أخونا د. شاكر النابلسي طال انتظاره لانقشاع الظلمة، ويتصور أن النفق المظلم الذي نسير فيه يتجه إلى أعلى، حيث النور والحضارة والحداثة، كما لا بد وأنه يتصور أيضاً أن الكتل البشرية في شرقنا الكبير، قابلة للشفاء من سرطان الإجرام الذي تمكن من النخاع، حتى صارت العقول والقلوب قطع من السواد، لا فائدة منها ولا أمل فيها!!
مقالك في إيلاف اليوم 10/11/2005 بعنوان: "كيف انفجر بركان الإرهاب في الأردن؟" يشي بهذا التفاؤل، الذي ليس له على أرض الواقع ما يبرره، فحين تقول في نهاية مقالك: "واليوم يكتشف الشعب الأردني والشارع الأردني – إن كان لا يزال في وعيه – بأنه كان مخدوعاً، وبأنه دفع الثمن غالياً نتيجة لهذا الخداع، وبأن عليه أن يرفض دعوات الموت الانتحاري المجانية، ويعود إلى العقل، لكي لا يصبح الأردن منطقة منكوبة."، أقول لك عفواً يا صديقي فهذا لن يحدث، لن يعود الوعي للشارع الأردني، ولن يعيد النظر في مواقفه وتوجهاته، كما لم يفعل الشعب المصري من قبل، ألسنا "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة؟"، صدق العفالقة والصداميون والناصريون والقومجيون في كل حدب وصوب، فنحن نحمل للعالم رسالة خالدة تجري في عروقنا، ولن نبارحها أو تبارحنا، اسمها باختصار "القتل والتدمير"!!
نحن يا سيدي مجرمون مع سبق الإصرار والترصد، ولا يفيد أن يتمسح أمثالك –أو أمثالي- لتبرير حالة الضلال العام السائدة، بإسنادها إلى الدعارة الإعلامية بالكلمة، كما جاء في مقالك: "وأقلام أردنية كثيرة في الصحافة الأردنية تمتدح الإرهاب القائم بالعراق وتطلق عليه "المقاومة الشريفة"، وتكيل له المدائح شعراً ونثراً. ولم نقرأ في الإعلام الذي كان معظمه مشترى من نظام صدام حسين بالكوبونات النفطية، والرواتب الشهرية، والسيارات الألمانية، والمنح الدراسية.. الخ كلمة حق كانت تقال في هذا الإرهاب،"، فرجال الإعلام الآن يا صديقي لا يقبضون من صدام، ولا أتصور أن بن لادن أو الزرقاوي عندهم ما يعطونه للآلاف من هؤلاء الأشاوس، إن ما يفعلونه ببساطة أنهم يبيعون البضاعة التي يريدها السوق، الجماهير تريد أن تشنف آذانها وقلوبها بنباح الكراهية، وتشتاق أن تروي غليل ضعفها وخستها، بسفك الدماء أنهاراً، وليس من المهم والحالة هذه سفك دماء من، دماء من نصر على اعتبارهم أعداء أو دماءنا نحن، ليس في هذا أدني مشكلة، المهم توفر نهر جار من الدماء المسفوكة، فنحن نحتاجها كما نحتاج الماء والهواء.
حدث أبشع من هذا في مصر، في طابا وشرم الشيخ، وظننت مثلك أننا وصلنا للنقطة التي يتحتم فيها أن يعود الوعي المفقود، أن نستفيق، أن نقف وقفة رجل واحد في مواجهة الإرهاب والكراهية العمياء، ليس للآخر فقط وإنما لأنفسنا وللحياة نفسها، لكنني سرعان ما اكتشفت أنني كنت ساذجاً، سذاجة يحسدني عليها السذج، لن أذكرك بتبريرات من يدعون أنهم رجال فكر ومحللين سياسيين، أو مشايخ تحريض، في قنواتنا الفضائية المناضلة، سواء المحرضين علانية على القتل والإرهاب، أو حزب "بن لكن" عظيم الانحطاط والخسة، لكنني أحب أن أخبرك بما هو غير متاح لك وأنت في أمريكا، أرض الحضارة والحرية، أخبرك عن ردود أفعال ما يسمى برجل الشارع، الإنسان البسيط، الذي لم يقبض من صدام ولا من أي مصدر من مصادر البترودولار، فبعد أحداث طابا وشرم الشيخ، واليوم بعد أحداث عمَّان، سألت من حولي، ونحن في غمرة مشاهد المأساة على شاشات التليفزيون، كانت الإجابات نفس ما يردد في وسائل الإعلام المناضلة!!
هل يكفي هنا إسناد الأمر إلى التأثر بالخطاب الإعلامي السائد؟
لو قلنا هذا، علينا أن نتساءل لماذا ينتصر خطاب إعلامي، على المشاعر الإنسانية في أبسط صورها، إن كان لمثل هذه المشاعر من وجود في عالم العرب والعروبة؟!
من بين من استطلعت رأيهم عامل معوق يسير بعكاز، وينحدر من أصل ريفي، وآخر موظف متواضع الحال، من الإدارة الوسطى في السلم الوظيفي، وعمره قارب الستين، ولا أظن أن أحدهما يتعرض لشحنات مكثفة من سموم قناة الجزيرة والمنار وما يماثلها، فظروفهما لا تسمح بالانبطاح الطويل أمام التليفزيون، ومع ذلك تطابقت رؤيتهما مع ذات الرؤى الشيطانية.
لست متأكداً مما أقول، لكن يبدو أن الأمر ليس أن الجماهير تردد ما يصبه في آذانها شياطين العروبة والتطرف الديني، ولكن العكس، فرغبة الجماهير ونزعاتها البدائية الغريزية، هي التي تلهم أعلام هذا الخطاب، بما يكفل لهم قيادة الجماهير، والركوب على ظهورها التي تبحث عمن يمتطيها!!
انظر إلى القائد بن القائد، والصنديد بن الصنديد، وهو يقف في أشد لحظات الشعب السوري المسكين حرجاً، وإدارته متهمة بالإجرام والقتل، يقف ليردد العنتريات المعهودة، وبأنه لن ينحني (أمام العدالة العالمية)، ولن ينحني الشعب السوري (إلا أمامه هو وزبانيته)، ثم يجد ويا للعجب من يصفق له، رغم أن رأس الذئب الطائر (صدام حسين) مازال معلقاً في الهواء، أي مهزلة أبشع من ذلك؟!
أنا في حيرة من أمري وأمر شعوبنا يا صديقي د. شاكر النابلسي!
أتساءل مع من قال: "صحوة الموت ما أرى أم أرى غفوة الحياة؟"
هل الحياة في شرقنا أطبقت جفونها وماتت؟!
هل ألقت شعوبنا نفسها من على سفح جبل الحضارة الإنسانية، وآثرت وإلى الأبد، التمرغ في وحل الغرائز البدائية للإنسان الأول، حين كان يأكل اللحم نيئاً، قبل أن يكتشف النار؟!
من حسن حظك يا صديقي أنك تعيش هناك، في النصف الغربي من العالم، ولا تعيش هنا مثلي، في مستنقع من الخسة والنذالة والبدائية!!
صديقي د. شاكر النابلسي: أتهمك بالتفاؤل غير المبرر منطقياً، وتستطيع أنت أن تتهمني بالتشاؤم غير المبرر منطقياً، وأتمنى أن تكون أنت على صواب، وأن أكون أنا على خطأ، وإلى أن يتيسر تبين من منا على صواب، سوف تسفك أنهار من الدماء، وتنفث فيوض من سموم الأشاوس والصناديد والمجاهدين، وفي أثناء ذلك سترسل الصين رواداً إلى الفضاء، ثم إلى القمر، فيما نطقطق نحن عظام أرجلنا، ونستمتع بأناشيد الجهاد والنضال، وأصوات التفجيرات، وصراخ النسوة والأطفال هنا وهناك!!

[email protected]