عندما كان للثقافة مركز - مكان
كيف، لماذا وإلى أين هي اليوم؟

في سنوات بعيدة، كان هناك المكان الثقافي الذي له قدرة الإشعاع والتأثير على مراكز محيطه. كان يسمى المركز - الموئل: القاهرة"، "بيروت"، "بغداد"... والعالم العربي بأسره كان يُنظر إليه بواسطة هذا المكان المحدد جغرافياً. فمن غليان أحشائه، كانت تخرج التصورات والمفاهيم التي تدلُّ الأجنبي على الجديد في هذا العالم العربي الغريب في نظره. مكانٌ ابتكرَ مجلات طليعيةً بعضُها لعب دوراً أساسياً في تغيير الذائقة الثقافية العربية؛ مجلات كل واحدة منها، كان لها متعطشون ينتظرونها بفارغ الصبر، وكأنها مصدرهم المقدس: "شعر"، "الآداب"، "حوار"، "مواقف"، "الفكر المعاصر"، "الطليعة"، "الكاتب"، "الكلمة"... الخ.
جاءت حروب وانقلابات. جرت مياه كثيرة تحت جسر الكلمات والأفعال. فضاع هذا المكان، أو بالأحرى لم يعد من السهل تسميته وتحديده جغرافياً اليوم، وكأن انزياحاً حصل له، نزعَ عنه صفة المركز، بل بعضُ مجلاته توقف، والآخر استمر، لكن لم يعد له بريقُ الوهلة التاريخية الأولى.
على أن هذا المركز- المكان بقي في الذاكرة العربية صورةً من صور الحرية، فترةً "ليبرالية" كانت تسودها الدهشة والرغبة في المغامرة فكراً وحياة وتجريباً في لب الإبداع؛ فترةً غالباً ما يحنّ إليها اليوم أصحاب الفكر الحر، وفي خَلَد كل منهم ذكرياتٌ وذكرياتٌ وذكرياتْ. حتى سجناؤها يتذكرونها بمتعة، لكن.. أوّاه، كم كريهة هذه الفترة الجميلة في ذكريات جيلها النرجسية!!
اليوم، ويمكننا أن نقولها شبه متأكدين، أن هذا المكان بات جزءاً من التاريخ، ولم يعد له وجود، ولا دور في وقائع الحاضر. بل نكاد نشعر وكأنه لم يعُد اليوم هناك أي دور لأي شيء، إثر غيابه.
مكانه برزت مراكز المحيط، لكن دون أن يقدر على الادعاء أي منها صفة المركز. فمجموعها يُشكِّل مركزاً واحداً اسمه العالم العربي. وعلى نحو يتحرك فيه كلٌّ وفقاً لما يمليه عليه وضعه الثقافي المحلي. ولهذه المراكز مجلات، ومجلات لها دور تبادلي ثقافي بلا أدنى شك، لكن لا يتراءى في ما تنشره من تلك العلاقة المقدسة بين المرسل والمتلقي؛ وليس لها ذاك الدور الطليعي الذي كانت تتميز به، مثلا، مجلة يوسف الخال "شعر"، أو مجلة لطفي الخولي "الطليعة".

***

ما ذاك المكان في ذاكرتك وكيف تقييمه اليوم؟
هل تفضّل، على غيابه، وجود هذه الأمكنة – المراكز (الخليج، المغرب، المهجر الانجليزي...) التي تتحرك اليوم، وفق ما تملي عليها محليتها، لا يهمها الريادة الثقافية، أم تفضّل أن يكون هناك مركز - موئلٌ لاعباً دور المحرك الثقافي والرائد؟
كيف حدثت هذه النقلة الثقافية من مكان معلوم، إلى أماكن بلا علامة؟
الثقافة مستقبلٌ، لكن أيَّ مكوّنٍ من مكوناتنا الثقافية، يتحرك اليوم إلى الأمام؟
أين هو مركز الإشعاع الثقافي عربياً اليوم؟
لماذا هناك عشرات المجلات القيّمة، ومع هذا تبدو بلا فرادة تاريخية؟
ما فائدة كل هذه التنظيرات التي تعجّ بها معارضُ الكتب العربية، وما هو ثابت في الأذهان، ثابت ثقافياً، لا يمكن زحزحته؟
أي مخرج يُرتأى من مأزق حاضرنا الثقافي الذي أخذ يُنمّي، من جهة، حنيناً سكونياً إلى ماضٍ حركي في زمنه، ومن الجهة الأخرى يُشكك بكل مغامرة جديدة كل الجدة، باختزالها آلياً إلى نوع من مغامرة، سبق أن رأيناها؟
أيّةُ خاتمة لعالم المكتوب، وأنَّ أيَّ اكتشاف، مهما كان، لم يعد اليوم دهشةً ولا تغوّراً، وإنما مجرد وسيلة أخرى للقضاء على مصادر (بعبع) أُصبنا به: الإرهاب؟
لماذا بتنا وكأننا نعيش بلا مستقبل، بين ماض "أبيض" وحاضر "أسود"، أسرى جمال فترة بقيت في الماضي، أشبه بمنظور نُطلُّ منه على غد جوّال.
أنعيش، نحن العرب، على عكس المجتمعات الطبيعية، الأوروبية مثلا، التي حققت ماضيها على نحو تعيش معه حاضراً، بوصلتُه مستقبلٌ الحنينُ، ليس نكوصاً، وإنما رغبة في المزيد لا غير؟
صحيح أن الحاضر صنيعة الماضي، لكن الماضي هو أيضاً صنيعة حاضر تقوى فيه القراءة الجدية على رؤية مسار تاريخ مجتمع بأكمله، لتقف عند محطة جوهرية لم ينتبه إليها أحد في ذلك الماضي – التاريخ: وها هو الحاضر ماضٍ، يطلع من نفق مواض كانت تمنعه من التقدم.

***

لَم نفتح هذا الاستفتاء من باب الحنين إلى ماض مثمر، ضد حاضر عقيم. أو من باب نبذ الماضي، والدخول في حاضر استباق. كلا!
فما كان، لن يكون أبداً. وما لن يكون، كائنٌ اليوم. وليست تساؤلاتنا هذه أسئلة بالمعنى العادي للكلمة؛ أي أن يُجاب عليها: واحد، اثنان، ثلاثة.. الخ. كلا!
ما يهمنا في هذا الاستفتاء هو تأمل هذا الموضوع، وما يثيره من تساؤلات. يهمنا، بنص مكثف لا يتجاوز الألف كلمة. تأملك في جوهر ثقافتنا:
كيف كانت تتحرك؟
لماذا هذه السيرورة إلى باب مختوم، وليست سيرورة إلى حقل معلوم؟
وإلى أين هي اليوم؟

أجوبة:

الحلقة الأولى: أمجد ناصر/ د. مالك المطلبي/ صالح كاظم وحسن ولد المختار

الحلقة الثانية: ياسين طه حافظ/ أحمد عيد مراد ومحمد الصوف

الحلقة الثالثة: شربل بعيني/ أحمد أبو مطر وأمير الدراجي

الحلقة الرابعة: إسماعيل نوري الربيعي/ باسم المرعبي وهاتف جنابي

الخاتمة: د. سيار الجميل وأسامة عجاج المهتار