في حشد من المثقفين والمبدعين والسياسيين
تكريم جابر عصفور في حزب التجمع
محمد الحمامصي- إيلاف:
جاء حفل تكريم الناقد الكبير د.جابر عصفور مزيجًا من الإحتفاء به، كمثقف كبير وناقد عظيم، وبالقيم الثقافية والإنسانية التي عمل على ترسيخها خلال رحلة عطائه، قيم العقلانية والتنوير، وأيضًا الإحتفاء بذكريات ومواقف جمعته بهؤلاء المبدعين والمثقفين والنقاد والسياسيين من أساتذته وزملائه وتلاميذه ، الذين احتشدوا تقديرًا واحترامًا لجابر عصفور الإنسان والمثقف والناقد والمفكر .وقد حمل هذا التكريم خصوصية إقامته بحزب التجمع، بدعوة من مجلة أدب ونقد التي يرأس تحريرها الشاعر حلمي سالم ولجنة الثقافة بالحزب، وقد قدم سالم للاحتفالية ولمتحدثيها واستمرت ما يزيد عن ثلاث ساعات كان يمكن أن تزيد إلى الضعف، لولا طلب الاختصار من المتحدثين، وكان بين المتحدثين د.يونان لبيب رزق ، حمدين الصباحي ، طلعت الشايب ، زين العابدين فؤاد ، ود.مجدي توفيق ، د.عماد أبو غازي ، سعيد الكفراوي ، وكان بين الحضور عرب أرادوا الإحتفاء بعصفور، من بينهم الكاتب الفلسطيني توفيق فياض، واليمني عبد الباري طه، والمغربي ميلوت حبيبي ، وقد تحدثوا جميعًا في كلمات قصيرة عن أن عصفور استطاع أن يجعل من المجلس الأعلى للثقافة جسرًا يربط بين العرب والمصريين، بل جعله بيت العرب، وقالوا في كلماتهم انهم يترقبون الوقت كي يشهدوا عصفورًا في بلادهم للاحتفاء به. وهذه بعض الشهادات أو الكلمات التي احتفت بجابر عصفور الإنسان والمثقف والناقد.
زين العابدين فؤاد (المثقف المسؤول جابر عصفور) :
لم أتعامل كثيرًا مع جابر عصفور كمسؤول في حقل الثقافة المصرية، لكني تعاملت معه لعقود كمثقف يحمل مسؤوليته بكل جدية ، مسؤولية جابر في الثقافة العربية يمكن أن نلحظها بعد قراءة الفصول الأولى من رسالته للماجستير، مسؤولية تجاه العلم وتجاه نفسه، أنه يجب أن يتسلح حتى يمكن أن يقدم الجديد. فإن بناء الصورة الشعرية عالم واسع وأرض من الرمال المتحركة لا يمكن أن يصل به إلى أي نتائج من دون صرامة منهجه وجديته الكاملة ومسؤوليته تجاه نفسه وجامعته وطلابه. عرفت جابر عصفور المثقف الذي يمارس مسؤوليته تجاه مبدع كبير يقطن في الغرفة رقم 8 ، تجاه أمل دنقل على سرير مرضه، وكان جابر يعمل خارج مصر وقتها، لكنه بذل كل طاقته لتوفير كل سبل العلاج الكريم لشاعر لا يملك سوى كرامته ، لم يكن جابر وحده في ذلك ، لكنني أشهد أنه أدى الدور الأكبر ، ربما تكون شهادتي مجروحة لكن وصية أمل دنقل لا تحتاج إلى تعليق، لقد أوصى أمل أن يرافق جثمانه في رحلته الأخيرة إلى قنا كل من الراحل العظيم عبد المحسن طه بدر وجابر عصفور وعبد الرحمن الأبنودي ومنى أنيس وزين العابدين فؤاد. كانت تلك هي الرحلة الأصعب التي رافقت فيها جابر عصفور، لم يكن موقف جابر من أمل حالة عابرة، بل كان سلوكًا دائمًا، هذا هو المثقف الذي يمارس مسؤوليته، لذلك نكرمه اليوم، هذا التكريم للأحياء أسلوب لا بد أن يستمر، فنحن أبناء حضارة الموت، ويجب أن نمارس حب الحياة وجابر عصفور عاشق طفل للحياة ونموذج فذ للمثقف، وقد تعودنا من جيل الأساتذة العظام الذي سبقنا، أن نرى المثقف الموسوعي، وآخرهم عبد العظيم أنيس ورشدي سعيد ، لكن ذلك الوصف يصبح شحيحًا في جيلنا ويبقي جابر عصفور نموذجًا فريدًا لهذا المثقف الموسوعي، ويجب أن ننتهز هذه الفرصة لنطالب بتكريم العديد من المبدعين الذين يعيشون بيننا ولا يزالون يمارسون مسؤولياتهم كمثقفين تجاه الوطن وقضاياه، وهناك طابور طويل لا زال ينتظر، وإذا كان الشاعر العظيم صلاح عبد الصبور قد وصف أحد النقاد بأنه أكثر كتاب مصر ثقافة وأقلهم إحترامًا لها، فإنني يمكن أن أصف جابر عصفور بأنه من أكثر كتاب مصر ثقافة وأكثرهم خدمة لها، سوف تظل كتابات جابر مساهمة فعالة في معاركنا الفكرية نحو التنوير ، لكن أعماله ستظل أكثر فاعلية وتأثيرا في مجمل حياتنا الثقافية ، فالمشروع القومي للترجمة الذي احتفل بإصدار أكثر من ألف عنوان خدمة لا تقدر للثقافة العربية، وحتى لو طلع علينا مثقف متأسف. وقال إن بعض الاختيارات رديئة وبعض الترجمات أردأ ، فسوف أوافق وأقول حتى لو ألقينا بنصف المشروع في البحر فسوف يظل النص الآخر جسرًا من تواصل مع ثقافتنا العالم، وسوف يظل هذا النصف إنجازًا يحسب لجابر وللفريق الممتاز الذي اختاره للعمل في هذا المشروع ، ثم يأتي تحقيق المركز القومي للترجمة عملاً يحسب لجابر عصفور.
الكاتب والمترجم طلعت الشايب:
يتكلم فنراه، نعمل معه فنصدقه، إذ ندرك أن الكلمات والأفكار تكتسب مصداقيتها من الواقع عندما تتحول إلى أدوات لتفجيره وتجاوزه، هكذا أستطيع أن ألخص شخصية جابر عصفور الأكاديمي والناقد والمفكر المستنير المسؤول الثقافي في أي موقع، المؤمن في كل الحالات بحق الاختلاف وبحق الخطأ الذي هو اللازمة المنطقية لحق الاختلاف، لذلك فإن تغير المواقع لا يشكل قيدًا على حرية القول أو الفعل بالنسبة إلى ذات حرة مريدة تنطلق من أرضية ثقافية منحازة بطبيعتها للمستقبل منشغلة بمعاني التطور والتقدم مدركة في كل الأوقات أن الماضي ليس سوى عنصر من عناصر الحاضر المتعدد ، جابر عصفور الذي أراه أنبغ تلاميذ العميد بوعيه المستقبلي الاستشرافي وبالعقل الذي هو أداة هذا الوعي يقاوم والذين معه أفرادا وجماعات في مواقع كثيرة قوى شغلها الشاغل معاني المحاكاة والتقليد والاتباع والنقل وإلغاء العقل وحجب سؤال المستقبل من حياتنا.
جابر عصفور ومن هم على شاكلته في أماكن مختلفة من هذا الطراز الفريد يدعون لنظام ثقافي فريد، نقطة الانطلاق الحقيقية فيه هي الاختلاف ، أقتبس أدونيس (كل الإجابات العمياء والأسئلة وحدها هي الموصلة) ، نقطة الانطلاق إذن هي التي تقرع جدران الصمت، حيث فصل المقال فيما بين الثقافي والسياسي والاجتماعي والديني، وإن كان المنظور الثقافي الأول بالاستقلالية هو كذلك الأول بكل اهتمام ، إن دعوة جابر عصفور إلى خطاب ثقافي جديد لا تعني ولم يقصد بها أبدًا توحيد الخطاب أو الدعوة إلى خطاب واحد، لأن ذلك سيكون عودة إلى أحادية الصوت القامع المانع لغيره من الأصوات، إنه يدعو إلى خطابات ثقافية متعددة متنوعة ومتسامحة ، تثري الانفتاح على الآخر، ولا تكف عن مسألة مكوناتها الذاتية قبل أن تضع غيرها موضع المسألة ، ولاستحالة الفصل بين ما يحدث في العالم من حولنا وما يحدث هنا في مصر ، يعطي جابر عصفور أهمية قصوى للوعي النقدي الذي يتحول إلى جبل تأثير وتأثر ، فكل نجاح يحرزه المثقف في فهم ظروف العالم وكل إنجاز يضيفه في مدى مسألة هذا العالم والكشف عن أسراره كما يقول يفضي إلي نجاح مماثل في تفهم ظروف الواقع المتخلف ويدفع الفهم إلي المضي بعيدا في مسألة كل ما له علاقة بمشكلات التخلف وقضاياه، والعكس صحيح بالقدر نفسه،فكل إدراك سليم للواقع الذي يعيشه المثقف، وكل فهم لمشكلاته النوعية وخصوصية أوضاعه الضاغطة لا بد من أن نفضي إلى صياغة جديدة لأسئلة جذرية جديدة. قلت إن تغيير المواقع لا يشكل قيدًا على حرية القول والفعل، عندما تكون أرضية الانطلاق أرضية ثقافية صلبة ، وعندما وضع جابر عصفور أمين المجلس الأعلى للثقافة والمشرف على المشروع القومي للترجمة الخطوط العريضة لهذا المشروع، كان منطلقه الأساسي هو أن تكون الترجمة مشروعًا للتنمية الثقافية وأن تكون التجربة منحازة إلى كل ما يؤسس لأفكار التقدم وحضور العلم وإشاعة العقلانية والتشجيع على التجربة. ومن موضع المفكر المؤمن بالحوار، أتاح لنا من خلال المجلس والمشروع القومي للترجمة، ومن خلال علاقاته الثقافية والإنسانية الواسعة، فرصة للحوار مع عدد من كبار مثقفي العالم الذين ترجم لهم المشروع ، جاءوا وتحدثوا واستمعوا إلى جاك ديدار، أمبرتوإيكو ، بيتر جران ، روبرت يانج ، برويز أمير علي ، والقائمة طويلة... كل هؤلاء جاءوا إلى مصر، وما كانوا ليجيئوا لولا العلاقات المحترمة الثقافية والإنسانية التي تربط بينهم وبين جابر عصفور ، ومن موقع الكاتب المفكر الذي لديه ما يقوله ويعرف جيدًا كيف يقوله ، ها هو يناقش في مقالاته أفكار محمد خاتمي وأعماله، ومن قبله كفوكايما وهنجنتون ومهاتير محمد وسيد ياسين ورفعت السعيد والقائمة طويلة. لا أذكر أننا سألناه يومًا عن كاتب أو ناقد أو عن كتاب أو قضية ثقافية، وكذلك هو أيضًالم يضف إلينا. وهذه هي أجمل لحظات اليوم التي نقطع عليه فيه حبل أفكاره، وهو أحيانًا في قمة الغضب والثورة على تفصيلات إدارية ومشكلات يومية ، فنسأله فيتهلل وجهه ويزول عنه التوتر ويقول (شوف يا سيدي) وتكلم عما نسأل عنه من كتب وشخصيات ونظريات وأعمال أدبية وفكرية.
جابر عصفور من موقع جديد، أو دعوني أقول من مربض جديد على جبهة المواجهة الثقافية، مديرًا لمركز القومي للترجمة، وهو لمن لا يعرف صاحب الفكرة والمقاتل حتى أن تتحقق ، ويناصبنا كل يوم إلى ما قبل الترجمة وما بعد الترجمة في هذا المشروع الطموح ، يقول علينا وليس عليكم ، فقبل الترجمة يشغل بالاهتمام بقاعدة للبيانات ومركز للمعلومات وتدريب شباب المترجمين والتدقيق في كل تفاصيل إنتاج وصناعة الكتاب ، ما بعد الترجمة يشمل التسويق والتوزيع حتى يصل الكتاب إلى القارئ ، ثم يأتي الأهم وهو تلقي الكتاب المترجم حتى لا يظل رهين المحبسين المطبعة والمخزن ، الاهتمام المكثف بتلقي الناقد والقارئ للكتاب، وهو ما يعني الندوات والحلقات البحثية والمراجعة النقدية ، وباختصار لا بد من أن تتحول الكتب المترجمة إلى حالة حوار تتسع لتصبح حالة مجتمعية ، وهنا فقط نستطيع أن نقول فقط أن الترجمة مشروع نهضوي ومشروع للتنمية الثقافية وتكون هناك شخصية للشعار الذي رفعناه هو أن المركز القومي للترجمة جسر للتواصل مع العالم.
لا أريد أن أتكلم كثيرًا عن عطاء جابر عصفور الكبير للثقافة في مختلف المواقع، حتى لا أتهم بأنني أبالغ ربما بالتركيز على دور الفرد في التاريخ أو في المجتمع، خاصة أننا في حضرة حزب التجمع حيث الجماهير هي صاحبة الكلمة العليا، على أي حال الحديث عن أدوار جابر عصفور المتعدد يحتاج إلى ندوات وتفصيل، أود فقط أن أشير إلى أنني من خلال تجربة العمل معه تأكد لي أنه كما أن هناك كلمات مفاتيح في أي لغة ، هناك قيادات مفاتيح تضيف إلي المواقع إخلاصهم وتفانيهم ونزاهتهم الفكرية والشخصية ورهانهم علي المستقبل يجعل أفئدة من المثقفين ومن يحبون هذا الوطن تهوي إليهم. ولعلها مناسبة أتاحها لنا الأعزاء في حزب التجمع وجريدة الأهالي ومجلة أدب ونقد، أن نقول لجابر عصفور شكرًا على كل شيء متعك الله بالصحة والعافية ووفقك على طريق العمل المنتج تحت راية تحملها ونحملها معك مكتوب عليها لا إمام سوى العقل في صحبه والمساء.
الدكتور مجدي توفيق :
أعرف الليلة أن المحبة عبء رائع ، أعرف ذلك وأنا أرى اللغة تراودني وتستقيل، وتقول لي لن أستطيع أن أؤدي المحبة التي تحملها للأستاذ الجليل ، تذكرني بتلك الليلة في السنوات الأخيرة من الثمانينات من القرن الماضي، ليلة ناقش لي رسالتي للماجستير ، فكان أداؤه الأكاديمي مبدعًا، ليلتها عرفت معنى العبارة التراثية المشهورة (لم أر عبقريًا يفري فريًا) وليلتها لم تستطع اللغة أن تؤدي حق الشكر ولم أعرف كيف أعبر له عن محبة أكبر من أي كلمات. كنت على الدوام أقدره أستاذًا أكاديميًا لا يشق له غبار ، كنت معنيًا بالتراث النقدي القديم، وكنت أقدر له أنه في كتاب الصورة الفنية أول من استقدم خطاب فلاسفة الإسلام وجعله جزءًا لا ينفصل عن تراث النقد العربي القديم، أول من علمنا أن نتحدث عن ناقد مثل ابن طباطبا العلوي ، فنستخدم عبارات الإدراك الحسي والخيال والصورة وكأننا نحلل خطابًا فلسفيًا. وقد دأبت النظرة التقليدية أن تقدم هؤلاء النقاد بعبارات تكرر ما قالوا ، ترفضها أحيانًا وتوضحها أحيانًا لكنها لا تحللها أبدًا ولا تخترق محتواها. كنت أحسب هذا إنجازًا كافيًا له في قراءة التراث النقدي العربي القديم ، حتى وجدته يقدم دراسات أكثر قوة وخطورة فيما بعد ، يكفيني أن أحيلكم إلي دراسته الرائعة عن ابن المعتز ، الدراسة التي أراها مفتتح ما أسميه بعلم اجتماع النقد العربي القديم ، فلأول مرة كان النقد العربي القديم يفكك ، وتستخرج منه حمولته الأيديولوجية ويرد إلى أساسه في بناء الدولة ومنهجها وقطيعة الصراع الداخلي فيها ، ويتحول خطاب الناقد إلى مرآة لقراءة هذا الأفق الواسع من الصراع الاجتماعي العميق ، فتح بابًا هائلاً أمامنا لكي نقرأ التراث قراءة أعمق وأهم ، وهي قراءة تجعل هذا التراث بابًا لمعرفة الحاضر.
أما عمله الدوؤب (المرايا المتجاورة) فقد علمنا كيف نحفر في الخطاب النقدي الحديث ونتعقب فكرة الماء هنا وهناك وسط إنتاج رائع وضخم لمفكر بحجم طه حسين ، بجهد لا يستطيع مثله شاب في مقتبل العمر يريد أن يفوز بلقب الماجستير أو الدكتوراه فإذا بالأستاذ الجليل يبذل جهدًا أكبر من الجهد الذي يبذله شاب صغير ، كنت أحسب كل هذا وحده يكفي لأن أحمل لجابر عصفور حبًا وتقديرًا بغير حدود ، لأنه الأكاديمي الذي خرّج طلابًا، جميعهم جديرون بالفخر والتحية، فهوالأكاديمي الذي كان أداؤه التعليمي مبدعًا طوال الوقت.
هذه الشخصية الفذة تستطيع أن تقدم أكثر من هذا كله ، تستطيع أن تكون إداريةً بحيث تحول العمل الإداري إلى مشروع لاستنهاض الثقافة المصرية. فهو يستطيع أن يكون ناقدًا يحلل الأعمال الأدبية فليعلمنا كيف نراها بنظرة غنية واسعة تستطيع أن ترى حركتها وسط الثقافة العربية الحديثة ، يستطيع أن يقدم لنا مترجمًا، إذ جعله كيف يتخير ما يترجم وكيف يثري واقعه الثقافي بما يترجم ، دخل بنا إلى عالم النظريات النقدية الحديثة مترجمًا وعارضًا ومحللاً ومناقشًا ومثيرًا للجدل والصخب، ولعلكم لا تنسون له هذا الشخص الفذ العظيم الذي يهاجمه الآخرون فيكون عف اللسان حين يناقشهم ، تذكرون ما كتبه أستاذنا الجليل المرحوم شكري عياد في نقده للمرايا المتجاورة ، وتذكرون كيف كان رد أستاذنا جابر عصفور رائعًا راقيًا ، وكان حوارهما مثلاً للحوار الذي نتمنى أن يسود في مجتمعنا فنلتمسه ولا نكاد نقع عليه ، تذكرون معاركه الثقافية التي لا تنقطع ، تذكرونها لأنهاحتى اليوم لا تنقطع. فمقالاته قد أبت إلا أن تكشف عن وجه جديد له، وجه المفكر الذي يتواصل مع الثقافة العالمية والذي يسعي بكل قوة إلى أن يعيد ثقافة أمته إلى أصول يجب ألا تفلت منا وقد فلتت طويلاً، إلى أصول العقل والتسامح ، إلى ثقافة الحرية ، إلى رفض القهر بكل أشكاله. استطاع هذا الأستاذ الجليل الذي كنت أراه هناك بعيدًا في الثمانينات عملاقًا أن يكشف لي عن عمالقة أكثر تنطوي عليها شخصيته، وأنا اليوم علىثقة أنه وهو يؤسس مركزًا جديدًا للترجمة، إنما يؤسس لعملاق جديد يخفيه في أطوائه وسوف يبرز ويبرز مع السنوات.
أما الكاتب حميدين الصباحي (رئيس حزب الكرامة المعارض) وأحد تلاميذ د. جابر عصفور فقد قال : اعذروني لا توجد لدي ما اعتقدت في نفسي من قدرة علي الحديث الطلق في التجمع في أي حفل تكريم لا يتم الأمر بالمتحدثين وإنما بالحاضرين ، ما لم تكن هناك قاعة دائمًا فلا منصة ، وما اعتقدت أن مكاني في حفل تكريم جابر عصفور ليس على المنصة ولكن في القاعة ، يعني مع هؤلاء الذين من دون نص يريدون أن يعبروا عن امتنان ومحبة واحترام مستحق لهذا الرجل. أما وقد آثر الصديق حلمي سالم أن أقول شيئًا ، فأنا أريد أن أتحدث عن الدكتور جابر عصفور ولا أنا قارئ جيد لنصوص ولا أنا حتى مقيم دقيق للصناعة الثقافية التي اضطلع بها ، ولكن مما أثر فيّ وساعد على أن يأثرني في د. جابر عصفور، هو تعاطفي الشديد معه في محنة المثقف في السلطة ، عندما يوجد علي موقع أو كرسي القرار مثقف لا شك في انتمائه لوطنه واشتراكه في الحلم بالعدل والحرية وأن ينهض التابعون الذين ننتمي إليهم ، عندما يكون جزءا في سلطة لا تتبني مفاهيمه ولا تعبر عن طموحاته ولا تقاتل من أجل حلمه ، كيف تكون الحال ؟ أظنها كانت محنة سنوات د.جابر عصفور المثقف، على رأس مؤسسة رئيسة ضمن مؤسسات السلطة التي أسميها أنا سلطة الفساد والاستبداد والتبعية ، كيف أمكن لمثقف أصيل في انتصاره للحرية والاستقلال والاستنارة أن يجترح من داخل مؤسسات هذه السلطة القادرة على الاقتراب من حلمه ، لعله عانى كثيرًا أو هكذا أظن... ولعله واجه عفن السلطة كثيرًا وهذا ما أثق فيه. من المؤكد أنه أنجز كثيرًا ومن المؤكد أنه كما يقول الثوريون القدمي : أنت لا تستطيع أن تخوض المستنقع وأن تشترط ألا يلوث ثوبك بعض منه ، لكنك دون أن تخوض هذا المستنقع لن تحمل العبء ولن تخوض التجربة ، أظن أنني من الذين لا يستطيعون أن يحكموا على د.جابر عصفور في أدائه لمهمته على رأس هذه المؤسسة ، ولا أستطيع إلا أن أقول ببساطة: لقد دلني قلبي عليه وأشهد أنني عرفته وتعاملت معه فحاز في قلبي محبة حقيقية واحترامًا هو جدير به.
الكاتب والمؤرخ د.عماد أبو غازي : لا أعرف من أين تبدأ مداخلتي. هل أبدأ من علاقتي بجابر عصفور منذ كنت طالبًا في كلية الآداب منذ 35 عامًا ، عندما كنت أعرفه ولا يعرفني ، أم أتحدث عن عملي معه في المجلس الأعلي للثقافة لأكثر من سبع سنوات ، أم أتحدث عن جابر عصفور المثقف صاحب المشروع ، لكنني سوف أجمع بين هذه المداخل الثلاثة في الحديث عن جابر عصفور.
عرفت جابر عصفور في بداية السبعينات، وبالتحديد في عام 1972 عندما التحقت بكلية الآداب ، عندما كانت الجامعة غير الجامعة ، كانت بقايا عصر الاستنارة وما زالت قائمة ، كنا ونحن طلابًا نتنقل بين محاضرات الأساتذة نستمع إليهم في غير تخصصنا ، وكان د.جابر عصفور وقتها في نهاية إعداده لنيل درجة الدكتوراه وكان يدرس لطلاب السنة الأولى بعض المحاضرات إلى جانب الأساتذة الكبار الذين كانوا يدرسون المحاضرات العامة أستاذته د.سهير القلماوي ، وكنا نوزع أنفسنا ونحن طلابًا في السنة الأولى بين د.جابر عصفور وزملائه من شباب قسم اللغة العربية في وقتها ، ونخرج من المحاضرات ليحكي كل منا ما سمعه لزملائه في محاضرة أستاذ من الأساتذة ، ثم انقطعت صلتي بالجامعة لعدة سنوات وانقطعت صلتي بالدكتور جابر عصفور كطالب من بين مئات الطلاب الذين لا يعرفهم ، إليى أن التقيت به في أيلول (سبتمبر) 1981 وربما لا يذكر هو هذا اللقاء في منزل الراحل د.عبد المحسن طه بدر في أعقاب قرارات سبتمبر الشهيرة. وكان اللقاء قصيرًا في مناسبة كئيبة ، وانقطعت الصلة مرة أخرى، إلى أن إلتقينا بعد أن أصبحت معيدًا في كلية الآداب ، وبعد عودته من الخارج كان لقائي به عام 1989 ، عندما كانت كلية الآداب تعد لاحتفالين الأول بذكرى مئة عام على ميلاد طه حسين، والثاني حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل. وشاءت أقداري التي أعتبرها سعيدة بالنسبة إلي، أن أعمل في فريق تولى هو رئاسته للإعداد للندوة الأولى، ندوة الاحتفال بمئوية طه حسين . وخلال أشهر عرفت جابر عصفور عن قرب ، احتككت به ، رأيت فيه قدرة عالية على تنظيم البشر المحيطين به واستخلاص أقصى ما فيهم من طاقة لعمل عام ومشروع عام. واستمر العمل في الندوة الثانية التي كان من المفترض أن يشرف عليها د. عبد المحسن طه بدر. وبعد رحيله تولى اتمام العمل د.جابر عصفور، وأكملنا العمل في الندوتين ثم تركنا بعدها بأشهر قليلة ليحلق في أفق أوسع، عندما تولى أمانة المجلس الأعلى للثقافة والتي أرى فيها استكمالاً لمشروعات خاضها مثقفون من خلال السلطة لبناء ثقافة لمصلحة الوطن والمواطن. أتصور أن جابر عصفور في مشروعه في المجلس الأعلى للثقافة، كان استكمالاً لمشروع رفاعة الطهطاوي في القرن التاسع عشر ، وكان استكمالاً لمشروع أستاذه طه حسين في منتصف القرن العشرين. لقد عرف جابر عصفور كيف يتعامل من خلال المؤسسة الرسمية ، وكما قال الصديق والزميل حمدين صباحي ، ويخرج منها طاهرًا نقيًا ومؤثرًا وفاعلاً ، خلال سنوات تولى فيها جابر عصفور أمانة المجلس. كان له مشروع ثقافي تنويري، نجح في أن يحول مؤسسة ثقافية كانت قد ماتت بعد أن ولدت بأشهر قليلة، إلى بؤرة للنشاط التنويري، ليس فقط على مستوى مصر، ولكن على مستوى العالم العربي من مشرقه إلى مغربه ، تحول المجلس الأعلى للثقافة إلى بؤرة استقطاب للمثقفين العرب، إلى جسر يعيد لمصر جزءًا من دورها الثقافي على الصعيد العربي بل وأزعم أنه يتجاوز ذلك إلى أصعدة للانفتاح على الثقافات العالمية من خلال أنشطة المجلس، التي خطط لها ونفذها جابر عصفور بإقتدار، ومن خلال مشروعه الحلم الذي أضحى حقيقة المشروع القومي للترجمة.
أظن، وبعض الظن حق، أن جابر عصفور نجح إلى أبعد الحدود في تحقيق حلمه، ونجاح أكبر في أنه يظل يحلم ويحلم طالما هو يعيش بيننا ، شكرًا لجابر عصفور على ما أعطاه لهذا الوطن وللثقافة المصرية والعربية.
وفي النهاية تحدث جابر عصفور قائلاً: سامح الله حلمي سالم وسامحكم جميعًا، فمن المرات القليلة في حياتي التي أجد فيها نفسي مرتبكًا وعاجزًا عن الكلام، على الرغم من معرفتكم قدرتي على عدم الارتباك، فأنا لا أشعر أنني محتفى به بقدر ما أشعر أنني أحتفي بكم وبكل الذين شاركوني بجهودهم ولا تزال جهودهم مستمرة. منذ عقد ونصف العقد حين جاءني خبر إسناد رئاسة المجلس الأعلى للثقافة لي كان في بيتي مجموعة من الأصدقاء منهم حلمي سالم وآخرون، انزعج هؤلاء الأصدقاء وطالبوني بأن انسحب مما أقدمت عليه، قائلين إنك تحلم أن تعيد حلم طه حسين، ولا يمكن لمثقف جاد أن يقدم ما يراه وما يؤمن به في ظل سلطة كتلك التي تحكم.لكنني كنت أرى أن المثقف إذا انطوى على رؤية جذرية لا بد وأن يعمل على تحقيق هذه الرؤية، ولا سبيل أمامه إلا العمل بشرط ألا يتنازل أو أن تفرض عليه شروطًا خلاف ما يكمن في أعماقه. وقد مرت السنون فإذا بالذين كانوا يطالبونني بأن انسحب يطالبونني بالبقاء لاستكمال ما بدأنا فيه، ومن ثم فأنا الذي احتفي بكم ، ولولاكم ما استطعت أن أنجز شيئًا.
ووصف عصفور مقر المجلس الأعلى السابق في الزمالك عند تسلمه لمهام منصبه، بأنه كان خرابة متهالكة يعشعش فيها العنكبوت. وقال: quot;إنه بفضل جهود حامد عمار ويونان لبيب رزق وغيرهما ما استطعت أن أفعل شيئا، فما أنجز ليس الا إنجازكم ، ومن ثم أتوقع ان يستمر المجلس في إنجاز المزيد، والذين يرون إن عمل المثقف في المؤسسة نوع من الخيانة، فأنا أقول لهم ان هذا الكلام هراء، لأن الدولة ليست ملكًا لحاكم ولا وزير ولا حزب، فهي ملك للشعب، والمثقف الجذري لا يمكن ان يخون نفسه إلا إذا تنازل عن عهده المضمر بينه وبين الشعب، لأنه يتنازل عن أنبل ما فيهquot;. واختتم عصفور كلمته قائلاً: quot;إن اكبر إنجاز أسعى إلى تحقيقه هو الإنجاز الذي لم أحقق بعد وأجمل كلام أود قوله هو الذي لم أقله بعدquot;.