استفتاء (2/5)
عندما كان للثقافة العربية مكان – مركز
(
لمعرفة صيغة الاستفتاء انقر هنا)


ياسين طه حافظ (شاعر ومترجم عراقي مقيم في بغداد)
النزوع الآن من "محدودية" المحلي الى "رحابة" العالمي

ذكرني هذا السؤال العلمي والعاطفي في آن واحد، بما كان يُسمّى في الجزيرة بـ(الحواضر). هنالك التجارة والحكمة والشعر. هي كانت (المرجعيات المكانية) لحياة الناس في الأصقاع … لكنها اليوم صارت (المدن الرئيسة) ليس غير او صارت العواصم.
والعواصم العربية مراكز علوم وثقافة ونشر، كلُّ بقدر. ومن هذه كلها صارت (القاهرة)، (بيروت) و(بغداد) هي المعالم الاكثر ضوءا لا بسبب تجارتها ومقرات السياسة فيها، ولكن لأنها مراكز لوجود حضاري أوسع واكثر كثافة، هنالك دور الطباعة والنشر والنشاط الاكاديمي والحيوية الواضحة من الكتابة والفنون.
شخصيا لا اظن كوارث السياسة، ولا اظن الحروب، ولا اظن القمع وراء ضمور هذا الدور التنويري الذي اشرت إليه لبعض المجلات التي كانت متقدمة، والتي وفَيْتَ بذكرها.
إن اقترابنا الى الروح العلمي المتقدم في البحث والكتابة وتماسنا المباشر بالعواصم العالمية، واعني عواصم الحضارة الغربية، حضارة عصرنا، وسهولة الوصول لها إقامة او سفرا او عبر اجهزة الاتصال والمعلوماتية … كل ذلك ابعد نظرنا الى مناطق اكثر علما وارقى فنون واوسع وارسخ مرجعية … كما ان اتساع اعداد من يقرؤن ويسمعون بلغات اجنبية قرّب قطاعات الثقافة من المصادر الكبرى من المعالم الاكثر كثافة وضوءا.
فالـنـزوع الآن من (محدودية) المحلي الى (رحابة) العالمي، ومن (الفقر) الثقافي) الى (الغنى) المعرفي …. فهي حركة نهوض صحية لا ضرورة للابتئاس منها … كانت لنا مجلات جيدة او لطيفة …. لكن هذه المجلات العالمية مكتـنـزة بموضوعات جديدة وبعلمية عالية … ونحن امام آداب وفنون وعلوم وافلام واشرطة واقراص، امامنا إصدارات تتواصل وعشرات المجلات المتخصصة تصدرها دور نشر وجامعات ومراكز ابحاث … نعم، قد لا تعني او قل لا تعوض جيلا وفيا عمّا شبّ عليه وما الفَ من مجلات زمنه، وقد كانت مجلات مرموقة، لكنها بالتأكيد ترضى نُخبا ذوات شأن في العصر التنويري والنهضوي الجديد.
ومن هذا نجد الباحثين عن الكتاب المترجم الذين هم بحاجة لاصدرات لغة كبرى غير الانجليزية يتطلعون الى المغرب حيث يؤدي الاساتذة هناك دورا محترما في الترجمة عن الفرنسية والاجتهاد في نحت المصطلح. إن مصادر الثقافة الفرنسية تفيض من باريس عليهم، وهم وابناء امتهم عطاش، حينما نجد الباحثين عن الكتاب المترجم عن الانجليزية يتجهون بابصارهم الى القاهرة وبغداد وقد لحقت بالركب الكويت ….
(شعرية) المكان التي اشار لها الاستفتاء وذكّرنا بما في الذاكرة من جمال غابر، هو نوع من الشعور الوطني … هذه حقيقة وهذا تفسير مريح، وإلا كيف نستعيد، بسعادة تواريخ مثقلة تعاسة وشهداء وقذارات سياسية وضحكا إجراميا على شعوب فقيرة تريد الوصول ؟
كيف ترتضي أزمنة متخلفة رثّة مثل تلك التي ولّتْ ؟
الحاضر من دون شك افضل، والحاضر اكثر تقدما واكثر إنسانية ايضا..
اعود الى القول ثانية : لو لم تكن في الكويت مجلات ممتازة مثل عالم الفكر والثقافة العالمية، ولو لم تكن في القاهرة (فصول) العظيمة، واخبار الادب ومجلة (الألسن)، ولو لم تكن في سورية (الاداب الاجنبية، والتراث، والمعرفة)، ولو لم تكن في العراق (الثقافة الاجنبية) و (الاقلام) والمورد … ولو لم تكن في السعودية ….. اقول لو كانت هناك ثلاث او اربع مجلات، لا سواها لكانت واضحة مثل تلك التي في ذاكرتنا، وإلا فكيف لعاقل ان يقارن بين (الرسالة) و (فصول) ؟ لكنه الجمال الخاص بالماضي يغشّنا احيانا. او قل اننا نشيد بالمجد الذي كان لها في حينه. خذ مثلا : لو ان مجلة (الهلال) اختفت وانقطعت عن الصدور، لدخلت في هالة الضوء البعيدة تلك.. لكن ما تزال تصدر، فهي مجلة بين مجلات لا غير..
لا اظن العصر يسمح بمركز واحد رائد كما لا يسمح بحاكم متسلط واحد – مع ادراكي الاخر للفارق بين الاثنين … على العكس، اتوقع كثرة مراكز واتساع حركة الثقافة والفنون والعلوم من بقاع كثيرة من عالمنا العربي وفي عالمنا الكبير الواسع. هو قانون التقدم البشري. انتشار الجامعات وتزايد اعدادها في البلد الواحد تصحبها عادة مراكز بحث واصدارات ودور نشر ونواد. لن تكون المراكز الجديدة دون معالم تميّزها، ستكون متميزة بمناهجها بطبيعة نشاطها وحقول تخصصها وطبعا بموضوعات ابحاثها والباحثين البارزين فيها.
ازدياد المراكز يعني تنوعا يبشّر بخير ثقافي وعلمي.
إن بعض عواصمنا، وبعض مدننا، غير العواصم، بدأت فعلها الثقافي، والتنويري الجديد، ولن تتوقف، وستتضح مراكز إشعاع جديدة، لكني مع هذا الخير المفرح، اعتقد بأن المشهد يتجه لأن يكون عالميا، مع ازدياد عدد الخريجين والازدياد المبارك لاصحاب الدرجات الاكاديمية العليا، وسيزداد بهذا التطلع الى المراكز الكبرى، الى مراكز الثقافة العالمية، وسينمو التواصل. حتى الجامعات العربية تمد جسورا الى جامعات العالم الكبيرة المعروفة عبر اتفاقات تعاون او دراسة او تدريب. هذا لا يلغي تميزها، يؤكده !
إنها تتقدم بذلك ثقافيا ومن بعد بحثيا. هو شأن الحياة الجديدة. لا كبرياء في العالم، انتهى زمن البداوة والاعتزاز معا بالفضائل وبالعيوب ! نعم …إن تاريخنا، تأريخنا عظيم غني. مناطق ما زالت بحاجة الى مكتشفي كنوز دفينة ما امتلكنا نظرا علميا ثاقبا يراها، يرى ما وراءها، وسيظل التأريخ كل التأريخ، لغة واخبارا ودراسات وفلسفات وظواهر اجتماعية وشعرا، سيظل منطقة بحث دائمة. لن ينفد المدهش فيها لكن العالم الجديد مذهل عظيم ايضا. ويحق للانسانية أن تفخر بما تنجزه وبما انجزته وليس صحيحا، ليس صحيحا أن يبعدنا الماضي عن الحاضر العظيم. العالم عالمنا ونحن اناؤه وهذا عصر العلم والمعرفة الكبير …

***

أحمد عيد مراد (رئيس المركز العربي الكندي للصحافة والإعلام / عضو مجلس إدارة نادي الصحافة الوطني الكندي، رئيس لجنة العلاقات العامَّة)
[email protected]


المكان؟
ما يبرح ذاكرتي. غالبًا ما يكون النسيان نعمة يتخلًَّص فيها المرء من أحداث ماضٍ تؤرِّقه ولا سيَّما إذا كانت متًَّصلة بحاضر يلقي ظلالاً على مستقبل غير واضح الرؤى لا يتعلِّق به تخصيصًا، بل يشمل أمَّة بأسرها ووطنًا ممتدَّ الأطراف ومبتورَ الأوصال. مع ذلك، تمكَّن استفتاء "إيلاف" الذي أعادني بفاتح سؤاله إلى نصف قرنٍ مضى أو ينوف. وبيد حانية وتربيت عطوف مسح غبارًا عن الذاكرة ليتألَّق فيها المكان، وكأنَّي لم أبرحه البتَّة. فلا جَرَمَ أن بقي في الذاكرة مَعينًا وفي درب الأدب والشعر مُعينًا.
هل يتمكَّن المكان من تقييد الزمان، أو على الأقل يبقيان متازمنين طالما أنَّ المكان لا يتحرَّك إلاَّ في الذاكرة! والزمان لا يقف إلاَّ في شطحات هذه الذاكرة بما تبقيه في نفس صاحبها. سأجهد في إجابتي عن "ذاك المكان في ذاكرتي وكيف أقوَّمه اليوم" أن أعود إليه مصطحبًا القرَّاء الأعزَّاء نتجوَّل في مرابعه وأترك لهم القرار بما يليق به، وبما فلحتُ أن أكون الدليل في مكان كان البداية والهداية، وما يزال معينًا للفكر وموئلاً للحنين.
العودة للمكان تعيدني تلقائيًّا لمَن فيه، أو أكثر تحديدًا للقيِّمين عليه. لذا لا مناص من أن أذكر المرحوم نبيه ثابت، مدير المدرسة الداخليَّة في المنصوريَّة، لبنان أثناء دراستي الثانويَّة. ويبدو أنَّه رحمه الله لمس مَلَكَة شعريَّة في طالب أحبَّ اللغة العربيَّة فتعهَّدها بعناية ورعاها بتشجيعٍ وحثٍّ على المطالعة، فاستجاب الطالب وشغف بالشعر والأدب. هناك كان التأسيس إذا صحَّ القول.
في دمشق، وفي منتصف الخمسينيَّات ولسنوات قليلة كان المكان الذي ما يبرح ذاكرتي، وما يزال يعيش في الوجدان. في دمشق، ومن نوافذها المشرَّعة، بدأ نور الأدب والشعر يغمرنا من القاهرة وبيروت. فـ "كتاب الهلال" الشهري ومجلَّة "روز اليوسف" وابنتها "صباح الخير" الأسبوعيِّتان كانت غذاء الفكر ومادَّة الأدب. ومن بيروت كانت مجلَّة "الآداب"، رائعة سهيل إدريس الشهريَّة، أضف إلى ذلك ما يصدر من قصص وروايات وكتب عن دور النشر في كلٍّ من بيروت والقاهرة لأدباء تربَّينا على أدبهم ونتاجهم، وعلى ما يصدر عنها من ترجمات لروائع الأدب الأوروبي والأمريكي والروسي.
هل كان النادي العربي الثقافي فوق بناء مقهى "الهافانا" الذي كانت ندواته الثقافيَّة تجمع جيلنا من الشباب اليافع ليتتلمذوا على أيدي أساتذة كانوا يرون فينا خلفًا لهم امتدادًا لآدابهم وأفكارهم! أم كان مقهى الهافانا نفسه، ملتقى الأدباء الشبَّان، أم مقهى "الميلويَّة" حيث كنَّا نقضي الأمسيات في مناقشة كتاب أو قصيدة أو في مداولات سياسيَّة ننمَّي فيها أفكارًا، ونقرِّر فيها انتماءنا ومسارنا ونرسم من خلالها مستقبل الأمَّة والوطن! هل كانت في مقهى "البرازيل"، مجتمع النخبة السياسيَّة الدمشقيَّة حيث كنَّا نجلس مستمعين لدهاقنة السياسة علَّنا نصبح في يومٍ مّا مثلهم!
عندما أتكَّلم عن المكان يتجلَّى الزمان أمامي وكأنَّه طوى عقودًا خمسة أو محاها من مسيرته، فها هو الشاعر أحمد الصافي النجفي يجلس في مقعده المعهود في مقهى الهافانا ونحن حوله متحلِّقين نستمع لكلِّ همسة منه ونستوعب كلَّ كلمة ونردِّد معه أبيات شعرٍ لم يبخل علينا بها. أذكر أنَّني بعد عودتي من شتتغارت ألمانيا في زيارة لدمشق قصدت مقهى الهافانا علِّي أحظى برؤية الشاعر. كان هناك على كرسيَّه ولباسه المعهود وكأنَّه لم يبرحه منذ سنوات. بعد السلام، والتعريف بنفسي طلبت منه إن أسمعه أوَّل قصيدة لي كتبتها في ألمانيا ونلت عليها جائزة من جمعيَّة الطلاَّب العرب، فهزَّ رأسه، وأومى موافقًا. فقلت:
إِذَا الأَيَّـامُ أَنْسَـتْكَ الجِرَاحَـاوَأَبْلَى الدَّهْرُ عَزَّمَّك وَالكِفَاحَا
لم ألتفت إلى الشاعر وأنا ألقي القصيدة بسرعةٍ مخافة أن أرى في قسمات وجهه ما يوحي بالضجر أو الملل. وما أن أتيت على آخر بيتٍ فيها حتَّى نظرت إلى وجه الشاعر لأرى ردَّه على القصيدة. هزَّ رأسه، وقال ما معناه، وفَّقك الله، تابع يا ابني.
كيف يمكن أن أصفُ ذاك المكان ثمَّ أقوَّمه، وفيه استمعت إلى الشاعر سليم رشيد الخوري في أمسيَّة شعريَّة وصوته يترنَّم بـٍ
حَتَّـامَ تَحْسَـبُها أَضْغَاثَ أَحْلامِسَبَّحِ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ أَنْتَ فِي الشَّامِ
أو:
بِنْتَ العُرُوبَـةِ هِيِّئي كَفَنِيأَنَا عَائِدٌ لأَمُوتَ فِي وَطَنِي
أَأَجُودُ مِنْ خَلْفِ البِحَارِ لَهُبِـالرُّوحِ وَأَضُـنُّ يِالْبَدنِ!
أو في أمسية شعريَّة تألِّق فيها الجواهري، وهو يصف حالة الأمَّة النفسيَّة والوجدانيَّة في زمن عاشت الأمَّة أحلام يقظة الوحدة بين مصر وسورية:
هُنَا بِجِلِّقَ عِمْلاقُ عَلَى برَدَىوَثَمَّـةَ يَحْمِـي النِّيلَ جَبَّارُ
أو:
خَلَّفْتُ عَاصِمَةَ الخُنُوعٍ وَرَائِيوَأَتَيْتَ أََقْبَسُ جَمْرَةِ الشُّـهَداءِ
وماذا عن "خبز" نزار قبَّاني، "وحشيشه وقمره"! ونازك الملائكة وفدوى طوقان وبدر شاكر السيَّاب وسليمان العيسى ويوسف الخطيب وكمال ناصر وأحمد عبد المعطي حجازي ومطاع الصفدي وصلاح عبد الصبور وعبد الحليم عبد الله وإحسان عبد القدوُّس وأحمد بهاء الدين ورجاء النقَّاش وغيرهم! فإذا كنت قد شغفت بالمكان، فشغفي أكبر بمن كان في ذاك المكان، وهؤلاء كانوا "إيلاف" الفكر والأدب فيه. هناك قرأنا وناقشنا "الحيِّ اللاتيني" لسهيل إدريس، و "اللامنتمي" لكولون ولسون، و "عناقيد الغضب" لجون شتاينبك، و "الاحتقار" لألبرتو مورافيا، و "مرحبًا أيَّها الحزن" لساغان، وغيرها لفرانز فانون وسيمون دي بوفوار وبوريس بسترناك وإليوت، وكلَّ ما تمكَّنَّا من شراء نتاج طه حسين والعقَّاد ونجيب محفوظ وساطع الحصري. كانت لنا كنوزًا سَهُل الوصول لها، وتيسَّرت دروبها. فكم حريٌّ بي ويد "إيلاف" الحانية تقودني لماضٍ كم أودُّ لو أنَّه يصبح المستقبل، لا حنينًا لماضٍ فقط، بل لخوفٍ من مستقبلٍ يصبح فيه الأدب والشعر من سقط المتاع، أن أحرِّك "ذاك المكان" وأكون دليلاً لجيلٍ من الشباب جديد، يدخل رحابه ويغرف من غدقه!
لقد ترك "ذاك المكان" في ذاكرتي ما يستعصي على النسيان. كان المعينُ الذي ما أزال أرشف من مناهله وأتوق لغديره. ومكاني الذي أنا فيه الآن يتيح لي أن أتنقَّل لأماكن عدَّة، أتذوَّق من أطايبها وأنعم فيها تمامًا كـ "ذاك المكان". ولا إخالني مغاليًا إذ اجتزء من أبي الحسن بن عبَّاس بن جريج الرومي قوله: "يسهل الوصف، ويصعب التحديد."

مولد الثقافة من رحم الآلام!
لا جدال في أنَّ الشاعر أو الأديب أو الصحافي والمفكَّرين هم أرهف بني جلدتهم حساسية، وأقدر الناس على تفهُّم الواقع، ثمَّ معايشته والعمل على تغيير ما يرونه غير خليق بهم كأفراد وبمجتمعهم كأمَّة وشعوب. ولا شكَّ عندي في أنَّ اضطراب مجتمع ما سياسيًّا أو اجتماعيًّا، وغياب "العقد الاجتماعي" فيما بين أفراده أو فقدانه يولِّد لدى نخبته شعورًا بالمسؤوليَّة، وبالتالي ضرورة لتقديم الأفضل والأحسن. وهكذا لا مناص من أن يقدِّم هؤلاء نتاجًا يتميَّز من سلفه أو يكون امتدادًا له آخذًا بعين الاعتبار تجارب الأمم الأخرى وثقافاتها، ولا سيَّما في وقت أضحى العالم على امتداده "قرية كونيَّة". ولكن أيَّة ثقافة، وأكثر تحديدًا، ثقافتنا العربيَّة، إذا لم تؤسَّس على قواعدها وثوابتها، تفقد مكوِّنات حياتها، وتصبح هامشيَّة في الثقافة الإنسانيَّة. وهنا أعيد قولاً كنت قلته في حديث سابق عن أدبنا وتراثنا: "مَن اقتلع جذرًا من أرضه، كمن أعان جرذًا على قرضه."
في حديث لوكالة أنباء "رويترز" مؤخَّرًا، حثَّ الطيب صالح المجتمع الغربي على الاطَّلاع على الأدب العربي وضرورة ترجمته للغات أخرى ليجد له مكانًَا بين ثقافات تلك الشعوب. وطالما أنَّ تصوُّرات الشعوب عن غيرها مهم قدر حقيقة تلك الشعوب، علينا كأفراد، وكشعوب ونحن نواجه حاضرًا لا يبشِّر بكثير خيرٍ أن نعي مسؤوليَّاتنا، ونكون نواة التغيير في متغيِّراتنا، والحفاظ على ما نُجمع عليه أنَّه من ثوابت ثقافتنا. نعم، فمن "رحم التوتُّر الذي يسبق الحروب" قد تولد العبقريَّة ومعها ثقافة إنسانيَّة نصبح فيها شركاء لا مستهلكين.

أماكن عدَّة بدلاً من مكان محدَّد!
ولمَ لا. فالحركة سرُّ الحياة، والبقاء للأفضل. ومتى كانت الثقافة حكرًا على مكان معيِّنِ أو فئة! للمكان الرائد مقوِّمات يجب تتوفِّر فيه، ويبقى كذلك ما دام مستوفيًا لتلكم الشروط. وعلى مرِّ الأزمان كانت هناك مراكز ريادة في الثقافة والعلوم الإنسانيَّة، فمنها ما بقي ومنها ما عفى عليه الزمن. وفي عالمنا العربي الحاضر، تغلِّبت السياسة على الثقافة والآداب، ورويدًا رويدًا صار "ذاك المكان" غير ما كان عليه، ففقد صفته، والأمثلة كثيرة.
من الطبيعي أن تكون محليَّة المكان ذا أثر في نتاجه. ولكنَّ الريادة تتخطَّى "المحليَّة" لشموليَّة يمكن للآخر على تعداده وتنويعه أن يجد مكانًا عندها وإمكانيَّة في إثرائها. فهل أرض "الخليج" التي انبعثت منه رسالة السماء غير مؤهِّلة لتكون مكان ريادة ثقافيَّة إنسانيَّة جديدة! تنوُّع المصادر، وتعدُّد الأماكن مكسب كبير للثقافة. وأعتقد أنَّ تفضيل مكان ما على غيره محكوم بنتاجه وبعطاء المشاركين فيه من الأدباء والكتَّاب والشعراء والمفكِّرين. وهنا يصبح الجواب عن السؤال ذاتيًّا ونسبيًّا. فـ "إيلاف" على سبيل المثال هي المحرِّك الثقافي والرائد لكتَّابها ومطالعيها على امتداد الكرة الأرضيَّة. فهل هي حقًّا الوحيدة في ذلك! طبعًا لا. لذا فوجود "موئلٍ لاعبٍ دور المحرِّك الثقافي والرائد" مهمٌّ وضروريٌّ، ولكن ليس بالضرورة وحيدًا. فكلُّ مكانٍ يُنبت "الثقافة" طيِّب.

مكان "معلوم" وآخر بلا علامة.
قلت إنَّ الحركة علامة الحياة، وربَّما الجمود نقيضها، وإن لم يكُ موتًا. والموت يحدث إمَّا بالوفاة وأسبابها متعدِّدة، أو بالقتل أو الاغتيال، وله دوافع متعدِّدة أيضًا، أو بالانتحار وداوفعه محض شخصيَّة وذاتيَّة. والنقلة الثقافيَّة من مكان معلوم لآخر غيره، لا تختلف عن الموت. وشرُّ ذلك ما كان عن تقصبرٍ أو انتحار. وللظروف المحيطة بالمكان وموقف "ساكنيه" منه دور أساس في نفي صفته الثقافيَّة. ونظرًا إلى ضرورة وجود البديل، يصبح "اللامكان" الوارث الجديد لسلفٍ قضى نحبه، أو قُضي عليه. ولموضوعيَّة الردِّ، أشير إلى عددٍ من المدن العربيَّة التي كنت منائر إشعاع وعلم، غدت بـ "فضل" السياسة واحتكار أسبابها خاوية منها تجترُّ ماضيًا يزيد في ضعف حاضرها وثبور مستقبلها.

الثقافة مستقبل. فأيُّ مكوِّناتها يتحرَّك للأمام؟
إذا كانت الثقافة غذاء الفكر، فكلُّ ما يسيغه الفكر منها يجدُ قبولاً وهوًى في نفس صاحبه. والثقافة كجسم الحيِّ لكلِّ عضوْ فيه وظيفة لا بدَّ من تأديتها ليقوم الجسم بواجبه وتكتمل الحياة به. قطعًا هناك أعضاء أهمُّ من سواها، وبدونها تنتهي الحياة في الجسم. فالأدب الإنساني شعرًا كان أم نثرًا، علمًا أم أدبًا هو الذي يحدِّد مستقبل ثقافة قوم ودورهم في تقدُّم البشريَّة وارتقاء الحضارة.

مركز الإشعاع العربي الآن
إذا لم تسدل السجف على نوافذ المكان، ولم يحجب نور المعرفة عنه، يصبح مركز الإشعاع العربي اليوم في كلَّ مكان يجد الفكر فيه فضاء ليطير بأجنحته ويحلِّق في أجوائه. فحيث توجد الحريَّة والقوانين الطبيعيَّة العادلة الموضوعة والمستوحاة من روحيَّات الكون، يكون الإشعاع وينبثق النور. وبالقدر الذي تمكَّنت فيه التقنية من نشر نور الثقافة والمعرفة بكلِّ مكان، بالقدر الذي أثبتت أنظمة الأحاديَّة الشموليَّة والقهر عجزها عن الوقوف في وجه تيَّار الثقافة الإنسانيَّة الجارف. قد تحول مراكز الحدود من دخول كتابٍ أو صحيفة، ولكن كيف لها أن تمنع وصول "إيلاف" على سبيل المثال، على موجات الأثير! وهكذا يصبح "اللامكان" مكان الإشعاع الثقافي العربي. ولا ضير إن أتى من باريس أو لندن.

مجلاَّت كثيرة وانعدام الفرادة التاريخيَّة
ربَّما الأمر كذلك، ولكن للإنصاف، أشير إلى انفراد مجلَّة "العربي" التي منذ صدورها في الكويت عام 1958 ما تزال محافظة على مكانة فريدة لدى القارئ العربي في مختلف الدول العربيَّة، وبلا جدال في دول الاغتراب. هناك مجلاَّت متخصَّصة ولها الصدارة في بلدان صدورها، ولكن مع تعدِّد دول كتَّابها ظلَّت محصورة في مناطق معدودة، ولم تتمكَّن من الحصول على صفة "الفرادة التاريخيَّة". ما السبب؟ جريان الزمن بسرعة تفوق قدرة القائمين عليها المجاراة والمنافسة، وتقديم ما يناسب العصر وذوق القرِّاء. وربَّما انتشار المطبوعات الإلكترونيَّة وتحديد مجالات الاختصاصات كان لها دور كبير في الصحافة المطبوعة. فالمختص الذي يريد مادَّته ما عليه إلاَّ أن يزور مواقع تخصَّصه على الشبكة العنكبوتيَّة ليستعيض بها عن مجلَّة تختصُّ بمجال علومه

جدوى التنظيرات المستحدثة أم لا جدواها؟
عندما يصبح التقليد والمحاكاة سمة الكاتب أو الناقد، تنعدم الأصالة، وتفتقر الذات إلى مقوِّماتها. وعلى ما يبدو أنَّ جموع المنظَّرين العرب، لم يبدأوا بداية سليمة، وبالتالي أتت نتاجاتهم منقوصة، وغير ذات جدوى فرفضها المتلقِّي أو في أفضل الحالات أشاح عنها بازدراء أو بلا مبالاة. على ما يبدو كثيرون هم الذين يحاولون اختراع الكهرباء بدلاً من استنباط وسائل أفضل للاستفادة منها. لقد ملَّ المواطن العربي من كونه رقمًا تُجرى عليه التجارب، ومجتمعه حقلاً لها، فانفضَّ عن هؤلاء وتنظيراتهم إمَّا كارهًا أو يائسًا. وفي كلا الحالين كان المجتمع الضحيَّة. وخطورة الأمر أنَّ الدواء الناجع إذا لم يُعطَ للمريض في إبَّانه، لا حاجة به بعد الوفاة.

أيُّ مخرجٍ؟
على صعوبة الوضع القائم واستحكامه، هناك بداية قبس نورٍ بدأ شعاعه ينتشر في أرجاء الوطن العربي، ويرى فيه المواطن بوادر انفراجٍ. صحيح أنَّ الأزمات تفرض نفسها على المواطن والوطن، ويلجأ عندها كلاهما لمراجعة ذاتيَّة ونظرة إلى ماضٍ تُستلهم منه العبر والدروس على ألاَّ نمسي أسراه ومكبِّلين بسلاسله الذهبيَّة. آنذاك يضطرب الحاضر ويظلم المستقبل. وأعتقد جازمًا ومتفائلاً بأنَّ الإنسان العربي ومَن يشاطره العيش في موطنه بدأ يعي حقيقة الوجود، ويدرك أنَّ العالم غير ما صوِّر له، وبذا وضع القدم على أوَّل الطريق الصحيح. وما على النخبة ووسائل التنوير إلاَّ أن تأخذ بيده وتكون الدليل لفجر يوم جديد. وكم من ضيق أعقبه فرج، ولسان حال الشاعر يقول:
ضَاقَتْ فَلَمَّا اسْتَحْكَمَت حَلَقَاتُهُافُرِجَتْ وَكُنْتُ أَظَنُّهَا َلا تُفْرَجُ

الإرهاب!
قوّة الخصم ماديًّا ومعنويًّا وإعلاميًَّا هي التي تحدِّد مفهوم الإرهاب. وجهل المتَّهم وقلَّة حيلته وضعفه تؤكِّد مفهوم الإرهاب كما وضعه الخصم. المشاركة في لعبة نجهل قواعدها، ولم نتدرَّب عليها يكون مآلها الخسران. ومن العجيب أن نفرًا يدَّعي احتكار المعرفة وأصول الدين يصرُّ إلاَّ أن يتابع اللعب ولو اكتوينا بها قبل أن تصيب الخصم.
لقد أُرهبنا نفسيًّا، فإذا بنا نتداعى جسديًّا قبل الشروع في درء الخطر عن أنفسنا. فالسلوك وحده لم يعد كافيًا للحكم على فردٍ مَّا، بل مفردات كلامه ونمط تفكيره، وإن لم يجاهر به غدا محسوبًا عليه، فيمسي العقاب ليس على قدر "الجريمة"، بل على تقديرها في ذهن من يدَّعي العقاب عليها.

المستقبل بين ماضٍ "أبيض" وحاضر "أسود"
الحياة ليست أبيض وأسود فقط. وما لم تتمازج الألوان وتتشابك تصبح الحياة رتيبة والمستقبل قاتمًا. ليس تركيزنا على ماضٍ ندَّعيه أبيض هو سبب نكستنا وأساس انكفائنا على ذواتنا ودفن رؤوسناء في وهم رمالنا. لقد لعبت السياسة الدور الأقسى في تهديم مجتمعاتنا أخلاقيًّا وسلوكًا وضميريًا. وهذه السياسة حدَّدت بكلِّ أسف شروط المواطنة وقبول المواطن. فلا عجب أن حفرنا بئر تأخُّرنا بأيدبنا، وأصبح الرئيس الرمز معادلاً للوطن، وأحيانًا أكثر، هو الوطن. لقد شوًّهنا جمال وجوهنا بأيدنا، ثمَّ جلسنا نندب حظَّنا على دمامة وجوهنا.

ألسنا نحن العرب جديرين بعيشٍ مماثل لغيرنا من البشر؟
سؤال استنكاريٌّ أرى فيه إجابة تغني عن سواها. بلى، جديرون بكلِّ ما لهذا السؤال من معنًى. جديرون أن ننعم النظر في حضرنا، ونستلهم العبر من ماضينا، ونخطِّط بحكمة ودراية مستقبلنا. وليست الأمم التي جاوزتنا في هذا بخيرٍ منَّا. ولكن للتقدُّم أسباب وشروط. وما لم نستوعبها ونقبلها وتكون منارة هداية لنا، سنظل في ضلالة الطريق نجترُّ أوهام الماضي وعبء المستقبل.
عندما تحكم المجتمع قوانين وأنظمة يتِّفق عليها المجتمع، لا قوانين مخابرات وأجهزة أمن لترويع المواطن. عندما يصبح رجال الدين رسل خير وهداية من السماء لبني البشر، وليسوا حاشية للقصر يبيحون ما يستحل ويحرِّمون ما يكره. عندما يصبح ضمير الكاتب والصحافي والشاعر والمفكِّر هو الذي يملي عليه ما يكتب، وليس بوقًا للحاكم، آنذاك، نساوي غيرنا في حياة كريمة وعيش شريف.

***

محمد صوف (روائي مغربي مقيم في المغرب)

هل ينبغي أن نلتفت إلى الخلف.
وأن نظل سجناء ذاكرة. أن نواصل البكاء على الأطلال. ؟
ذاك زمن ولى.
و العيب فينا.

أصبحت شخصيتنا ملامح غير تلك الملامح التي كانت لها أيام القاهرة وبيروت وبغداد. لسبب بسيط هو أننا بارعون في السقوط والتراجع. و أصبح الفشل سمتنا الأولى.
شئنا أم أبينا فالسبب يعود إلى راسمي قدر هذه الأمة. شاءوا أم أبوا هم الذين أوقفوا زحف الثقافة. هم الذين رفضوا أن يسمعوا كلمة لا تخرج من طيات الثقافة. وهو الذين أبوا إلا أن يشتتوا النظرة المتجهة نحو المركز.
ل أحد ينكر دور القاهرة في الوجدان الثقافي العربي و لا أحد ينكر انتظار الكتاب الآتي من بيروت ولا أحد ينكر دور بغداد في تشكل الذات الثقافية العربية.
كان الاتجاه موحدا. و كان العرب يستطيعون الحديث بلغة واحدة.
من من المهتمين لا تسكن "لآداب"وجدانه ؟ من من حاملي هم الكلمة يستطيع أن يتناسى دور مجلة شعر.. و كم من أديب رسمت "لطليعة"خطواته الأولى ؟ و كم من مواطن فتحت " مواقف " عينيه على شيء اسمه الثقافة و دخلت متاهات لذيذة تتصارع فيها الأفكار و النظريات و كم من مدين لل"كاتب " و "لكلمة " و " حوار " بحمولته الثقافية الآن ؟
التلاشي بدأ بالتدريج.
وملامح المحيط بدأت تطل من كل حدب و صوب دون أن تنجح في رسم يوازي الصورة القديمة على الأقل في استقطاب اهتمام من يحمل هم الحرف.
صحيح أن هناك منابر في الخليج و في المغرب العربي و في المهجر تعمل على إذابة الجليد في هذا الهجير العربي. لكن ماذا يعرف المغربي عن الثقافة في موريتانيا ؟
ما ذا يعرف الجزائري عن الأدب المغربي ؟ و ماذا يعرف التونسي عن الثقافة الليبية ؟
و رغم تنوع المنابر في المحيطات يظل فكر الخليج مجهولا في باقي البلاد العربية ولم لا في الخليج ذاته ؟ ما كان الجيل العربي السابق يعرفه عن مصر ولبنان والعراق و سوريا لا يعرف الجيل الحالي عنه شيئا. ولا يعرف المصري عن الأدب المصري شيئا و لا اللبناني عن اللبناني ولا.. ولا.. و هلم جرا.
المنابر كثيرة و خفوتها أكثر.
تعددت المراكز و الجهل واحد.
السبب الجوهري هو أن الثقافة بعبع يخيف الأنظمة. فترضيه. تلهيه كما نلهي الطفل المشاغب بشوكولاطة و لتكن هذه الشوكولاطة بلجيكية ثمينة.. ثم تقوم بواجبها الذي يحتمه عليها توجهها العام الرافض لشيء اسمه الثقافة إلا إذا عند استخدامه لأغراضها. فلا المجلات تصل إلى كل الأرجاء. وحتى إذا حدثت المعجزة ووصلت فإنها أولي الأمر منا عملوا على ألا تجد متلقيا إلا من رحم ربك.
ارجعوا إلى الإحصائيات الصحيحة نسبيا لتجدوا أن الأمية لا تزال تقيم بين ظهرانينا.
راجعوا المقررات التعليمية على امتداد التابوت العربي لنجدوا أنها لن تنتج سوى خنوع جزوع هلوع هدفه اللقمة و بعدها السكن وبعده السيارة وبعده مشاهدة الفضائيات الراقصة.
ثم لنضع اليد على مكمن الداء.
إنه العجز الديمواقراطي الذي يرتسم أسفل حصيلة سنواتنا.
والعجز الديموقراطي يأتي من غياب المعرفة.
لننتج مواطنا عربيا يعرف أبجديته أولا. إذ الكل أصبح يرطن باللغات الأخرى و يعتبره ذلك إغراقا في التقدم. ثم لنفتح له مجال اكتساب المعرفة وبناء شخصيته بعيدا عن التلقين. لنفتح له باب الاجتهاد دون أن نغرقه في الممنوعات واللاْءات التي تحفل بها معاجمنا السياسية. لنعلمه كيف يقول ما يريد عن اقتناع لا عن سقوط في الخنوع. لنعلمه كيف يقول كلمته هو لا كلمة الحاكم. لنعلمه كيف يقرر مصيره بنفسه. كيف يخرج من الكلام الأجوف الذي يسمعه ليل نهار.
ولننتظر النتيجة.
ساعتها قد تصبح كل المحيطات مراكز. و ساعتها ستسعى إلى أن تتآلف من أجل إنتاج فكر يشكل السيرورة إلى الحقل المعلوم.