يوسف اعرض عن هذا

رأيت سيارة التيوتا البيضاء في مرآة سيارتي تسير خلفنا فاخبرته انها تلاحقنا. رايته يضطرب، فقلت له ساراوغها، وقد كنت اعتدت مراوغة مثل تلك السيارات حين كنت اهرّب بعض زملائي ، الذين انقلبوا عليّ في المنفى، في (طريق الشعب) في فترة حصارها وملاحقة محرريها. لا تفعل. قال بعصبية واضاف ان لا فائدة. كان مستسلما ومرتبكا ولكنه لم يكن منهارا. اعدت عليه رغبتي بمراوغة السيارة. لم اكن متاكدا هذه المرة من اني ساضيّعهم كما من قبل. ربما قلت قدراتي او قلت ثقتي بالنهاية السعيدة التي لاتاتي. لكن قدرتي على الاعتداد والتحدي لم تقل او تهن.

ربما فطن السائق وزميله في السيارة التي تطاردنا إلى انشغالنا بحديث سريع وحركات اسرع، فاسرع واجتازنا وهو يامرنا باشارة من يده ان نتوقف. كان ذلك في دوران ساحة الفارس العربي في المنصور، وللمصادفة، وتاكيدا للنمو الدرامي للحدث، سيكون المكان مرة اخرى بعد ايام، مسرحا لحدث اخر لنا نحن الاثنين. حين رايت اشارة السائق كان هناك ثلاثة او اربعة امتار استطيع الافلات من خلالها فاعدت للمرة الاخيرة رغبتي او عرضي بالاحرى عليه لكي نفلت بسرعة خاطفة. حينذاك امسك يدي على مقود السيارة وقال : قف. لافائدة، لنر ماذا يريدون؟

اعتدنا في تلك الايام وقد بقينا وحيدين، انا وهو ، ان ياتي الي بسيارته او اتي اليه بسيارتي وقضينا اياما هكذا لا نعرف ماذا نفعل سوى ان نتحدث وناتي على سيرة الحزب الشيوعي ورحيله ونتذكر عبد الرزاق الصافي وفخري كريم وحميد الخاقاني ،والذين سقطوا في التعذيب او الذين مايزالون رهن الاعتقال، او نتحدث بالشعر عن الشعر او نغني احيانا بصوت شجي شبه مبحوح وحزين اغاني لم تعد تعيننا على التمسك بالامل. كان قاربنا يقترب من قلب العاصفة كل يوم واغانيننا تنفد وكاسنا يترع أكثر وليلنا يطول والاصدقاء والرفاق ينأون ابعد فابعد وتوفيق الخياط يستقبلني بالقبلات ويشد من ازري ويغمرني باصدقاء من العمال الشيوعيين القدامى الذين يشبهون غرفة الانعاش في مستشفى. كانوا هواء يملأ الرئتين حالما يصعب التنفس.
كان حزيران حارا جافا وذا شمس ساطعة. اتفقنا قبل ان نفترق ان امر عليه لنذهب إلى معرض فني في قاعة الرواق في شارع الجندي المجهول. اعتدت احيانا ان ازور الفنانة ليلى العطار فيه. كان يسكن قريبا مني، في المنصور. حين دخلت الشارع الذي يقع فيه المنزل الذي يستأجره، والذي يقع مقابل بدايته مطعم كباب نينوى، انتبهت، كما هي مهمتنا آنذاك وهاجسنا في كل وقت، إلى سيارة تيوتا تقطع المسافة بين بيته وتقاطع الشارع وتعود بسرعة محودة. حين توقفت امام بيته كان هو في (الطارمة) امام الحديقة يشرب القهوة وفنجاني مايزال فارغا بانتظاري:
- اظن ان سيارة مشبوهة تراقبك.
لم اكن اريد اثارة مخاوفه ولكني اخبرته. مالك متوجسا، لن يقدموا على اعتقالنا، نحن كتاب وصحفيون وشعراء. هكذا قال وحثتي على شرب قهوتي. كنت اريد انا الاخر ان اصدقه، فانا، وقد ازداد حذري، كنت قد نسيت الطبع اليومي المعتاد واصبحت انظر إلى نوعين من السيارات المشبوهة: سيارة بيجو بيضاء 404 وسيارة تيوتا كرونا بيضاء، وهما النوعان اللذان يصطادان الشيوعيين يومذاك.
شربت قهوتي ودخنت سيجارتي وكنت انتعل خفا جلديا يناسب الاسترخاء المصطنع وقد اغلقت الجريدة ولم يكن لنا من عمل، كما يناسب عدم المبالاة الضروري الذي اضطررت اليه بعد ان رحل الجميع إلى المنفى ، واخرمن غادرني اثنان من أكثر (الرفاق) برودة ورخاوة: زهير الجزائري وابراهيم احمد اللذان لحسن حظهما فلتا برخاوتيهما التي كان يمكن ان تستفز بداوة رجال الامن ،وبقيت وحيدا سوى منه وحده ايضا. لقد شدنا المصير الواحد كما لم يشد اثنين من قبل.
دعني افلتهم. صرخ لا وتوقفت في اللحظة التي اعاقت سيارة التيوتا سيارتي بمقدمتها وكان سائقها قد اشار إلى شرطي المرور المسلح بمسدس لكي يتقدم ايضا. بقينا في السيارة فيما تقدم سائق السيارة التيوتا ووراءه زميله. توجه اليه مباشرة رغم ان وقفته كانت بجانب شباكي انا وطلب هويته. كانت هوية نقابة المعلمين كونه معلما للغة العربية في ثانوية التجارة المسائية في شارع النضال قرب مقر اتحاد الادباء. ساله متاكدا من اسمه فرد عليه بالايجاب. لم يعر أي التفات اليّ في البداية. كان مشغولا به.
امره : انزل معي.
قبل ان يتهيأ لفتح الباب سالت سائق التيوتا ممتعضا. نعم ، كنت ممتعضا ومنزعجا. وكان ذلك سلاحا طبيعيا لم اتخل عنه وقد ساعدني كثيرا: إلى اين. هل يمكن ان تقول لي من انت؟
سائق التيوتا الذي فوجئ كما يبدو(بتطفلي) كما تصوره، او سخر من سؤالي او من قدرتي على سؤاله نهرني: لاتتدخل.
كأنه اعطاني دفعة جديدة من الامتعاض فقلت انه لايمكن ان اوافق على اختطاف زميل لي من رجال مجهولين. لم بكونا مجهولين ولكني هكذا اردتهما ان يكونا بالنسبة لي. كان هو يحثني على الانطلاق وتركه. نزل ووقف شاحبا قليلا ولكن دون انهيار. كان شئ فيه يقاوم رغم الاستسلام، وكانت روح ما تنازع روحا اخرى. كان يريدني ان اغيب لامرين: ان يخلصني وان اترك روحيه تتصارعان دون ان اراهما.

لامر ما لا ادعيه الان اصررت على ان لا اتحرك. كنت شعرت اني فقدت جزء مني. لم اكن اريد ان يغيب. ومن عالم الغيب استلهمت اساطيري وابطالي وكلكامشي وحسيني وحلاجي وجيفاري وسلام عادلي وصرخت : اين تاخذونه؟ لم اشعر والا ويد سائق التيوتا تسحق يدي على مقود سيارتي وتسترعي انتباهي إلى مسدس على خاصرة تحت قميص مائل إلى اللون الزبدي. لكن صوته هو الذي امرني او توسلني بين الرجاء والحشرجة والتردد ان اذهب.

ذهبت ببطء، واضطررت ان انهي دورة كاملة للساحة فيما كان هو يقبع في سيارة التيوتا. نظرت اليه. كان وجهه وحيدا. وحيدا يذهب إلى مجهول. نزل سائق التيوتا واشر لي متوعدا فيما كنت مصرا كما يبدو على ارتكاب حماقة اللحاق بهم. حين اكملت الدورة الثانية للساحة كانت سيارة التيوتا قد اختفتrsquo;، ووحده شرطي المرور عاد إلى تنظيم السير.
فكرت للحظة ان اذهب باتجاه جسر الخر حيث كان يقع قصر النهاية، وقد شيد قريبا منه مبنى المخابرات الجديد. لاول مرة اشعر اني وحيد تماما،وحيد كما لم اكن من قبل. لقد اخذوا اخر من يشعرني انني اثنين. كما شعرت اني الا حق اعداء اقوى مني واكثر قدرة على الاختفاء انا الذي اكتسبت فيما بعد، بالفطرة والحاجة والمعجزة، القدرة على لبس طاقية اخفاء. كان الطريق طويلا ولا امل في اللحاق بهم. كان الامر حماقة لاطائل منها. لكنها كانت الحل الوحيد لاشباع رغبتي في معرفة ما سيؤول اليه مصيره. استدرت في اول استدارة فرعية على اليسار، وعدت إلى الساحة ونظرت إلى شرطي المرور الذي نسي ما حدث. امعنت السير في الطريق إلى المنصور ومررت بملعب الادارة المحلية المشؤوم. هل حقا انني كنت اطارد سيارة الامن بعد ان كانت تطاردنا؟كنت اطاردها باصرار وانا اتحدث مع نفسي واضغط على دواسة البنزين لكي اسرع أكثر فاكثر. كان عصر حربي مع ذاتي لكي تنتصر ولكي لاتنكسر وكانت مستعدة كما اتضح لكي تصمد وتتحدى في وحدتها وتيهها الذي تحولت اليه المدينة ووحشتها التي تركها لها الاصدقاء بعد ان رحلوا واحدا بعد الاخر.

حين اجتزت ملعب الادارة المحلية في حزيران عام 1979 ، الذي كان سجنا للشيوعيين ولاخي جمعة، بعد انقلاب 8 شباط 1963 والذي ضربني على مداخله جلاوزة الجلاد قتيبة الالوسي وهو ينزل من سيارته الجيب التي لايصلح غيرها لنقل جسمه البالغ مائة وخمسين كيلوغراما، كنت قد ايقنت اني اضعت اثر سيارة التيوتا وانه ضاع مني إلى الابد.
بعد عدة اشهر كنت امر في الطريق ذاته، وحدي بسيارتي. كان الوقت خريفا، وكنت اعرف انه قد خرج من الاعتقال ولكني لم ازره اذ كنت ما ازال مطاردا رغم اني كنت انا الاخر مستسلما لقدر الاعتقال ولكني لم اكن مستسلما. كنت قد قررت ان الاعتقال ممكن، ولكن ماهو ليس ممكنا ان استسلم. هكذا مضت سيارتي في طريق ملعب الادارة المحلية المشؤوم واذا بسيارة فيات بيضاء تسير بمحاذاتي. التفت على صوت منبه سيارة. انه هو. سبقني بسرعة وتوقف فحدت عن الطريق وتوقفت. الذين تسنى لهم مشاهدة الموقف ربما مطوا شفاههم ومضوا، وربما تامل بعضهم وحزن وقدر ما جرى. ركضنا إلى بعضنا كاننا نزلنا من كوكبين. وتعانقنا فبكى وبكى وسالت دموعي انا الذي لم ابك من زمن وكنت استعصي على البكاء. نشج مثل طفل على صدر امه فاخذته ،اضمه أكثر فاكثر. الذين تسنى لهم رؤية المشهد ربما مطوا شفاههم ومضوا، وربما بكى البعض منهم. مضت دقائق كأن فضيحة قد حدثت على طريق ملعب الادارة المحلية المشؤوم( اثناء بحثي لفيلم عن اسرار الحرب، في خريف 2003 ،اكتشفت عن طريق احد مرافقي صدام ان عدي، مع واحد من مرافقيه، كان يقضي ليله خلال الحرب في مبنى الاخوان المسلمين المجاور لملعب الادارة المحلية في المنصور). بكى من جديد واتفقنا على اللقاء في بيته ليلا.
حدثني عن تعذيبه. لم يحترموه. كان منكسرا. تبادلنا وجهات نظرنا حول توقعاته بعدم اعتقالنا، فقال انهم صرخوا يسائق التيوتا حين عرفوا مني انك كنت معي. قالوا له كيف تترك مطلوبا آخر؟ فقال لهم انكم لم تقولوا اعتقل من هو معه، بل اعتقله. حدثته عن وضعي وكيفية اختفائي الطويل وتنقالاتي ليلا ونهارا من مكان إلى آخر. قال انهم سالوني عنك ايضا. فاخبرته ان الدكتور صفاء الحافظ ارسل لي خبرا بضرورة الغياب عن الانظار مهما كلف الامر لانهم يبحثون عني فقد سالوه عني في اعتقاله ايضا. كان الفصل خريفا والبرد خفيفا والليل يبدأ رحلته الطويلة. تحدثنا كثيرا واعلمني عن معرفته بجهودي اثر اعتقاله فابديت ضعفي وقلة حيلتي.

بعد اعتقاله ووصولي إلى ملعب الادارة المحلية تاكدت انه غاب. عدت القهقرى إلى شارع قصر النهاية للمرة الاخيرة ولكن بروخ يائسة من العثور عليه. وصلت حتى ساحة النسور ودخلت الطريق المؤدي إلى ابي غريب باتجاه حي المأمون. كانت دمعتان قد انحدرتا دون ان ادري. لقد غاب. لقد اخذوه مني. استدرت بعد المامون يمينا ودخلت من جديد ،في شارع 14 رمضان واستدرت نحو شارع سباق الخيل وكان بيته قد وقع الان على يساري. لم اتوقف. قررت ان اخبر احدا ما. ذهبت إلى مبنى مجلة(مجلتي والمزمار) للاطفال وسالت عن ابنة شفيق الكمالي. اخبرتها انه اعتقل وعليها ان تخبر اباها ليتصرف لانني لا استطيع الذهاب اليه في مبنى مجلة(آفاق عربية) البعيد ولم اكن اريد ان اظهر لديه ايضا. خرجت من المبنى بعد ان اخبرتني ان اباها مسافر، لاتذكر من يحب ان اخبرهم لينتشر الخبر. هذا كل ما استطيع ان افعله ، وهو ان اجعل اعتقاله خبرا متداولا. توقفت عند مبنى الف باء وجريدة الجمهورية وصعدت إلى المصور جاسم الزبيدي الذي فوجئ بي: امجنون انت لتاتي إلى هنا. كان جاسم قد اعتقل ليومين في نيسان 1979 وخرج واتصل بي لاوصل خبره إلى الحزب الشيوعي. كان قد عاد إلى الحزب متاخرا. لقد اعتقلوه. اخبر الاخرين. اتجهت بعد ذلك إلى شركة في شارع السعدون مقابل جريدة طريق الشعب المغلقة، ربما كانت شركة التامين اذا لم تخني الذاكرة او خانتني. كانت تعمل هناك القاصة مي مظفر. وجدت عندها زوجها الفنان رافع الناصري والفنان ضياء العزاوي الذي كان في زيارة لبغداد من لندن، اصدقاءه ايضا. لقد اعتقلوه. الصحفية سلوى زكو ايضا جاءت بعد قليل. عرفت الخبر وطلبت منها ايصاله إلى من تعرف. لم يبق سرا خبر خطفه. بعد ساعتين كان الخبر قد وصل إلى جمعية الفنانين التشكيليين حيث كان هناك الفنان اسماعيل فتاح الترك، صديقه ايضا ورئيس الجمعية.

في المساء اخبرني اخي انهم ، في جمعية الفنانين، كانوا يتداولون خبر اعتقاله وخطفه من سيارتي، كما اخبره اخ الفنان الترك الذي كان معلما معه في المدرسة.
بعد اعتقاله قررت ان اختفي.
اتنقلت وتنقلوا ورائي في مطاردة لعبت فيها الصدف والحظوظ والترقب الحذر والخبرة التي اكتسبت واخطاء القرويين في المدينة، حيث كان اغلب رجال الامن يرتكبون هذه الاخطاء لحسن الحظ ويعتمدون على الصدفة والآنيّة، دورها لالتقي به في شارع ملعب الادارة المحلية.
اتصل بي الحزب الشيوعي من جديد عن طريق نجار لم اكن اتذكره في خريف 1979. تطير يوسف من الاتصال وحذرني ووبخني ثم قام فصرخ في وجهي : تريد ان يقتلوك! وهوى علي مثل جذع يابس وظل يبكي. ماذا يريدون منك؟ انت لست حزبيا، انهم يستغلونك. ظل يولول وانا افهم اه لايريد لي مصيرا بائسا أكثر مما عشناه خلال الاشهر الماضية. بعد اسبوعين ذهبت اليه فاخبرني ان شفيق الكمالي كان في زيارته قبل يومين وانه طلب اليه ان يخذرني من نواياهم، لكني كنت قد جئت لاعرض عليه رغبة الشيوعيين في الخارج بتفسيره إلى بيروت عبر جواز مزور. كاني انزلت على راسه صاعقة. صرخ لا وقال لاتتصل باحد ارجوك. ابق راسك على كتفيك. لاتكن احمق. الان تذكروني! بعد ماذا؟ ليذهبوا إلى الجحيم. كنت اناقشه والح عليه ولم اتركه يقرر الرفض إلى النهاية. لكن سيل الرغاء الذي تحول إلى حشرجة وانين وبكاء داخلي وتوسله ان اقطع صلتي باي احد وانهم قد يكونوا مخترقين او يكون الامر كله مرتبا من قبل اجهزة الامن جعلني اقول له ان العرض جاء من فخري كريم من بيروت عبر ام زهير الجزائري التي كانت في زيارة إلى لبنان.
لماذا لايخرجوك انت؟ لماذا. انهم اوغاد. انقذوا امفسهم ةتركونا. لا لن اعطي صورتين ولن اغادر وليذهبوا إلى الجحيم. كل شئ يقدمونه لنا يقدمونه متاخرا. انهم مشغولون بانفسهم واحبابهم.
اخبرني ان شفيق الكمالي طلب منه ان يرتب موعدا معي فتواعدنا يزم الاربعاء. ربما كان ذلك اليوم الذي التقيته يوم اثنين لاني قلت له بعد يومين ، يوم الاربعاء والتقيت الكمالي الذي اخبرني ان هناك اصرارا على تبعيثي من قبل صدام نفسه بعد ان استعرضت الاسماء الثقافية التي يجب ان تبعث في اجتماع مكتب الاعلام والثقافة البعثي. كان شفيق صديقا شخصيا ايضا ابتسمت وقلت له انت تعرف ان ذلك لن يحصل واني لن اصبح بعثيا، وبدلا عن ذلك انت تعرف اني كنت اطالب عن طريقك كونك نائبا لرئيس اتحاد الادباء برفع اسمي من قائمة منع السفر. ابتسم هو الاخر بخبث وقال تريد ان تهرب؟ لا اظن انك ستلحق بذلك. وحين التقيته في بيروت بعد ثلاثة اشهر في مؤتمر الكتاب الفلسطينيين في ممر الفندق الذي عقد فيه المؤتمر ابتسم وقال لقد فعلتها، ها ، وتشتمنا هنا في بيروت!
حين كنت اغادر الاجتماع اوصلني إلى الباب وقال لي بهمس: هل تفكر حقا بالهروب. نعم وانا اعمل على ذلك بسرعة. هناك امل لا اريد ان احدثك عنه الان. لن اجعلهم يصطادوني. وخرجت.
في عام 1969 كنت اجلس على مسرح كلية الاداب، في قاعة الحصري ، مع شعراء آخرين في المهرجان الشعري السنوي للكلية، حين دخل فجأة وفد مهرجان الشعر العربي ومؤتمر اتحاد الادباء العرب المعقود في العراق آنذاك. دخل ادونيس واحمد عبد المعطي حجازي ومحمد الفيتوري وأخرون ومعهم شاعر صعد بعد حجازي الذي قرأ قصيدة ، فقرأ الشاعر قصيدته عن السياب(انتظريني عند تخوم البحر).
كان مهرجان كلية الاداب قد اكتسب شهرة لاتضاهيها، كما يبدو، حتى شهرة مؤتمر الادباء العرب الذي جاء لزيارة مهرجاننا نحن الشعراء الذين كنا مانزال طلبة رغم اننا ننشر في الصحافة الادبية ونعمل في الصحافة أنذاك، على الاقل كنت انا كذلك من بين ألاخرين.
كان الشاعر قد خرج من السجن. ، سجن نقرة السلمان الشهير، سجن الشيوعيين منذ الاربعينات، ومدرسة الادب التي خرجت كثيرين. كان الشاعر من الموصل. مسيحي من اعضاء الحزب الشيوعي الذي اعتقلوا بعد انقلاب شباط 1963. في السجن، اصبح من القيادة المركزية في الانشقاق المعروف. مدرس للغة العربية وشبه رسام لانه لم يحترف الرسم. واهداني بعد ذلك بسنوات احدى لوحاته التي كان يرسمها على الفلين الابيض الخفيف (olysterene foam)

اصبحنا انا ويوسف الصائغ صديقين حالا. ما قوى الصداقة انه بقي معي سنة طالبا للماجستير في نفس الكلية. وحين تروجت صرنا جيران تقريبا. كان يرتكب حماقات مرحة احيانا. كان ياتي في منتصف الليل بسيارته بعد ان يكون قد شرب ويفتح اضواء السيارة ويبدأ بدفع باب البيت بمقدمة السيارة واذا لم اهرع اليه سريعا يكون المنبه قد انطلق فاقوم مسرعا خوفا من حمقاته المرحة هذه امام الجيران. كنا نذهب سوية إلى اتحاد الادباء مع حميد الخاقاني الذي كان يثير اعصابه بتاخره الدائم عن الموعد المضروب فتبدأ تعليقات يوسف الساخرة عند الباب. في اليوم الذي عقد فيه المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي عام 1976 خرجنا ثلاثتنا من مبنى طريق الشعب إلى مقهى قريب في ساحة الاندلس. جلسنا نتحدث وكان يوسف شديدا على الحزب يبدي حرصه ونقده في وقت واحد. انضم إلى الحزب متاخرا بعد ذلك. كان يحدثني عن مسؤولته الحزبية ويخبرني عن عدم التقدم الذي يلمسه في اساليب التنظيم لكنه كان سعيدا بعودته. كان قليلا على يسار الحزب محاولا التوفيق بين ماضيه في تنظيم القيادة المركزية الثوري المسلح وبين حزب في جبهة سياسية مع حزب البعث الحاكم تقوده قيادة انتهازية أكثر نفوذا من قيادته في اللجنة المركزية. فالجبهويون الذين مالوا حتى النهاية، أي قبيل سقوط صدام وظلوا في خدمته في المنظمات الدولية واستوزر قسم منهم في النظام الذي تلا سقوط صدام، كانوا ومايزالون يستخدمون الحزب الشيوعي كما يستخدم اقطاعي ما عبيده في ارضه. انه ملكهم الشخصي حتى وهم خارج قيادته مستفيدين من تجمد الوعي وهبوطه إلى الصفر كما في محرار متجمد. كانت تلك مشكلة يوسف ايضا.

آخر مرة رايته فيها كانت بعد العاشرة من مساء يوم الاحد حيث غادرت في الفجر إلى المنفى المستمر حتى الان. قبلني وقال ستتركني ولكن انج بجلدك. هل ستذهب اليهم؟ لا تفعل. حين وصلت بيرون كان فخري كريم حريصا على السؤال عنه ومعرفة اخباره. حدثتهم عنه. في عام 1983 كنت في هنغاريا حين اخبرني شيوعيون عن قصيدة الحب الفاشلة التي كتبها يوسف في مجلة الدستور وادان فيها تجربته الشيوعية. طلب بعضهم ان ارد عليه فرفضت. بعضهم يدفعون به إلى الهاوية أكثر فاكثر ولايتألمون كما تالم.
وضع يوسف نفسه في ماكنة السلطة واصبح مديرا عاما للسينما والمسرح واختتم حياته بمقابلة يصر فيها على تمجيد هاويته لكي يعوض احساسه بالمصير الذي آل اليه. ولا اريد ان اطرح اسئلة بدون جواب. فواجبنا ليس طرح الاسئلة فحسب وانما البحث عن اجوبة. ضعف يوسف امام جلاديه ووقع على اعترافاته كما كتب قصيدته(اعترافات مالك بن الريب) التي اصبحت عنوان المجموعة التي طبعتها دار الاداب عام 1978 كما اتذكر ووضع على غلافها الاخير الصورة التي التقطتها له وهو يدخن. لم يكن ضحية قراره الشخصي. كان ضحية الاستقطابات الحادة والمتداخلة في نفس الوقت. ضحية التناقض بين المحتوى النظري والشكل السياسي. كان يوسف ضحية عدم الوضوح وضحية التقارب بين الاسود والابيض دون مساحة من الرمادي بين الاثنين. لقد رايته في الليلة التي التقينا فيها بعد خروجه من السجن في شارع ملعب الادارة المحلية المشؤوم وكان يجمع التناقض بين الشعور بالذنب والشعور بالتحرر من الالتزام الطوعي الذي خانه اخيرا. كان ضحية الاستخفاف بحياة الاخرين من قبل حزب اخطأت سياسته في التقدير والسلوك ومن قبل حزب حاكم يعتبر اسالة دماء ضحاياه تطهيرا مقدسا وقربانا لصنم الوهم الايديولوجي. لقد اخطأ يوسف وسألته ان يعرض عن ذلك، لكنه مضى وقد انتظرت ان اراه حيث كان يرفض من اكلفهم المرور عليه وايصال سلامي اليه او تزيدي برقم هاتفه. وكنت اخاف ان يرحل وقد سمعت بمرضه وعماه وضعفه وادمانه. لقد تجنبوه بعد ذلك ايضا. ورحل دون ان اراه. لقد سامحوا جلاديه ولم يسامحوه.
اذا كان يوسف قد اصبح بعثيا مرة فقد اصبح الحزب بعثيا مرتين.

وفاة الشاعر والمسرحي العراقي يوسف الصائغ

رشا فاضل: يوسف الصائغ.. مرحى لك رحيلك عن مقبرتنا الكبيره!

باسم النبريص: يوسف الصائغ: المظلوم مرتين!