمدرسة... والحياة في السعودية مغلقة إلى حد كبير، على عكس مصر تماما، وأتذكر أنني كنت في شجار دائم مع الأسرة كي أعود إلى مصر، فلم يكن لي أصدقاء في السعودية وكثيرا ما كنت أتعرض لمضايقات إذا ما حاولت أن أقتحم أي نشاط هناك .

ويفجرعن مفاجأة عندما يعلن قائلا: quot;كانت أسوأ ذكرياتي هناك أنني قد تعرضت لمضايقات وتحرشات في الحي الذي كنا نسكن فيه، وقد أصابني هذا الأمر بحالة اكتئاب حاد وقرف شديد، وأصبحت كارها لما حولي هناك، ، ولا أنكر أن كثيرا من عيوب شخصيتي الحالية تعود إلى تلك الفترة المشوهة من حياتي التي اضطرتني إلى زيارة الطبيب النفسي لتخطي هذه المرحلة..quot;.