لم يعتد الشارع العراقي أن يستمع أو يشاهد محاكمات السياسيين والحكام الا من خلال المحاكم الثورية والأستثنائية المستعجلة التي تكون احكامها سابقة على التحقيق والمحاكمة والتي لاتضم قاض واحد من بين كادرها، ولم يكن المشاهد العراقي يستطيع أن يحضر جلسات المحاكم الجنائية في العراق أما بسبب أنشغاله بتفاصيل حياته وعائلته، او لعدم أهتمامه بالقضايا الجنائية التي ليس له فيها علاقة ما، أو لعدم وجود وقت يقضيه المواطن في أروقة محاكم الجنايات التي كانت سابقاً تسمى المحاكم الكبرى في العراق.
قرأنا عن المحاكم التي قضت بأعدام قيادات عراقية وطنية في العهد الملكي، كانت هذه المحاكم تعبر عن رغبة السلطة الملكية وتوجهاتها الأستثنائية وأنسجامها مع الأصابع الأجنبية التي كانت تتحرك في العراق والتي كانت تملي القرار.

كما عرف اهل العراق المجالس العرفية في عهود الأنقلابات العسكرية التي أقامتها الحكومات القامعة للحرية والديمقراطية في العراق لمحاكمة الوطنيين من اهل العراق،وهي شكل من أشكال المحاكم الأستثنائية، وعرفنا أيضاً أن هذه المجالس كان يرأسها عسكريون ليس لهم علاقة بالقانون ولابأصوله ولابقواعده، ولذا فلن نبالغ اذا قلنا أن هذه المجالس كانت تحكم بالكمية وبالعدد ودون معرفة الأسماء أو توفر الأدلة ، ودون معرفة الدليل من القرينة من قبل هيئة المحكمة ، ومن الأخطاء التي وقعت فيها قيادة ثورة تموز 1958 في العراق انها قامت بأنشاء محكمة عسكرية خاصة انيط بها محاكمة أقطاب العهد الملكي البائد، سميت في حينه ( المحكمة العسكرية العليا الخاصة بوزارة الدفاع ) وأطلق عليها أسم محكمة الشعب و رئيسها وأن كان رجلاً وطنيا وشجاعا الا انه لم يكن من رجال القانون ومثله كل أعضاء تلك المحكمة حيث كانوا من العسكريين غير الحاصلين على شهادة الحقوق أو القانون، مع ما كان من قدرة القضاء الجنائي العراقي المدني على أداء تلك المهمة في ذلك الوقت دفعاً للأخطاء والتجاوزات التي وقعت بها تلك المحكمة والطعون التي تعرضت لها في حينه.

ثم تطورت هذه المجالس العرفية مع تطور الزمن ومع تطور سلطات الأنقلاب وعقلية قادتها فأصبحت محاكم أمن الدولة الأولى والثانية وهي ايضاً من المحاكم الأستثنائية التي نظرت في المئات من القضايا السياسية في العراق، وأصدرت الأحكام الجائرة بحق الالاف من العراقيين، مع أصرار السلطات أن يكون رؤوساء هذه المحاكم من العسكريين الذين ليس لهم علاقة بالعمل القضائي أو بالقوانين الجنائية التي تتم محاكمة هذه المجموعات والشرائح بموجبها، وأن تكون هذه المحاكم لها شكل المحكمة وأسمها فقط.
وحين عاد البعث الى السلطة مرة أخرى شمر عن ساعده بأنشاء محكمة أستثنائية سميت محكمة الثورة بقصد التزامن مع مرحلة الأنقلاب وتوطيد دعائم السلطة وأركان الحكم في حينه، وعادت نفس السلطة لتضع شخصاً عسكرياً لم يقرأ القانون ولاعرف القضاء على رأس هذه المحكمة، وأستمر عمل المحكمة في النظر بقضايا جنائية خطيرة بقصد مواجهة الأتجاهات المعادية لفكر الحاكم وأستقرار السلطة مهما كانت صدقية تلك التوجهات، وتناوب على تلك المحكمة سيئة الصيت رؤوساء متعددين أشتهر من بينهم العقيد علي هادي وتوت وكريم النجار ومسلم هادي الجبوري وعواد حمد البندر، واللافت للنظر أن جميع هذه الأسماء لم يكن بينها قاض واحد، فجميعهم لم يعملوا في مؤسسة القضاء العراقي، بل أن بينهم من لم يدرس القانون ولايعرف الحقوق ، وكانت قرارات هذه المحكمة باتة واجبة التنفيذ لاتخضع للتمييز ولا لاشراف مجلس العدل في حينه ولا لتدقيق محكمة التمييز بأي شكل كان، مع انها حصدت اعمار وأرواح العراقيين الأبرياء .
وكان المواطن العراقي الذي تتم محاكمته في تلك المحكمة يشاهد العجب العجاب من الأساليب التي لم تتبعها أبشع دول العالم تخلفاً وجهلاً وأستخفافاً وتعسفاً بحقوق الأنسان ، بدءاً من تحقيقات الأمن والمخابرات والتعذيب الجسدي الذي لايطاق ولايتم قبوله عقلاً، ومروراً بعدم حضور المحامين في دوري التحقيق والمحاكمة، ولامتابعين ولادفاع ولاأسئلة ولاأجوبة والأحكام جاهزة، أضافة الى ما يسمعه العراقيين من الفاظ بذيئة ومن شتائم قبيحة تدل على مستوى الأنحطاط وسوء الخلق والتربية الذي كان يتسم به رؤساء تلك المحكمة حيث أشتهر منهم عواد حمد البندر في توزيع البذاءات والكلمات السوقيـة على الناس ليكشف للناس عن مستواه الخلقي والتربوي المتدني من موقع القوي الذي يحتمي بكرسي السلطة دون ان يسمح لسماع الرد من أحد تملقاً للدكتاتور وحتى يكسب رضاه.
ولما فاحت رائحة المحكمة المذكورة وضج العالم منها ومن خرقها لابسط حقوق الأنسان، بادر صدام الذي كان قد قرر وضع كل القضايا الأمنية والسياسية تحت سلطتها منتزعاً ذلك الأختصاص من القضاء العراقي، وحرم على القضاء العراقي الأستيضاح والأستفسار أو التدخل في أي قضية لأي عراقي تقوم دوائر الأمن والمخابرات والأستخبارات وجهاز الأمن الخاص بالتحقيق معه أو توقيفه بأي شكل من الأشكال، وكان صدام قد صير المحكمة المذكورة سيفاً مسلطا على رقاب العراقيين، وبعد أن وصلت الأشارات التي تشعر صدام برائحة تلك المحكمة العفنة في كل العالم ، بادر الى الغاؤها وتفريخها الى محاكم خاصة وأستثنائية متعددة، منها المحكمة الخاصة بوزارة الداخلية ومحكمة جهاز المخابرات ومحكمة الأمن العام والأستخبارات ومحكمة جهاز الأمن الخاص والتصنيع العسكري واللجنة الاولمبية دون ان تكون لهذه المحاكم أية علاقة بالقضاء العراقي أو حتى بالنصوص القانونية.
وبعد سقوط الصنم وهروب صدام حيث تم القبض عليه في حفرته الشهيرة بمنطقة الدور بالشكل المزري والبائس الذي ظهر عليه على شاشة التلفزيون، وبعد ان تساقط أقطاب العهد البائد ليتم القبض عليهم في جحورهم، كان يتوقع أن تتم محاكمتهم بنفس الطريقة التي كانت سائدة في زمنهم، او على الأقل في محاكم ثورية مستعجلة.
غير أن الأحزاب العراقية ومعها كل الخيرين من ابناء العراق التي ناضلت وجاهدت ضد صدام ارادت أن تؤسس لحياة عراقية يتساوى بها الناس، وان يتم أحترام الدستور والقوانين، وأن يتم تطبيق العدالة على الجميع، وحين تم تشكيل المحكمة الجنائية العراقية المختصة بالجرائم ضد الانسانية باشرت هذه المحكمة باعمالها في ظل ظروف معقدة ودقيقة في الحياة العراقية بأعتبارها واجهة حقيقية من واجهات القضاء العراقي، غير أن ما لفت النظر كون المحكمة تشكلت من هيئة تمييزية ومن محاكم جنايات ومن قضاة تحقيق ومن هيئة الأدعاء العام، وأن جميع من يعمل في هذه المحكمة ممن عمل في سوح القضاء العراقي او من المحاميين والحقوقيين المتمرسين في العمل القانوني وممن عرفوا بسمو الخلق والنزاهة والأستقامة، وهذه الأشارات تدلل على تمسك القابضين على السلطة في العراق الجديد بأنشاء قضاء حقيقي ومنح هذا القضاء الأستقلالية والأمكانية في الحياد والنزاهة لتجسيد تلك الأستقلالية، وبعد ان باشرت المحكمة المذكورة أعمالها وقام قضاة التحقيق بأحالة القضايا التي استكمل التحقيق بها ووجدوا أن الادلة المتوفرة فيها كافية للأحالة، باشرت محاكم الجنايات النظر بهذه القضية، وتطور عمل المحكمة ليحكم عملها القانون رقم 10 لسنة 2005 حيث تم أبدال أسمها الى ( المحكمة الجنائية العراقية العليا ) وتم حصر أختصاصها بجرائم الأبادة الجماعية والجرائم ضد الأنسانية وجرائم الحرب وأنتهاكات القوانينللفترة من 17 تموز 1969 ولغاية 1/5/2003، وأكد القانون على الضمانات التي وفرها للمتهم والتي تعدت وتخطت على الضمانات المذكورة في قانون اصول المحاكمات الجزائية.
اننا امام محكمة جنايات قانونية وشرعية وحقيقية هي محكمة الجنايات الأولى التي تنظر في قضية الدجيل، يوجب المنطق والقانون على هيئة المحكمة ان تكون حيادية ونزيهة وتتلمس عملها القضائي وفق النصوص التي أوردتها قواعد الاجراءت وجمع الأدلة الخاصة بالمحكمة الجنائية العراقية العليا بالأضافة الى نصوص قانون أصول المحاكمات الجزائية، ولهذا الغرض فالقاضي لا يخضع بذلك لأهواء ورغبات الغير ولايعمل وفق طلبات المشاهدين او المعترضين ، كما لايخضع لأهواء السياسيين والأحزاب العراقية والتجمعات السياسية، حيث لاسلطان عليه لغير القانون، كما يتصرف بأستقلالية تامة ولا يخضع ولايستجيب لأي طلبات أو اوامر من أية جهة كانت، وكل التصرفات التي يقوم بها رئيس المحكمة تعبرعن وجهة نظره وتقديره لظروف القضية المعروضة امامه، ولايعقل أن يتم التأثير على القاضي رزكارمحمد أمين بقصد ارباك عمل المحكمة وعرقلة سير الأجراءات القضائية في المحاكمة بحجة أن رغبة البعض تخالف التصرفات التي تصدر من القاضي.
أن قضية تقدير الشهادة متروكة لسلطة المحكمة وسلطتها مطلقة، كما لها سلطة مطلقة في تقدير اقرار المتهم، كما ان ضبط المحاكمة وادارتها منوطان برئيسها، فله الحق ان يمنع اي شخص من مغادرة قاعة المحكمة وله الحق ان يخرج منها كل من يخل بنظامها، وللمحكمة ان تمنع الخصوم ووكلائهم من الاسترسال في الكلام اذا خرجوا عن موضوع الدعوى، او كرروا اقوالهم او اخلوا بنظام المحكمة، او وجه احدهم الى الاخر سبا او طعنا لايقتضيه الدفاع، وعلى أن لاننسى أن هذه المحكمة كشفت الوجه الحقيقي للخلق المتردي وسوء التربية لبعض المتهمين، وعلى ان لايغب عن البال من أن بعض من المشاهدين اعترضوا على أدارة القاضي رزكار لبعض الجلسات وعدوه متساهلاً مع المتهمين، في حين عده المتهمين وبعض وكلائهم متشدداً مع المتهمين ولم يمنحهم الوقت الكافي للتعبير عن دفعهم.
التجاذب الحاصل في وجهات النظر بين من يريد التشديد والصرامة، وبين من يريد التسويف والمماطلة لايقدره احد سوى القاضي الذي يدير الجلسات ويحاول الوصول الى الحقيقة من خلال أنهاء ترتيبات النصوص التي وردت في قانون المحكمة وفي قواعد الأجرءات الخاصة بها وفي الأصول الجزائية، كما أن جميع الاشخاص متساوون أمام المحكمة، وأن المتهم بريء حتى تثبت أدانته، وأن على محكمة الجنايات ضمان أجراء محاكمة عادلة وسريعة بالرغم من كل الأساليب والطرق التسويفية التي أتبعها فريق الدفاع عن المتهمين.

ومن يعرف مهمة القاضي يدرك حجم المهمة الأنسانية والنبيلة التي يؤديها، والتي يفترض بها حياديته وتجرده من النزوع الى الأنتقام والتشفي، وهذا ما نلمسه في الأداء القضائي للقاضي رزكار محمد امين، ونجد اذا كنا نختلف معه في وجهات النظر فأن هذا الأمر لايدعو لأن يتم استغلال هذا الجانب للتشهير ومحاولة أستغلال هذا الجانب لأغراض الدعاية السياسية والأنتخابية، ومن المعيب أن يتدخل مسؤولين في جهاز الدولة التنفيذي في التشهير بالمحكمة ورئيسها مما يوجب المسؤولية التي فرضها القانون في التدخل بأعمال المحكمة التي ماعادت تخضع او تتبع لأي جهة كانت ونفترض حياديتها، كذلك السعي للتأثير على عمل القضاء ونزاهة المحكمة وحياديتها وهي مسألة أساسية تم تأسيسها في دولة القانون والدستور في العراق الجديد.

أن قضية ضبط المحكمة وأدارتها منوطة بشخص رئيسها وهذه تتبع قابلية القاضي وفهمه للتصرف المطلوب، وقد تختلف من قاض الى أخروفق ذهنية وثقافة القاضي ووفق مايراه مناسباً في ضبط الجلسة وإدارتها ، غير أن جميع القضاة في المحاكم الجنائية ملزمون بتطبيق النصوص القانونية بدقة وأمانة وبنزاهة ومطلوب منهم الحزم في ضبط الجلسات وأحترام المحكمة ، القضية الأهم تكمن في تطابق الأجراءات مع النصوص القانونية للأصول الجزائية، ومطابقة القرار النهائي للعدالة والحق، وأن تكون تلك الأحكام منسجمة مع النصوص القانونية، وأن يتم تدقيق كل تلك القرارات من قبل هيئة تمييزية مختصة تخلص الى قرار بتصديق قرار المحكمة ان كان متطابقاً مع القانون، ونقضه وأعادته الى المحكمة أن كان مشوباً بنقصأو خطأ في الأجراءات أو حصل خطأ جوهري أخل بالعدالة أو خالف القانون.
وفي قانون المحكمة يمكن لمجلس الرئاسة بناء على أقتراح من مجلس الوزراء نقل أي قاض أو مدع عام من المحكمة الى مجلس القضاء الأعلى لأي سبب كان، غير أن ما يستوجب الأشارة اليه ان لايوجد ما يشير لمثل هذه الحالة امام محاكمة قد جسدت لنا بعض من أخلاق المتهمين البائسة التي تدلل ليس فقط على سوء تربيتهم، انما على انهيارهم قبل انتهاء الأدلة والقرائن، ووضوح الضعف الكبير في أداء فريق الدفاع عنهم.
وسيعتاد المواطن العراقي على مشاهدة ومتابعة مثل هذه المحاكم في كل محاكم الجنايات العراقية حيث سيتم تطبيق كل الأصول والحقوق التي كانت غائبة عن التطبيق، من أجل أرساء قواعد وأسس لحياة سنألفها بالتدريج وستصبح أعرافاً ومباديء يتم التمسك بها والعمل على تطويرها مثل كل البلدان والمجتمعات المتطورة التي تحترم حقوق الأنسان وتحترم دساتيرها وقوانينها ، ونتباهى بها بين الأمم في عراقتها وأحترامها لحقوق الأنسان.
وستبقى هذه المحكمة عنواناً لمسيرة عراقية قانونية ضمن دولة القانون والدستور، تعتمد المساواة والتجرد بقصد أن تقول كلمة الحق والعدالة بتجرد دون ميل أو احقاد وضغائن، ليس فقط رئيس المحكمة وقضاتها وأنما حتى فريق الأدعاءالعام في المحكمة، وعلى أمل أن تنتهي المحكمة من موجبات القضية لنقرأ معها قرارها العادل.