تطمح مختلف المباني المشيدة الى تكوين حكاياتها الخاصة، وتزيد المباني المميّزة معماريا ً الى تلك الحكايات اساطير مضافة، تتداخل فيها متعة التفصيل، مع التشويق المـتأسس عن مجرى الاحداث. بيد أن بامكان مجرد الكلام وحده، عن محض "مواضيع" لبُنى متخيلة، محفورة في مكان ما من "سجل" الذاكرة المستعادة، بامكانه ان يخلق، هو الاخر، قصصه الجذابة، وبمقدوره ان يثير انتباهنا " بسردية " تاريخانية، عن سيرورة رموز ذلك الكـلام المحكي و تداعيـاته!. واذ قـّدر لتكوينات المبنى المميز معماريا ً ان ينزع الى تجسيد شكل " ثيمة " شيقة، ذات نفس ميثولوجي؛ فان انجاز عمارة ذلك المبنى، سيكون لا محالة بمنزلة حدث مهم وراسخ في سفر كنوز البيئة المبنية. وهذا هو بالذات، ماتم تحقيقه في مشروع " مكتبة الاسكندرية الجديدة " بمصر. فاقتران التصميم المعبر مع الفكرة الاسطورية لموضوعة " الحدث " القديم؛ هو الذي يمنح عمارة " مكتبة الاسكندرية " الجديدة تلك الاهمية الفائقة للحيّز المصمم؛ ويجعلنا نولي اهتماما عاليا الى مكان، أو الى " روح " مكان الموقع المصطفى؛ كما ان ذلك الاقتران هو، الذي ايضا، يصنع من شأن العمارة المتحققة منجزا مثيرا، مقارنة بما هو حاضر في المشهد المعماري العالمي الراهن. وبافتتاح المكتبة ابوابها للجمهور في 25 نيسان/ ابريل 2002، واجراء مراسيم افتتاحها رسميا ً في 16 تشرين الاول / أكتوبر من نفس العام، تكون " مكتبة الاسكندرية " قد اعلنت عن تأسيس فصول " لقصة " ممتعة، تشي تفاصيلها الى استثنائية نادرة لتسلسل فعاليات: المشاركة، والفوز، والتنفيذ لفكرة معمارية ذكية، تميزت ايضا ً، بكونها جريئة!.

شغل موضوع "مكتبة الاسكندرية" القديمة، الناس لقرون، منذ انشائها من قبل "البطالمة" بالقرن الثالث قبل الميلاد، ولحين الوقت الحاضر. ومرد هذا "الانشغال" ليس فقط، كونها مثلت حيزا ً لخزين الذاكرة المسجلة، والذي انتهى دوره فعليا ً وتراجيديا ً غب حريقها الاسطوري "الغامض"؛ ولكن ايضا ً بسبب خصوصية الافكار، وطبيعة الامال التى اقترنت بحدث تأسيس المكتبة القديمة؛ تلك الافكار والامال، التى مافتئت تثير لدينا تعاطفا ً وانحيازاً كبيرين لجهة ما ارستـه " المكتبة " من قيم أمست تقاليد موروثة، سعت بها الى تكريس "روح العالمية، الملتزمة بالتسامح، والتنوع، والانفتاح على ثقافات الاخر".
عرفت " مكتبة الاسكندرية القديمة " بهذا الاسم، كونها انشئت في مدينة الاسكندرية في اعلى دلتا النيل، المطلة على البحر. المدينة التى اخذت اسمها من اسم القائد اليوناني القديم " الاسكندر العظيم "، الذي فتح مصر عام 332 ق. ب.، ورغم ان الاسكندر،هو الذي شخصيا ً، امر بتأسيس هذه المدينة بعد عام من فتح مصر lt;اي في 331 ق. ب.gt;، فانه لم يرها مطلقا، اذ سرعان ما توجه بعد التأسيس بحملته العسكرية نحو الشرق، لكنه لم يلبث ان توفي في بابل بارض مابين النهرين سنة 323 ق. ب. ونقل جثمانه بعدئذٍ اليها ليدفن في المدينة التى ارتبط اسمها باسمه، وكان ذلك اثناء حكم بطليموس الثاني ( 285-246 ق. ب. ).
ظلت الاسكندرية عاصمة لمصر لمدة حوالي عشرة قرون تقريبا ً، الى ان نقل العرب العاصمة نحو الجنوب، عندما " مصّروا " مدينة الفسطاط، بالقرب من " ممفيس " عاصمة مصر الفرعونية، وكان ذلك عندما فتحت قواتهم الاراضي المصرية في النصف الاول من القرن السابع الميلادي. وطيلة قرون من تاريخها العريق، حافظت الاسكندرية على نسيج سكاني اتسم بميزة التعدد الاثني والثقافي. ولاحظ احد الجغرافيين اليونانيين القدماء، بان الاسكندرية قد جمعت بين مميزات الحضارتين النهرية والبحرية، وعاش فيها، بالاضافة الى المصريين الذين شكلوا السواد الاعظم من سكانها، الاغريق، والرومان والسوريون، والاقوام القادمة من بلاد وادي الرافدين كما من بلاد فارس وغيرها من البلدان البعيدة التى استقرت في المدينة وساهمت في انشطتها التجارية، كما اغنت الجوانب الثقافية والعلمية فيها. لقد كانت، حقا ً، بمثابة نقطة التقاء اساسية لسكان وثقافات ثلاثة قارات هي: افريقيا، وآسيا واوروبا.
اعتبرت " مكتبة الاسكندرية القديمة "، بالاضافة الى مؤسسة مبنى" الموزيون Mousein " lt; وهي كلمة اغريقية تعني معبد لالهة الفنون والعلوم gt;، اهم ما تركته الاسرة البطليموسية وما اورثته للاجيال اللاحقة. وقد ساهم كلا المبنيين في تعزيزمجد الاسكندرية العلمي والثقافي، فقد كانا مكانين مثاليين لالتقاء اساطين الفكر في العالم القديم، وكذلك رجال الفلسفة والشعراء. ولم تشتهر المكتبة القديمة بكونها مكانا ً لجمع المخطوطات والبرديات، التى جمعت منها حوالي 000 700 بردية، وهي اكبرتغطية للمواد المكتوبة في ذلك العصر، وانما كانت ايضا مكانا لنقاش حر ومثمر لمواضيع وقضايا متنوعة، ولدتها عقول خيال اولئك العلماء. وهي بهذا المعنى، ووفق كلمات اسماعيل سراج الدين، كانت " ترمز الى احد اكبر طموحات المغامرات الفكرية في تاريخ الانسانية، وأكثرها إثارة ". لقد عمل في اروقة المكتبة القديمة خيرة علماء ذلك العصر، كما الف العديد منهم مؤلفاتهم التى ساهمت بجد في تقدم مسار الانسانية؛ ففيها على سبيل المثال، عمل وألف " اريسطارخوس Aristarchus مؤلفاته الفلكية، التى اشارات لاول مرة بان الارض تدور حول الشمس، وهذا قبل 1800 سنة من مقولات كوبيرنيكوس!. وفيها كتب " اقليدس Euclid كتابه lt; مبادئ الهندسة المسطحة gt;، والتى لاتزال طروحاته تمتلك صدقية عاليه، كما ان " ارخميدس Archimedes " الذي منح البشرية صيغ قوانينه المعروفة والخاصة في توازن السوائل، عمل هو الاخر في اروقة المكتبة القديمة.

عندما تقرر اعادة بناء مبنى " مكتبة الاسكندرية "، تلبية لفكرة طموحة، طرحت في منتصف السبعينات، وما لبثت ان تحققت تصميميا ً في نهاية الثمانينات، ارتؤي ان يكون المنهاج التصميمي للمكتبة الجديدة، متضمنا ً افكار لمقاربات تنشد الى استرجاع قيم وروح سابقتها، التى شيدت قبل اكثر من نيف وثلاثة وعشرين قرنا ً، والمتمثلة في قيم الانفتاح والحوار، والعقلانية التى من خلالها يتم تشجيع ضروب البحث والاستكشاف.
ويحدد "اسماعيل سراج الدين " – وهو مدير المكتبة الجديدة، واحد النقاد المعماريين العرب المعروفين، اربعة اهداف يراها اساسية تعمل كاعتبارات لتشكيل الخلفية المضمونية للحل التصميمي للمبنى الجديد، وهي ان تكون المكتبة:
•نافذة يطل منها العالم على مصر؛
•نافذة تطل منها مصر على حوض البحر المتوسط، وعلى العلم ككل؛
•مركز رائد للسيطرة على الثورة الرقمية؛
•مركز مزدهر للتعلم وللتناظر وقطب حوار فيما بين الثقافات والحضارات.

يعيد فوز المكتب المعماري " سنوهيتا Snøhetta " النرويجي في المباراة الدولية التى نظمها lt; أتحاد المعماريين الدولي gt; بالاشتراك مع منظمة " اليونسكو "، وبطلب من الحكومة المصرية، لاعداد تصاميم مبنى " مكتبة الاسكندرية " الجديدة، يعيد الى الذاكرة الطفرات المثيرة، والاختراقات المفاجئة، التى شهدها سجل المبارات الدولية السابقة، مثل فوز "ايفان ليانيدوف"الروسي " في تصميمه لـ lt; معهد لينين gt; عام 1925، او فوز يورن اوتزون " الدانمركي مصمم " مبنى اوبرا سدني " عام 1957، او نجاح " رنزو بيانو مع ريجارد روجيرز" في تصاميمهما lt; مركز بومبيدو للثقافة بباريس gt; عام 1971، او الفوز المدوي لـ " زهاء حديد " لتصميم lt; نادي على قمة جبل gt; في هونغ كونغ عام 1981. فمعاريو " مكتب سنوهيتا ´الثلاث الرئيسيون، كانوا، كما سابقيهم في مجال " الطفرات التاريخية "، شبابا مغمورين، وغير معروفين لدى الاوساط المعمارية العالمية. لكن الفكرة التصميمية التى اتوا بها لمشروع " مكتبة الاسكندرية "، وجرأتها، و " تماميـمية " تطابقها المثير مع مفردات المنهاج التصميمي، فضلا عن " فورماتها" الشكلية غير المسبوقة، في المباراة التى نظمت عام 1989، والتى اشترك فيها حوالي( 700 ) مشروع، من( 52 ) بلدا ً؛ كانت لدرجة مقنعة وموفقة وذكية.. وملائمة ايضا ً، بحيث ان لجنة التحكيم المتكونة من معماريين عالميين مرموقين، لم تبذل كثير عناء في تحديد اسم " الفائز الاول " بتلك المباراة الدولية المهمة.
بعد اعلان نتائج المسابقة، اتجهت الانظار نحو " اوسلو "، عاصمة النرويج، حيث مقر المكتب المعماري، الحائز على المرتبة الاولي في تلك المباراة الدولية. وفجأة، وبسرعة مذهلة امست اسماء المعماريين النمساوي " كريستوف كابلار Christoph Kapeller " والنرويجي " كيتيل تورسين Kjetil Thorsen " و الامريكي " كريغ ديكيرز Craig Dykers " مشاركي ومصممي مكتب " سنوهيتا " المعماري – امست اسمائهم مشهورة في الصحافة المتخصصة، ومعروفة لدى اوساط مهنـة عالـمية. وتبين، لاحقا، بانهم نظموا فريقهم التصميمي على عجل في مدينة " لوس – انجليس " بالولايات المتحدة – مقر سكن وعمل اثنين منهم، وقاموا بتأجير شقة في عمارة منعزلة، في تلك المدينة المطلة على المحيط الباسفيكي، هي الارخص التى بمقدورهم تأجيرها، لتكون بمثابة " استديو تصميمي ". وبعد شهرين من العمل المكثف والجدي، وبعد ان قاموا بعدة زيارات بحثية الى الصحراء خارج مدينة " لوس – انجليس "؛ ارسلوا تصاميمهم باسم مكتب " سنوهيتا " الاوسلوي، حيث كان زميلهم " تورسين " قد اسس سابقا ً هناك، في العاصمة النرويجية، مكتبا متواضعا ً بهذا الاسم، تيمناً باسم lt; قمة جبل gt;، يقع في شمال النرويج.
تضمن المنهاج المحتوياتي لمبنى الاسكندرية الجديدة، فضاءات متنوعة، كفيلة بتنظيم وتخديم الاهداف التى من اجلها تم ّ الشروع ببناء " مكتبة الاسكندرية "، واعادة افكار وقيم ما اورثه ذلك " الحلم " الذي ارتبط بتأسيس مكتبة الاسكندرية القديمة. من هنا ينبغي فهم تنوع محتوايات المكتبة، وادراك رسالتها كونها تخرج عن نطاق مفهوم " مكتبة عادية "، لتضحى اكثر من كونها مكتبة بكثير، انها بجد " مجمع ثقافة متشعب " تشمل على ما يلي:
•خزين من الكتب يصل سعته ما بين 4 و8 ملايين مجلد؛
•مركز اتصال بالانتيرنيت؛
•ثلاثة متاحف؛
•خمس مؤسسات بحوث؛
•قبة فلكية؛
•اربع قاعات عرض لوحات فنية؛
•مركز مؤتمرات يسع 3000 شخص.
حاول التصميم المقترح من مكتب " سنوهيتا "، ان يؤسس له مقاربة تصميمية تحرص في معالجاتها الفضائية الى تجميع مكثف لمجمل الانشطة المتشابهة لمتطلبات المبنى في احياز محددة، وتفريقها عن الاحياز الاخرى ذات الوظائف المتباينة؛ مع الحرص الشديد على ان يكون معظم تلك الفضاءات تحت غطاء مشترك، يكون اساس التصميم و " ضربته " التكوينية القوية. ولهذا فان الحل التكويني المقدم من مكتب " سنوهيتا " والخاص بمشروع " مكتبة الاسكنرية " الجديدة، اشتمل على مفردة اساسية لكتلة اسطوانية ذات قطع مائل، وفيها تتجمع مختلف فعاليات المشروع، مع مبنى مرصد فلكي، موقع خارج الكتلة الاساسية، ومنفصل عنها. وثمة مركز لقاعات اجتماع، موجود اصلا ً في الموقع، شيد في سنة 1982، واستخدمته الجامعة العربية كثيرا لعقد مؤتمراتها، تم ربطه فضائيا ً مع كتلتي المشروع الاخرتين، اللتان جرى وصلهما بقنطرة مصنوعة من الفولاذ والزجاج، تخترق اسطوانة الكتلة الرئيسية من جانبها، لتعبر الى الجهة الجنوبية من موقع المشروع، نحو مجمع جامعة الاسكندرية. وهذه القنطرة الخفيفة والشفيفة، قدر لها ان تربط مكونات المشروع جميعا ً ربطا ً فضائيا ً محكما ً يزيده تأثيرا ً نوعية الوجود الفيزياوي لممر القنطرة المسطح، ومؤشرات مساندها الفرتكالية الدقيقة.
تم " نشر " مكونات المشروع جميعا ً في موقع مكشوف، اتسم على حضور بين ّ على فضاءات خالية، بضمنها ساحة مكشوفة، موقعة في الجانب الغربي من مبنى المكتبة الرئيس، دعيت بـ " ميدان الحضارات "، ويؤدي وجود تلك الفضاءات المكشوفة على حصر التركيز البصري وتوجيهه نحو كتلة المشروع الاساسية، بغية تبيان اهميتها التكوينية. كما وقع الاختيار لان يكون مكان المكتبة القديم موقعا ً لانشاء المكتبة الجديدة، وبهذا القرار فثمة وصل تاريخي يربط المبنيين، الامر الذي أضاف بعدا رمزيا آخرا الى أهمية الموقع المختار، ومنحه قيمة اثارية مفعمة بمتعة دراما " الحدث " التاريخي!.
سعى مصممو مكتبة الاسكندرية الجديدة، وكما اشير سابقا ً، ان تكون مجمل الانشطة المتنوعة لها، ضمن مجال مفردة تصميمية اساسية، وهذه المفردة عبارة عن شكل دائري بسيط، يصل قطره الى lt; 160 gt; مترا ً، ذات سقف منحدر باتجاه البحر، اي باتجاه الشمال. وتتوزع فضاءات المكتبة المتنوعة داخل هذه الهيئة الاسطوانية، التى تشمل عدة مستويات بعمق 15.8 مترا تحت الارض، وثمة مستويات اخرى فوقها بارتفاع 37 مترا ً.
تشكل القاعة الرئيسية فضاءا مفتوحا ً موحدا ً بسبعة مستويات على شكل شرفات. ويقع قسم المطالعة فيها بحافة كل شرفة، وبجانبه مباشرةً،رفوف الكتب بنظام استعارة مفتوح. ويعطي هذا الاسلوب في تخطيط وتصميم المكتبات لقارئ المكتبة القدرة على استخدام سريع للكتب، كما يمنحه امكانية توليد فكرة متكاملة عن مكان موقعه في القاعة الفسيحة.
تؤمن مواضيع مستويات المكتبة السبعة داخل الشكل الاسطواني، لزائر المكتبة، الاطلاع على صنوف المعرفة المتنوعة؛ وتبدأ من المستوى الاول الواقع في طابق التسوية الرابع، حيث نجد ما نسميه " جذور المعرفة "، وهي الفلسفة والتاريخ والجغرافيا..؛ ثم المستوى الثاني، / طابق التسوية الثالث والمخصص للاداب والفنون، وفي المستوى الثالث – طابق التسوية الثاني، الفنون والثقافة، وفي المستوى الرابع – التسوية الاول: المراجع العامة والمعارض؛ وتوجد ايضا هنا مكتبة ايداع مطبوعات الامم المتحدة بالاضافة الى العديد من المعارض ومتحفين هما الاثار والمخطوطات، اما المتحف الثالث والخاص بتاريخ العلوم فيقع اسفل القبة السماوية؛ وفي المستوى الخامس – عند مدخل المكتبة من جهة ميدان الحضارات، فهناك أرشيف الانترنت، وعلم الاجتماع والقانون؛ وخصص المستوى السادس الى العلوم الطبيعية، وفي هذا المستوى، وعلى الناحية الاخرى من المدخل الرئيسي، يوجد مدخل المراكز البحثية، والمكتبات المتخصصة للنشء والطفل، وقاعة مخصصة لجمعيات اصدقاء المكتبة حول العالم؛ اما المستوى السابع فهو مخصص للتقنيات الحديثة. وفوق تلك المستويات السبعة، توجد قاعتان للندوات متصلة بالجزء الاداري والبحثي بالمكتبة من خلال قنطرتين معلقتين.
عندما يشاهد المرء " القرص " المتسع، المائل، الذي يبدو وكأنه " ينهض " من باطن الارض مباشرة، يحسب ان ثمة وظائف متباينة " تجري " داخله. فالفضاء الهائل الفسيح، الذي يخلقه ذلك القرص " المُـثقب "، الذي يصل قطره الى نحو 160 مترا ً؛ لابد وان يكون متنوعا ً ومتعددا ً في آن. وهذه الرؤيا التى يستحضرها مشاهد سقف مبنى المكتبة الجديدة، هي في الواقع انعكاس لسياق طبائع الابنية الاسلامية العظمى، ومجاراة له؛ ذلك السياق التصميمي المعتاد والمتعارف عليه في " ادبيات " البيئة المبنية المحلية؛ اذ أن من " المألوفية " بمكان، اللجوء تكوينيا ًًًً الى ممارسة توظيف اغطية موحدة ومتشابة لفعاليات وظائفية متنوعة، الامر الذي نجم عنه ظهور وبروز قيمة تصميمية طبعت تكوينات المباني الاسلامية بطابع خاص؛ بمعنى اخر، ان " الشكل " هنا، lt; لا gt; يتبـع " المضمون "؛ بل ان القيمة التصميمية المرتجاة،في مثل هذه البيئات، والشائعة ايضا ً، هي اقرب لاستيلاد احساس بثبوتية " الفورم " المختلق مع تنوع وظائف الاحيازالمصممة. ويتوق معمار مكتبة الاسكندرية الجديدة في لجوئه لهذا التوظيف الموحد للسقف، شأنه شأن معماريين عالميين مرموقين اشتغلوا كثيرا على هذه " الثيمة "، وشاهدنا، في السابق، محاولات تصميمية مبدعة لهم كتصميم مقترح " لقاعة اجتماعات كبرى " في شيكاغو ( 1953) للمعمار" ميس فان دير رو ّ " lt; والتى لم تنفذ gt;، لكن فكرتها التصميمية سرعان ما تحققت في مبنى متحف الفنون ببرلين، المانيا ( 1962-8 ) للمعمار ذاته؛ وكذلك مشروع " لو كوربوزيه " لمبنى البرلمان الاقليمي في مدينة " جانديكار " بالهند، اوائل الخمسينات من القرن الماضي، يتوق المعمار، اذن، الى الاحتفاظ بالاهمية المؤولة لهذا المبدأ في مبناه، لزيادة ترسيخ مفهوم " روح المكان " Genus Loci، الذي ينشد بقوة، الى ان يكون حاضرا ً في تصميمه المقترح!
يكاد يخلو مبنى مكتبة الاسكندرية من اي وجود للواجهات، الواجهات بمفهومها التصميمي – الفضائي، تلك العناصر المألوفة في المباني العادية؛ ذلك لان القرار التصميمي الساعي الى جعل المبنى " يغوص " في جانب منه في " بطن " الارض، ويرتفع عاليا عنها في جانب آخر، وكذلك حضور النزعة التشكيلية المتماثلة التى تسم اسلوب معالجات جدران محيط الاسطوانة ذات القطع المستدق، تجعل المبنى وكأنه يخفي بتعمد تلك العناصر الملازمة لفعل الصياغات التصميمية للمبانى العادية. بيد ان المعمار يستعيض عن هذا " النقص " الحاصل، بجعل سقف المبنى المائل، الذي يرى من شارع الكورنيش الملاصق، او من البحر المجاور، والمجزأ وفق تقسيمات مصبعية Grids لوحدة قياسية Module، ليكون بمثابة " واجهة " المبنى الرئيسية، ومظهر المكتبة العام؛ ولكي يضفي المصمم بعدا ً جماليا ً مؤثرا ً للسقف- الواجهة، فانه يشطر اشكال تصبيعات الشبكة المتصالبة في وترها، ويخسف جوانب منها لتوجيه وتحديد مصدر الانارة الطبيعية نحو الشمال قصرا، وذلك لتجنب مرور اشعة شمسية غير مرغوبة، تفسد على المصمم توقه المبرر في جعل انارة فضاء قاعة المطلعة الكبرى، الواقعة تحت السقف مباشرة، ذات انارة " مروضة " وبمعايير محددة مسبقا ً تفي بمتطلبات واشتراطات المطالعة الجيدة. وتجدر الاشارة بان تحديد اتجاهات الواح التسقيف المشكلة لسطح المكتبة، تمّ حسابها بدقة بالحاسوب " الكومبيوتر " في مراحل التصميم، من اجل السماح لدخول مستويات مطلوبة ومقننة من الضياء الطبيعي فقط، ومن دون الاباحة لمرور اشعة الشمس المباشرة.
استفاد المعمار كثيرا من نتائج عملية المعالجة الكتلوية الناجمة عن اختلاف مستويات اجزاء التصبيعة في الشبكة المتسامتة لسقف المبنى،وما نجم عنها من حضور بليغ لخاصية الظل والنور، والتى تمكن المعمار ان يوظفها بمهارة، لينأي بسطوح " الواجهة الخامسة " الفسيحة والمنسية عادة، في المباني التقليدية، ينأى بها بعيدا ً عن الاحساس برتابة التكرار المتوقع جراء التماثل الشكلي لهيئات تصبيعات الشبكة المتسامتة فيها. وقد اضافت تنويعات المعالجة التصميمية المختلفة في اجزاء من سطح سقف المبنى كوجود الافنية المفتوحة،الخاصة بالقسم الاداري، او ترك بعض تلك الوحدات احيانا ً من دون معالجة تذكر، اضافت بعدا ً جماليا ً مؤثرا ً لجهة فنية " الواجهة " المصممة، التى تذكرنا تأثيرات ثراء سطحها التشكيلي، بتأثيرات خاصية "الظل والنور" عالية الفنية، تلك الخاصية التصميمية المفعمة بالحيوية، والرائجة، عادة، في تكوينات الابنية العربية التقليدية. واستذكار هذه الخاصية التصميمية هنا، هو استذكار مؤثر، وفطن، و... ملائم ايضا ً، لجهة تقصي روابط متنوعة مع المكان،وابداء ايماءة احترام مع ثقافته المبنية الحصيفة. تجدر الاشارة الى ان هذه الخاصية التصميمية ذاتها قد شاهدنا تأويلات معاصرة لها، في مبانٍ ممّيزة، كتلك التى طبعت تكوينات مبنى " معهد العالم العربي " في باريس،( 1987) للمعمار" جان نوفيل "، وغيرها من المباني الحديثة؛ لكننا هنا، في مكتبة الاسكندرية، نشهد تنويعات مبدعة اخرى، لتلك " الموضوعة " ذاتها، المحببة الى قلب المعمار الاقليمي!

يعد حيز قاعة المطالعة الرئيسية العنصر الاهم في مكونات الحل التصميمي، ليس فقط لكونه الاوسع مقاسا ً والاكثررحابة، بل ولانه الحيز الذي يعطى حيثية مقنعة لمعنى المبنى ككل، ويجسد وظيفته الاساسية. يصل الزائر الى قاعة المطالعة، بعد ان يجتاز بهو المدخل، ذا الارتفاع الذي يرتقي الى ثلاثة طوابق، عابرا ًقسم التسجيل، ليرى نفسه في المنسوب الخامس من مناسيب المكتبة المتعددة المستويات.
واذ يصل الى الداخل، سيثير دهشته، حتما ً، اسلوب التوزيع الفراغي للقاعة، وطريقة انارة هذا الفضاء الفسيح، الذي يشكل بمجموعه مفردة قاعة المطالعة الكبرى لمكتبة الاسكندرية الجديدة، وسينجلي امامه فضاءا فسيحا وواسعا ً، تصل مساحته الى اكثر من 000 20 مترا مربعا، وهو ما يعتبر من اكبر المساحات المغلقة في مباني الشرق الاوسط،اذا استثنينا فضاءات المساجد الجامعة التاريخية، كما انه يعتبر ضمن اوسع قاعات المكتبات في العالم. وهذا الفضاء مقسم الى سبعة مستويات، كما اشير سابقا ً، تنتشر فيه اعمدة دقيقة، يصل عددها الى نحو 90 عمودا ً، يتحدد مكانها طبقا ً للنظام الصارم لشبكة الوحدة القياسية Module التى تقدر ابعادها بـ 9.6× 14.4 مترا ً، وهو مقياس يلائم ابعاده نظام تخزين المكتبات الموحد. تتألف الاعمدة من بدن خرساني، يعلوه تاج بهيئة هرمية خاصة. وهذه التيجان تسند جسور متقاطعة ترتكز عليها وحدات الواح سقف القاعة المائل بدرجة ميل تصل الى(16.08) درجة باتجاه الشمال. وتنطوي الاعمدة المنتشرة في قاعة المطالعة على ابعاد مختلفة، يتراوح اطوالها بين lt; 4 gt; امتار في الجزء الواطئ و lt; 6 gt; امتار في القسم العالي.
يدرك معمار المكتبة جيدا ً، بان اهمية مفردة حّيز قاعة المطالعة الرئيسية، هي اهمية غير عادية، لها حضورها الاستثنائي مقارنة بمفردات التصميم الاخرى. كما انه يعي ّ ايضا ً، بان نوعية المقاربة التكوينية المصطفاة، والتى سيتعاطى بها لجهة تصميم هذا الحيّـز، ستكرس لاحقا ً صورة Image المبنى المقترح، وتسهم في ترسيخ هيئته المميزة في الذاكرة البصرية. وتأسيسا ً على ذلك فانه ينزع الى جعل حضور " الانشاء "، او ما يعرف بـ " التكتونية " Tectonic في " انتيرير " الحيز المصمم، ليكون وقع حضوره، حضورا ً بليغا ً، يشي الى عقلانية المشهد المرئي، رغم غرائبية حال وسع الفضاء المحصور، واسلوب انارته " الملونة "، تلك العقلانية التى توحي بها اعمال العناصر التركيبية المنتشرة في القاعة ونظامها البسيط المعتمد على الجسور الرابطة الافقية، والمساند العمودية الحاملة لها.
تجزأ الاعمدة الخرسانية الرشيقة فضاء القاعة الرحيب، وتسهل ادراكه بصريا ً. ويتغير منظر هذه الاعمدة، ونظام ترتيب موقعها، وشكلها باستمرار، كلما جال المشاهد ببصره نحوها، او تقصد الحركة من مكان الى آخر وسط فضاء القاعة، ويسهم التغيير المستمر في اكساب المنظر المرئي حيوية ظاهرة، يزيدها تأثيرا ً انتشار عناصر اثاث التصميم الداخلي في القاعة، من مناضد قراءة ومصاطب جلوس، ورفوف كتب، فضلا على عامل وجود القراء انفسهم وحركتهم الدائمة.
لا يمكن للمرء وهو يشاهد اسلوب فتحات الانارة السقفية، في قاعة مكتبة الاسكندرية الجديدة، الا وان يستحضر ولع " الفار آلتو " – المعمار الفنلندي المعروف، في توظيفاته العديدة لهذه المفردة التصميمية. وبواعث هذا الاستحضار الفكري، هنا، تمتلك مبرراتها، في الاقل لسببين، اولهما: قوة وحضور الارث " الآلتوي " التصميمي، وتأثيراته على عموم عمارة اسكندينافيا، وبضمنها بالطبع النرويج، ذلك الارث الذي ما فتأ المعماريون الاسكندينافيون يرون فيه نبعا ً غنيا ً من الافكار القابلة للمحاكاة والتأويل؛ والسبب الثاني يرجع الى التماثل الموضوعي لاستخدام هذه المفردة تصميميا ً. اذ من المعروف بان " آلتو " استخدم مفردة الانارة السقفية لاول مرة وبمهارة، في" مكتبة فيبوري " Viipuri ( 1927-35 ) الشهيرة، ثم كرر استخدامها في مشاريع عديدة بعد ذلك، سواء كانت منفذة اوغير منفذة. اي اننا ازاء فعالية " تناصية " مثمرة، تدلل بدءاً، على مرجعية القرار التصميمي لمعماريي مكتب " سنوهيتا " الشباب، وتفسر لنا تاليا ً،أهمية قرار توظيف مفردة الانارة السقفية والارتقاء بها، لتكون حدثا ً تصميميا اساسيا في اجراءات تنظيم حيز قاعة المطالعة الرئيسية في المكتبة الجديدة.
وربما قادت تداعيات رؤية المشهد المرئي، الى استحضارات آخرى، يدلنا على بعض منها، الناقد المعماري " ريجارد انغيرسول " في مقاله الممتع والذكي عن " مكتبة الاسكندرية " المنشور في مجلة " عمارة " lt; انظر Architecture ,October 2001,pp 101-103,122 gt;. فيذكرنا بان هيئة قاعة المكتبة الفسيحة، واعمدتها الرشيقة المنتشرة في فضاءها المغلق، تستدعي الى الذاكرة هيئة القاعة الادارية " لشركة جونسون للشمع " (1936-37 ) في مدينة راسين ولاية وسكانسون بالولايات المتحدة، للمعمار " فرنك لويد رايت "، وفعلا فان حيز كلتا القاعتين المغلقتين، وسيقان اعمدتهما النحيلة، ذات نظام تيجان شبه متماثل، تبدوان وكأنهما تنتميان الى مرجعية واحدة ومحددة.
واستطرادا ً لهذا الشأن، يمكن القول ان نظام توزيع اعمدة قاعة مكتبة الاسكندرية وفضاءها الفسيح، يعيد الى الذاكرة، ( في الاقل الى ذاكرتنا الشرقية )، تماثلات " غابة " اعمدة حرم مسجد قرطبة الشهير ( 786- 987 )، وفضاءه الغاص بالعناصر الانشائية من اعمدة وتقاطعات معقدة لعقود ترفع سطح التسقيف. وتنشد مثل هذه التماثلات الى تفعيل حضور خلفية لروابط اتصال مع انساق الثقافة المبنية المحلية.
وعلى العموم، فان مناسبة رؤية حيز قاعة المطالعة في المكتبة، وادراك استثنائية الفضاء الفسيح، والوعي بتفرده التصميمي، ما انفكت تمثل بالنسبة الى المتلقي " تمرينا ً " فكريا ً منعشا ً ومنشطا ً، تمرين حافل بفيض من صور متخيلة، مستلة من خزين الذاكرة البصرية، يتلائم حضورها وتتابعها الذهني مع نوعية، وخصوصية، وتعدد ثقافات مستخدمي الحيز الفضائي الممّيز، ومشاهدي ذلك الحدث التصميمي البارع!
ولئن اتاح حيز قاعة المطالعة الرئيسية لزوار مكتبة الاسكندرية، امكانية انتاج صورافتراضية، وجعل مشاهديه منهمكين في حالة استيلاد خواطر لرموز مبان متنوعة، تعود هيئاتها الى مرجعيات ثقافية مختلفة، فان هذا يدلل على مستوى الاجتهاد التصميمي الحصيف، المبذول في تصميم ذلك الحيّـز؛ الذي يتبدى للناظر بمرأى بونارامي نادر، تفتقده غالبية قاعات المطالعة في ابنية المكتبات الاخرى. وليس من غير دلالة، ان يتذكر المرء، وهو يجول ببصره ناظرا ً الى فخامة الحيز المبتدع امامه لقاعة المطالعة في مكتبة الاسكندرية الجديدة، ان يتذكر مقولة " لو كوربوزيه " المجنحة، بان " العمارة، ماهي الا فضاء محصور! "، فضاء، بمقدوره ولوحده، ان يخلق عمارة: عمارة متميزة.

وكلمة اخرى مضافة، يمكن ان تقال بحق حدث " حيّز " قاعة مطالعة المكتبة، من ان حضور ذلك الحيز الممّّيز في الحل التصميمي، اكسب المكتبة ذاتها قيمة معمارية فريدة، قيمة تؤسس للانابة عن مجمل المعنى الرمزي للمبنى، واختزاله في هذه المفردة التكوينية المغلقة. وهو بهذا المعنى، يقع ضمن مبان ٍ قليلة في الموروث البنائي العالمي، التى كرسّت حضورها في تنويعات الخطاب التصميمي، من خلال " فورم " فضاءتها الداخلية؛ وبالتالي، فهي هنا، قريبة من تصوراتنا عن "عمارة" مسجد قرطبة الكبير ( الذي ذكر توا ً)، التى نستحضرها حصرا عبر صورة فضاءه الداخلي، والحال ذاته فيما يخص محاولة استذكار مبنى "وزارة الخارجية السعودية" بالرياض (1981-84 )، للمعمار"هنينغ لارسن"، التى نسارع في تذكر فضاءاته الداخلية المعبرة، مقارنة بالاسلوب الحيادي للمعالجة الخارجية.
لكن معماري مكتبة الاسكندرية الجديدة، يخطون خطوة مضافة في هذا المجال، فهم من ناحية يؤسسون لمقترب تصميمي معني في رفع شأن قيمة الفضاء الداخلي للمكتبة، ومن ناحية اخرى، فان نوعية مقتربهم ذاته، يظل يعمل، ايضا ً لجهة ايلاء اهتمام جدي للمعالجات الخارجية. وما التشديد على مفردة "الواجهة الخامسة": واجهة السطح، التى اشرنا الى خصائصها التصميمية سابقا ً، سوى محاولة لافصاح المزايا المزدوجة للمسلك التصميمي الخاص بمعماري مكتب "سنوهيتا "؛ ذلك المسلك الذي نعده، ونقيّمه كأضافة هامة ورصينة في مجمل الخطاب الحداثي المعماري العالمي.

يستثمر مصمم مبنى المكتبة، سطح الجدار، ذا الارتفاع المتباين، الذي يلف كتلة المنشأ الرئيسة من جميع الجهات تقريبا، عدا الجهة الشمالية حيث يغوص قسم من تلك الكتلة، هنا، داخل الارض، يستثمره كوسيلة مضافة، مهمتها زيادة اثراء لغة عمارة المبنى تشكيليا ً، والتذكير، مرة اخرى، باهمية عامل اتحاد اجناس الفنون المتنوعة، كتقليد رفيع، سبق وان كان احد مكونات الحل التصميمي لعمارة مبنى المكتبة القديمة. وضمن تشكيلات فنية، اعدها فريق من النحاتيين النروجيين برئاسة " يورون سانيس " وقوامها " اشارات " يصل عددها الى حوالي 6300 حرف، وجملة، ورمز تعود الى لغات العالم الحديثة والقديمة، منقوشة بـطريقة النحت الغائر، والناتئ على اربع آلاف قطعة سميكة من الغرانيت المستخرج في اسوان، يضحى سطح ذلك الجدارالطويل، الخالي من اية فتحات فيه، ( فاضاءة الحيز الداخلي تتم، كما هو معلوم، عبر الانارة السقفية )؛ يضحى في ايدي المصممين الكفوءين، مؤهلا ليكون " ملصقا " lt; بوسترا ً gt; فنيا ً، يشي الى وظيفة المبنى الاساسية، ورمزها االتشكيلي!
قد تكون فكرة توظيف فن " الجداريات " المستخدمة في مكتبة الاسكندرية، متساوقة مع فكرة سابقة، كان قد طرحها المعمارييون المكسيكيون، بوضوح، اثناء اعدادهم تصاميم " جامعة نيومكسيكو " بالعاصمة المكسيكية، في مطلع الخمسينات، ونفذها فنان المكسيك المشهور " ديفيد سيكايروس " على سطوح جدران مكتبة الجامعة ايضا ً؛ لكننا نزعم بان مصممي مكتبة الاسكندرية الجديدة قد احسنوا اعادة قراءة تلك التجربة الرائعة، واجادوا كذلك، تفسير الموروث المحلي في هذا المجال، مقدمين لنا حلا معماريا ً ملائما ً ومعبرا ً، يشدد اسلوب انجازه الفني، من ناحية على طبيعة فكرة المكتبة، ويؤكد في جانب آخر على حضور المكان ويرمز الى هويته!.

يسعى معمار مكتبة الاسكندرية الجديدة، ان يكون حال " فورم " مبناه المقترح، موحيا ً لكشوفات تكوينية، يمارس اكتشافها المتلقي نفسه. ويغدو التشديد على اكتناف ذلك " الفورم " لقيم تكوينية محددة، هو بمثابة محض إستجابة لذلك النزوع التصميمي المفضل لديه. من هنا يمكن، مثلا ً، ادراك خلفية القرار التصميمي بازاحة جزء من كتلة المكتبة، المطلّـة على " ميدان الحضارات "، واسقاطها تماما ً من الهيئة الاسطوانية المشكله لها. ورغم منطقية مسوغات هذا القرار، وهو الرغبة في توقيع المدخل الرئيس بمكان مناسب، بعيدا ً عن الاشكاليات الناجمة عن محاولات اختراق مباشر لسطح الجدار الملتوي، الذي يلف الكتلة الرئيسية للمكتبة؛ فان قرارالازاحة ثم، الاسقاط بعد ذلك، المبرر وظيفيا ً، كان يعمل ضمن اشتراطات بنود " اجندة " المعمارالمفضلة، ويكشف، في الوقت عينه، عن تجليات قيمه التكوينية المميّزة؛ ذلك لان تبعات ذلك القرار، افضت الى الاخلال بالنقاء الكتلوي للشكل الاسطواني، ويتوجب الان على المتلقي المشاركة في " التصميم " ذهنيا ً لاستعادة " فورم " الجزء المزاح. بمعنى آخر، يقدم لنا المعمار عرضا غير مألوف، وغير متوقع، بالمرة، ليشركنا، نحن متلقي مبناه، في فعالية ابداعية، كانت لوقت قريب، حكرا ً على طبقة المصممين! " فغياب " الاقسام المزاحة المتقصد، ينشط " حضور " المقترحات التصميمية الافتراضية لدى المتلقي، ويكرس رغبة المعمار في جعل الاخير منهمكا ً في ممارسة متعة " التصميم "!.
من جانب آخر، لا يود المعمار الرضوخ تلقائياً لاغواء التبسيط الناجم عن تكرار وتشابه معالجات الوحدة القياسية التى تبدو ظاهرة في شبكة التقسيمات المتسامتة، المكونة الاساسية لواجهة المبنى الرئيس: واجهة السطح. اذ يحرص المصمم ان يكون ايقاع تلك الوحدات، واسلوب معالجاتها مختلفا ً ومعقدا ً في آن.؛ ليتسنى له الحصول على مزايا تبعات ظلال مكوّن lt; الاختلافات الطفيفة gt; التي تدعى بـ " Nuance "،؛ ذلك المكوّن التصميمي الذي يرفع المعمار من شأنه عاليا ً، ويطمح ان تكون تأثيراته متواجدة، وبقوة، في اسلوب معالجات عناصر واجهته السقفية. ولهذا، فان مفردات تلك الواجهة قد تبدو متماثلة ظاهريا ً، لكنها في الحقيقة غير ذلك، انها مختلفة، ومتباينة، ومتغيرة. اي انها، باختصار شديد، تنشد لان تتصادى مع مفهوم " التنوع في الوحدة "، المفهوم الاثير، والحاضر دوما ً في سياق ثقافة الموروث البنائي المحلي

وايا ً يكن الامر، فان سلسلة التماثلات الذهنية التى يستحضرها المرء عند رؤية الفعالية التصميمية المرئية، يجعل من عمارة مكتبة الاسكندرية الجديدة لان تكون حدثا ً تصميما ً مميزا ومؤثرا ً في مجمل الخطاب المعماري العالمي. كما ان هذا الامر يدلل على ان عملية الخلق المعماري الحداثي، او بالاحرى مابعدالحداثي، هي في الواقع عملية مضنية ومعقدة، تتطلب فيما تتطلب، الالمام العميق في معرفة وادراك انجازات الحضارات المختلفة، والمقدرة الفطنة في التعاطي مع فعاليات التأويل، فضلا على استثمار معطيات الحاضر،والاشتغال على قيم تصميمية مبتكرة والتركيز على تطلعاتها المستقبلية؛ وليس كما يروجّ، من ان نتاج عمارة مابعد الحداثة، ما هو الا محض قطيعة، و قطيعة مطلقة مع كل ما انتجته الانسانية سابقا ً. في حين يبين منجز عمارة مكتبة الاسكندرية الجديدة، كمجز معماري ما بعد حداثي بامتياز، من ان " القطيعة " التى يتردد ذكرها دوما في ادبيات النقد الخالي من الموضوعية، هي ليس سوى، قطيعة " ابستمولوجية " مع كل ماهو عادي، ومبتذل، وعابر في المشهد البنائي!.

ولئن عبر منجزعمارة مكتبة الاسكندرية الجديدة، عن حضوره الهام ضمن منجزات العمارة العالمية المعاصرة، فان ذلك، كان بفضل اضافات ذلك المنجز النوعية، من حيث الفكرة المعمارية اولا، وتمظهراتها المطبوعة بالاسلوب التصميمي المتفرد، ثانيا ً، الذي جسد " فضائيا ً " تلك الفكرة، ومن ثم ساهم الانشاء الحصيف في تحقيقها. وفيما يخص الجهد الاخير، الجهد الهندسي، الذي اضطلع به المكتب الاستشاري المصري: " حمزة ومشاركوه "، فقد عُدت الحلول الهندسية للمبنى المعقد انشائيا ً، عملا ً ابداعيا ً مميزا، وخصوصا معالجاته فيما يخص المشكلات الناجمة عن تأثيرات المياه الجوفية، والعمل على عدم تسربها الى داخل المبنى، سيما وان المكتبة لا تبعد سوى اربعين مترا عن البحر. كما ان معضلة تباين واختلاف الاحمال في اقسام مبنى المكتبة، وما ترتب عنه من تقصي منظومات انشائية خاصةlt; واحيانا غير مسبوقة gt; للاسس، كلها عملت على جعل أداء المهندسين المصريين لان يكون اداءا معبرا ً، لا يقل من حيث الاهمية التصميمية عن فرادة حلول المبنى المعمارية.

لقد عُد ّ حدث تنفيذ " مكتبة الاسكندرية " الجديدة، بمثابة تحقيق حلم؛ حلم معماري جميل، وحلم ثقافي رائع، وننتظر من فعل تحولات ذلك الحلم الى واقع مادي، مشيد الان في مكان ما، من شارع " كورنيش " مدينة الاسكندرية، ان يكون ذلك الفعل، وذلك الواقع حافزاً للجميع بمنطقتنا، لتحقيق احلام اخرى: جميلة ورائعة: معمارية وثقافية؛ تليق بما يعده لنا المستقبل الاتي السعيد، المستقبل الذي يبشر بملامحه، قرص " شمس " مبنى المكتبة، الذي تشي هيئته دائما ً الى فعل.. البزوغ!.

مدرسة العمارة / الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون / كوبنهاغن- الدانمرك