هذا مساء يليق برحيل النبلاء.

مساء رمادي شفيف يناسب تماما شخصية الشاعر الدكتور أحمد سعد الدين أبورحاب، الذي غيّبه الموت مساء السبت الماضي 21 من أبريل.
وأحمد سعد الدين أبورحاب صديق شخصي لكل أدباء مصر، ولابد أن الأدباء الذين زاروا سوهاج على مدار الثلاثين عاما الماضية يحملون له تفاصيل صغيرة، وحكايات جانبية، فقد كانت زيارته في قصره الباذخ بقرية العسيرات جنوب سوهاج، ركنا أساسيا من أركان أية ندوة تقيمها المحافظة.
ولد أحمد سعد الدين أبورحاب في الرابع والعشرين من يونيو عام 1944، وتخرج في كلية تجارة المنصورة ، وعين معيدا بها، وتدرج في السك الأكاديمي إلى أن أصبح أستاذا أكاديميا بها، غير أن النداء القبلي لعائلته الكبيرة انتزعه من مقاعد الدرس، فخلع الروب الأكاديمي، وارتدى حلة البرلمان، ليصبح واحدا من أكثر أعضاء مجلس الشعب تداولا على الكرسي البرلماني، حيث تم انتخابه لأكثر من دورة متتالية، منذ عام 1979 غير أن الاهتزازات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي مرت بالبلاد في السنوات الأخيرة، جعلته يفشل مرتين متتاليتين في دخول البرلمان، وكان قد هيأ نفسه تماما كرجل برلماني لامع، الأمر الذي سبب له كثيرا من الأسى.
الدكتور أحمد سعد الدين أبورحاب، ازدحمت حياته بالشعر والرواية والقصة، ولعل ذلك من أسباب عدم ترسيخ اسمه جيدا في خريطة الإبداع المصري، فقد قدم نفسه لأول مرة كروائي وهو في العشرين من عمره بروايته ( الأيام الميتة ) عام 1965، ثم أعقبها بمجموعتين قصصيتين هما ( وداعا أيها القلب المحطم ) عام 1969 و ( ماذا تفعلون بهابيل ) عام 1976، مما لفت إليه الانتباه كسارد متفرد، وبدأ المتابعون يعدونه كأحد شباب الكتابة الجديدة،إلا أنه سرعان ما فاجأ الأوساط الأدبية عام 1981 بديوان ( أغنيات الثورة المستحيلة )، ومنذ هذا التاريخ توالت دواوينه الشعرية الكثيرة التي تجاوزت السبعة دواوين، منها ( خماسية الموت والوجود ) و ( المتفرد ) و( ثلاث قصائد ) وكان يعد لإصدار آخر أشعاره بعنوان ( التاريخ السري للحزن )، غير أنه كان يصدر كل أعماله على نفقته الخاصة، وهو الأمر الذي جعل هذه الإصدارات كأنها لم تكن، إذ كان بطبيعته الانعزالية والمترفعة، لا يهتم بإيصال أعماله إلى النقاد والمبدعين والصحفيين، فظلت أعماله طوال الوقت بعيدا عن أعين الراصدين.
غير أن ثمة شيئا آخر كان يشغل تفكيره طوال الوقت، ويزحم شعره وسرده وأستاذيته في الجامعة وبرلمانيته في مجلس الشعب، وهو التأليف الموسيقي، وأظن أنه كموسيقي عبقري قد خانه التوقيت الحقيقي لزمانه، وأن مأساته الكبرى تكمن في غربته كموسيقي في مجتمع يخلط في ما بين الموسيقا والغناء والرقص، وكان هو كدون كيشوت الذي يحارب طوال الوقت طواحين الهواء. كان يؤلف الموسيقا البحتة، ويذهب ndash; كطبيعته في الكتابة ndash; إلى الاستديوهات، ويقوم بتسجيلها على شرائط كاسيت ويطبعها على نفقته الخاصة وهو الأمر المكلف ماديا جدا، تلك الشرائط التي لن يتاح لأحد أبدا أن يشتريها أو يستمع إليها، لأنها ببساطة تطرح في أسواق يؤمها الرقاصون ومطربو بدايات القرن ذوو الوسط المخلوع.
الذين جلسوا إلى الدكتور أحمد سعد الدين أبو رحاب، وتحدثوا إليه، واستمعوا لأفكاره، سيظلون طوال الوقت، يحتفظون في مخيلتهم، بتشكيل بصري لرجل بالتأكيد ليس من هذا الزمان. رجل ينزع إلى الفضيلة كمعنى، وإلى القيم كأساس راسخ في التعامل، وإلى المثالية كمنطق حقيقي ينبغي الارتكان إليه.
وستظل فرقة كورال الأطفال للعسيرات، التي أنشأها الراحل الكبير في قلب صعيد مصر، وأنفق عليها من ماله الخاص، ووضع لها الموسيقا والأشعار، وأقام لها الحفلات في المسارح الكبرى، والتي مازال التليفزيون المصري يحتفظ في أدراجه ببعض أغانيها ويذيعها بين الحين والحين، ستظل هذه الفرقة واحدة من إبرز إنجازاته الفعلية.
وسيظل الدكتور أحمد سعد الدين أبو رحاب، عائشا في وجدان أهله وعشيرته وأبناء عمومته ndash; هو الذي لم يتزوج ولم ينجب ndash; بما تركه على دكك الدواوين في ( منادر ) العسيرات، من أحاديث ومسامرات لا تنتهي، أما طلاب الشعر ومتابعو الإبداع فبالتأكيد يوما ما سيكتشفون زهوره العاطرة.
أرسل لي الدكتور أحمد سعد الدين أبو رحاب، قبل رحيله بأيام، قصيدة على بريدي الالكتروني عنوانها ( تولى زمانك إلا قليلا )، يقول فيها :

تولى زمانك إلا قليلا
تولت حكاوى الشتاء الدفيء
وأفراح قلب برئ
دموع الفراق..وفرح اللقاء
وأول أغنيةٍ للهناء
تنام وتحلم حلما طويلا
تولى زمانك الا قليلا .

كان يدرك أن زمانه ولى، إلا قليلا، وكان يعرف أنه مائت عما قليل، غير أن الذي لن يتاح له أبدا أن يعرفه، أنني أعددت رسالة له، أنبئه فيها أن زمانه كله قادم، ولم يتول، ولو كنت بعثتها له، لعرف أنني أكذب عليه، ولعرف أنني أعرف أنه يعرف ذلك، فقد فقد صوته تماما في السنة الأخيرة وكان يتكلم بالكتابة سواء بالايميلات أو الرسائل الهاتفية، وكانت آخر جراحة له لتركيب صمام في الحنجرة لتعلية الصوت.

الدكتور أحمد سعد الدين أبورحاب
سبقتنا إلى عالم مثالي ليس فيه أضغان أو أحقاد.
عالم يليق بأمثالك من النبلاء والمثاليين.
اذكرنا
اذكرنا هناك
يا صاحب القلب الأبيض.

السمّاح عبد الله شاعر مصري

[email protected]