كم نحن بني البشر قساة لا رحمة في قلوبنا، كم نحن بني البشر لا نعير العواطف الإنسانية وقدرة الإنسان وطاقته على تحمل مشاق طريق التنوير الطويل أي أهمية تذكر، كم نحن لا نعرف غير الجلد في موقع الاحتضان، ومنح الإنسان الذي يعيش محنة مروعة، الدفء الإنساني الضروري بدلاً من توجيه الشتائم والاتهامات غير المعقولة، كم نحن لا نميز بين الضحية والجلاد ونقلب المعايير، فندين الضحية ونسكت عن الجلاد، كم نحن جلادون .. وكم ..وكم؟ من هو الجبان يا سادتي يا كرام، هل هو السيد القمني، أم المجرم الذي هدده بالموت، وهو في قمة إبداعه الفكري الإنساني؟ هل هو السيد القمني، أم المجتمع الذي عجز عن توفير الحماية له؟ هل السيد القمني جبان أم الحكومة التي تحتضن هؤلاء القتلة ولا توفر الحماية للضحية؟ من هو الجبان يا سادتي الأبطال، هو أم نحن الذين لا ندافع عنه بل نوجه له أصابع الاتهام بالجبن وبكل ما هو غير عقلي وغير مقبول؟

دعونا نحتكم إلى عقولنا لا إلى عواطفنا الجياشة أو العفوية غير الواعية...، دعونا لا نفقد توازننا في وقت المحنة في مواجهة مفكر خدم قضية التنوير خدمة كبيرة ورائعة ولسنوات طويلة، وستبقى كتبه مناراً لمن يريد أن يستفيد منها ويتعلم عليها. لا يجوز توجيه السهام لأسد جريح، فهو منا نحن بني البشر، فهو جزء من القافلة التي تسير رغم نباح الكلاب السائبة. علينا أن نحمله على أكتافنا إن تعب من بعد المسافة ومشاق الطريق، أن نحمل عنه المهمة ونواصل الدرب، أن نحميه!
من مر بالمحن السابقة، من عانى من اضطهاد وقتل الإسلاميين السياسيين المتطرفين الإرهابيين، من يعرف وحشيتهم في بقر بطون الحوامل في الجزائر وقتل الأطفال الرضع، من نحر رؤوس الشيوخ والنساء المسنات والشباب المثقف المتنور والديمقراطي والعلماني، عندها يدرك معنى الرجفة الإنسانية في قلب إنسان كبير، يدرك معنى الاحتضان الضروري في وقت المحنة الراهنة من أجل أن نساعد الإنسان الحر على النهوض، لا أن ندفعه إلى الهاوية، فلكل إنسان هفوة ولكل حصان كبوة، يا سادتي الأفاضل؟ هل بهذا الأسلوب نستطيع الدفاع عن الذين يشاركون معنا في عملية التنوير الديني والاجتماعي والسياسي، ثم لا ندرك قدرة هذا الإنسان أو ذاك على تحمل المزيد من الصعاب، ولا ندرك الخطيئة التي ينبغي تحميلها تلك الحكومات التي لا تدافع عن حرية رأي أبناء الوطن وتتركهم عرضة لتهديدات القتلة، أولئك الذين اغتالوا فرج فوده وهجروا قسراً نصر حامد أبو زيد وقتلوا المئات والآلاف من أبناء الجزائر والعراق ولبنان وسوريا و...الخ.
لقد كان القمني وما يزال علماً من أعلام الفكر التنويري، إنساناً شامخاً بفكره وقدراته على خوض الحوار والدفاع عن رؤيته في مواجهة الرأي الآخر. تعلمنا منه وتعلم آخرون وستبقى كتبه تقرأ من آخرين وآخرين بالرغم من سيوف الجلادين المسلولة والمسلطة على رقبته ورقاب الآخرين، بالرغم من البنادق المشرعة إلى صدره وكواتم الصوت الموجهة من خلفه. سيبقى الناس يؤشرون بأصابعهم إلى هذا الكاتب الإنسان الذي فجر في الكثير من الناس الكلمة الصادقة والحجة السليمة والرؤية الواعية والوعي بالواقع وبمشكلات الإسلام والمسلمين الراهنة. هل يحق لنا أن ندين إنساناً بالجبن وقد هدد بالموت وربما هددت زوجته وهدد أطفاله وكل عائلته، في حين لا ندين المجتمع الذي لا يدافع عنه ولا الحكومة المسؤولة عن حمايته؟
كم أتمنى أن يعتذر هؤلاء الذين نالوا من كرامة السيد القمني وهو في محنته الإنسانية الراهنة، وأن يسعوا إلى توفير الحماية له ليمارس الكتابة بالفكر الذي تبناه عن قناعة كاملة ولم يتخل عنه.
لا أرضى بالموقف الذي اتخذه السيد القمني ولا أقره عليه، ولكني لا أشعر بالأسى للسيد القمني، بل أحس بضرورة احتضانه.
في حياتي النضالية التي تجاوزت خمسة عقود ونيف مررت وتعرفت وعايشت مناضلين مروا بظروف نضالية قاهرة لم يتحملوا قهر الجلادين المجرمين، أجبروا في لحظة ضعف إنسانية على تقديم البراءة من الفكر الذي تبنوه والكلمة التي كتبوها والنضال الذي خاضوه، ولكنهم لم يفقدوا إنسانيتهم، ودفء الآخرين هو الذي أعادهم إلى دروب النضال الشاقة والطويلة. لقد أدنا البراءة وأدنا الجلاد أولاً وقبل كل شيء وانتقدنا الضحية ولكن فهمنا ضعف الإنسان وقدرته على التحمل والتباين بين البشر في هذا المجال. لا أتمنى لمن جلد السيد القمني أن يمر بذات التجربة التي يمر بها اليوم السيد القمني، لأني لا أريد له مخاض التجربة القاسية التي يعيشها السيد القمني.
لنعمل معاً، لنتكاتف، لنحمي كتابنا المتنورين والديمقراطيين من المجرمين المهووسين بالقتل ورؤية سيول الدماء وجثث الضحايا المتناثرة. إن هؤلاء الذين يهددون السيد القمني، هم من نفس الهوية، من فكرية وسياسة الذين يفجرون السيارات المفخخة ويفخخون الانتحاريين الجبناء في بغداد ويقتلون مئات الناس كما حصل أخيراً في بغداد والمسيب وغيرهما. لنردد معاً: قول الشاعر السماوي:
وإذا تكاتف الأكف فأي كف يقطعون
وإذا تعانقت الشعوب فأي درب يسلكون!