مع تصاعد الإرهاب البعثي- الإسلاموي الهمجي في العراق هذه الأيام، تصاعدت أيضاً صيحات جوقة أعداء تحرير الشعب العراقي في الغرب والشرق، مطبلين بأن أمريكا فشلت في العراق وأن انسحابها منه صار قاب قوسين أو أدنى، ومسألة كيف ومتى، ليس غير!!! وهم بذلك يحاولون بشتى الوسائل، وبإلحاح وتكرار مملين، تشبيه العراق بفيتنام. والملاحظ أن هؤلاء بدؤوا حملتهم الإعلامية بـquot;فتنمةquot; العراق حتى قبل شن حرب التحرير على حكم البعث الفاشي بأشهر، وذلك كرهاً لبوش وبلير وتمنياتهم لهما بالفشل الذريع، وجعل العراق مستنقعاً فيتنامياً آخرا لتمريغ وجه أمريكا وكبرياءها بوحله ndash;على حد تعبير أحدهم- لكي لا تعيد ذات المحاولة مع نظام استبدادي آخر في المنطقة. وهذه الحملة المسعورة هي مستمرة على الدوام ولكنها تشتد وتخف حسب وتيرة الهجمات الإرهابية، كجزء من الحرب الدعائية والنفسية، لتعطي انطباعاً للرأي العام العالمي بأن أمريكا فعلاً فشلت، وهاهي تواجه فيتنام آخر وستنتهي بنفس المصير. فلو تأملنا جيداً لتأكدنا أن هذه الضجة هي مجرد أفكار رغبوية وتمنيات يكررها هؤلاء لرغبتهم العارمة بحصولها، فيطرحونها باستمرار كما لو أنها حصلت فعلاً، بينما الحقيقة ليست كذلك. وليس غريباً في أمر هؤلاء أنهم بدلاً من إلقاء اللوم في تصاعد العنف على الإرهابيين ومن يدعمهم من دول ومنظمات، فهم يلقون اللوم على قوات التحالف وعلى الحكومة العراقية المنتخبة ويتمنون لهما الهزيمة.

ونتيجة لتكرار نغمة quot;عودة هزيمة فيتنامquot; في العراق في الإعلام الغربي، قال الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش: (نعم، أن تصاعد التضحيات في العراق يذكرنا بفيتنام). هذا القول فسره أعداءه أنه اعتراف ضمني من الرئيس بوش بفتنمة العراق، وأنه مقدمة للانسحاب على غرار ما حصل في فيتنام. إنهم في الحقيقة على خطأ كبير، فالعراق ليس فيتنام، إذ نحن نعيش الآن في عصر العولمة ذو القطب الواحد المنتصر، الذي يختلف تماماً عن عصر الحرب الباردة ذي القطبين المتصارعين في الستينات والسبعينات أيام الحرب الفيتنامية. ولا نريد هنا توضيح الفروقات بين العراق وفيتنام، إذ أجاد بهذه المقارنة المفكر اللامع الأستاذ أمير طاهري في مقاله القيم في صحيفة (الشرق الأوسط اللندنية، سيناريوهات العراق وفيتنام: القياس الفاسد!: يوم 27/10/2006).

وعليه، ففي هذه المداخلة أود توضيح بعض النقاط التي يحاول أعداء العراق، من اليسار واليمين المتطرفيَنْ في الغرب والبلاد العربية، التشويش والتعتيم عليها وتصويرها كما لو أنها حالة ميؤوس منها وأن أمريكا فعلاً على وشك إعلان الهزيمة والانسحاب من العراق. أؤكد لهؤلاء أن الهزيمة هي أمنيتهم فقط، فالمعركة لم تنته بعد، ولا يمكن لأمريكا الانسحاب من العراق قبل تحقيق المهمة الاستراتيجية الأساسية التي شنت من أجلها حرب تحرير الشعب العراقي من الفاشية البعثية ومهما استغرقت العملية من وقت وتكاليف، وذلك للأسباب التالية:
1-العراق ليس فيتنام، كما أشرنا أعلاه، يرجى الرجوع إلى مقالة الأستاذ أمير طاهري، الرابط أدناه.
2-من الناحية الاخلاقية، لا يمكن لأمريكا الانسحاب من العراق، لأنها وفق القوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة، فهي تقود قوات احتلال في العراق، وبذلك فهي تتحمل مسؤولية اخلاقية عن استتباب الأمن فيه وحماية الشعب العراقي، وخاصة بعد أن دمرت كافة المؤسسات الأمنية، وجميع البنى التحتية للدولة العراقية، لذلك فليس من الاخلاق والقيم النبيلة أن تترك الشعب العراقي ليواجه مصيره وهو بهذه الحالة بعد أن قضت على جمع مؤسسات الدولة فيه، وتقول للعراقيين أنها مشكلتكم وعليكم أن تدبروا حالكم... هذا القرار مرفوض اخلاقياً وسياسياً وقانونياً ودولياً وإنسانياًُ ومن جميع الوجوه.
3-لا تستطيع أمريكا الانسحاب من العراق حتى ولو خسر الجمهوريون في الانتخابات النصفية في الشهر القادم، وحتى لو جاء رئيس من الحزب الديمقراطي إلى السلطة عام 2008، لأن التاريخ يخبرنا بأن السياسة الخارجية للدول الديمقراطية الغربية، وخاصة أمريكا، لن تتغير بتغير الأحزاب والأشخاص في السلطة. والجدير بالذكر أن (قانون تحرير العراق) قد سن في عهد الرئيس بيل كلنتون (الديمقراطي) ونفذه الرئيس بوش (الجمهوري).
4-إذا انسحبت أمريكا من العراق قبل إنجاز المهمة، تعتبر هزيمة نكراء لها أبشع من هزيمتها في فيتنام، وبذلك ستفقد ماء وجهها ومصداقيتها وثقة العالم بها، وتنحط سمعتها ومكانتها إلى الحضيض في نظر العالم، ولم تعد الدولة العظمى، بل مسخرة تثير الضحك والتندر عليها، وهذا لا يمكن أن يحصل مطلقاً، سواء تحت قيادة بوش الجمهوري، أو أي شخص آخر من الحزب الديمقراطي.
5-يجب أن يعلم الذين يتمنون هزيمة أمريكا وفشل دمقرطة العراق، ويطالبون بالانسحاب الفوري من العراق وترك العراقيين لمصيرهم الأسود، أن القضية العراقية هي لم تعد تخص العراقيين وحدهم فقط، بل هي مسؤولية المجتمع الدولي وبالأخص أمريكا وبريطانيا. لأن ترك العراق بهذه الحالة وقبل أن تستكمل بناء البنى التحية للدولة من مؤسسات حفظ الأمن وحكم القانون...الخ، فسيتحول العراق ليس إلى مقبرة جماعية للشعب العراقي فقط، بل وسيكون وبالاً على العالم كله. إن الانسحاب من العراق قبل استكمال مؤسسات الدولة الديمقراطية القابلة للبقاء، سيؤدي إلى ما حصل في أفغانستان بعد انسحاب القوات السوفيتية منها، حيث سقطت الحكومة الشيوعية، وأقيمت مكانها حكومة إسلامية من مليشيات quot;المجاهدينquot;، ومن ثم بدأ الاقتتال بين هذه المليشيات إلى أن انتصرت منظمة طالبان بمساعدة الجيش الباكستاني، وقيام (إمارة أفغانستان الإسلامية) بقيادة طالبان، وإمرة quot;أمير المؤمنينquot; الملا عمر، وبدعم من منظمة القاعدة الإرهابية، وكانت النتيجة وبالاً على العالم وبالأخص على أمريكا نفسها، حيث تحولت أفغانستان إلى دولة مارقة، وقاعدة للإرهابيين ضدها، ومنها بدأت القاعدة بضرب السفارات الأمريكية في نايروبي ودار السلام وغيرهما، إلى أن وصل الإرهاب إلى داخل أمريكا حيث بلغت الذروة بهجمات 11 سبتمبر 2001، التي أخرجت أمريكا من صمتها فشنت الحرب على حكومة طالبان وأسقطتها وأعلنت الحرب على الإرهاب بشكل عام.

محنة المالكي
السيد نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي، في وضع لا يحسد عليه. فمن جهة يطالبه جميع الأطراف بالحزم ودحر الإرهاب وأن يقدم نتائج مُرضية لحكومته بأسرع وقت ممكن، ولكنه من جهة أخرى، نراه مكبلاً بقيود صلاحيات محدودة لا تسمح له بتنفيذ ما يريد. وإذا كان يحق للرئيس جورج دبليو بوش الذي يعاني من ضغوط من الشعب الأمريكي وحملة دعائية شرسة ضده من خصومه، أن يفرض هو بدوره ضغوطاً على المالكي ومطالبته بأن يكون أكثر حزماً ويبذل كل ما في وسعه للسيطرة على الوضع وتحذيره بقوله quot;لصبر أمريكا حدودquot; وانه سيدعم حكومة المالكي laquo;طالما اتخذ قرارات جريئةraquo;، فهذا في رأينا لا يعني تخلي أمريكا عن مسؤولياتها الإخلاقية في دعم حكومة المالكي، بل لدفعها إلى اتخاذ المزيد من الحزم والإجراءات اللازمة في مواجهة الإرهابيين والمليشيات المسلحة.
ولكن في نفس الوقت لنكن منصفين في إصدار أحكامنا، ولا أريد هنا الدفاع عن السيد نوري المالكي وحكومته وإيجاد المبررات لعدم قضائه على الإرهاب كما نريد، بل لأن الحقيقة يجب أن تقال. إن سبب عدم تقدم حكومة المالكي في دحر الإرهاب ناتج ليس عن ضعف شخصية رئيس الوزراء، بل عن صعوبات عديدة ومعقدة، منها وحشية وشراسة الإرهاب، وعدم تكامل القوات الأمنية العراقية، إضافة إلى اختراقها من قبل عناصر حزبية والإرهابيين، وتدخل دول الجوار في الشأن العراقي، كذلك، أن الحكومة الإئتلافية تضم عدة جهات متصارعة ولها مليشيات متحاربة تساهم في تصعيد موجة الإرهاب. ومن طبيعة الحكومة الديمقراطية- الإئتلافية أنها تكون في وضع حرج وأضعف من حكومة الحزب الواحد أو حكومة مستبدة، كما هي الحال في العراق ولبنان. فليس من الإنصاف المطالبة بحكومة الوحدة الوطنية تضم جميع الأطراف السياسية من جهة، وفي نفس الوقت نريد من هذه الحكومة أن تتصرف بحزم وعلى طريقة حكومة صدام حسين من جهة أخرى. فحكومة المالكي رغم أنها الحكومة العراقية الدائمة الوحيدة في تاريخ العراق الحديث والقديم، التي تشكلت ديمقراطياً وتمثل جميع الأطراف والتحالفات في الطيف العراقي المتعدد الألوان، سياسياً وقومياً ودينياً ومذهبياً، إلا إنها في نفس الوقت، فإن أطراف هذه الحكومة غير منسجمة مع بعضها البعض وذلك بسبب صراع مصالح الفئات المختلفة. لذلك أعتقد أن المالكي في هذه المرحلة، مازال يستحق الدعم ليس من قبل أمريكا فحسب، بل والأهم، من قبل الشعب العراقي وقواه السياسية والثقافية المختلفة أيضاً. فكما قال السيد المالكي في مقابلة مع وكالة رويترزً: laquo;لا اعتقد إن السياسة الأمريكية سترتكب خطأ استبدال رئيس حكومة عراقية، وإن فعلوا ذلك، فانهم سيحرقون شعاراتهم.... لا اعتقد انهم يفكرون على هذا النحو لأن ذلك سيعني فشل العملية السياسية برمتهاraquo;. وبخصوص حثه على أخذ laquo;القرارات الجريئةraquo; قال المالكي: laquo;أريد أن اتخذ قرارات صعبة وصارمة.. ولكن كل من يريد أن يتخذ قرارات كهذه يجب إن يقف على أرضية صلبة، والى الآن فان الأرضية مهزوزة بسبب السياسات الأمنية الحاليةraquo;. وأضاف laquo;بصفتي رئيسا للوزراء أنا القائد الأعلى للقوات المسلحة، لكنني لا أستطيع تحريك كتيبة واحدة بدون موافقة التحالف بسبب تفويض الأمم المتحدةraquo;. (الشرق الأوسط، 27/10/2006). إذنْ، هذه هي الصورة الحقيقية لوضع المالكي وحكومته، فأمريكا هي التي بيدها قرارات الأمن والقوة العسكرية، وهذا يعني أنه إذا أردنا من المالكي أن يكون حازماً ومؤثراً فلا بد من منحه صلاحيات واسعة، بينما أغلب القرارات الآن مازالت بيد قادة قوات التحالف.
أجل، المالكي في موقف حرج وصعب ومكبل بالأغلال تمنعه من تنفيذ ما يريد وما نطالبه بعمله. فمن جهة نريده أن يكون ديمقراطياً ومنتخباً من قبل الكتل البرلمانية المتصارعة ويحظى برضاها، ومن جهة أخرى نطالبه بحل مليشيات هذه الكتل التي انتخبته وجاءت به إلى رئاسة الحكومة، مثل كتلة مقتدى الصدر وحزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية...الخ. فإذا استخدم المالكي القوة لحل هذه المليشيات كما تطالب به أمريكا، ستقف الكتل السياسية في البرلمان ضده وتسقطه من رئاسة الحكومة، وإن لم يستخدم العنف لحل المليشيات فإنه يفقد الدعم الأمريكي. ومن هنا نرى المالكي أشبه بمن يمشي على حبل مشدود للحفاظ على توازنه من السقوط، فهو في وضع المستحيل (mission impossible).

ما العمل؟
الحل الوحيد في رأيي، هو تحرير المالكي من قيوده، أي من سيطرة الكتل البرلمانية، وبالأخص من مقتدى الصدر وعبدالعزيز الحكيم وغيرهما، وذلك كما اقترحته في مقال سابق لي بعنوان (دعوة لتأجيل الديمقراطية في العراق)، وبذلك يمكن ضمان بقائه في رئاسة الحكومة بالدعم الأمريكي، وبدون الحاجة إلى دعم الكتل البرلمانية له. أما إذا أرادت أمريكا من رئيس الوزراء أن يكون منتخباً من الكتل البرلمانية ومصيره بيد هذه الكتل وينفذ قرارات ضدها، فإنها تطالب بالمستحيل.

الخلاصة والاستنتاج
وبناءً على ما تقدم، فلو خذلت أمريكا الشعب العراقي وتركته لينال مصيره تحت رحمة الإرهابيين، فسيتحول العراق إلى quot;دولة الخلافة الإسلاميةquot; كما تحلم بها الجماعات الإرهابية، واتخاذه قاعدة ينطلق منها الإرهاب ليس على أمريكا فحسب، بل وعلى العالم كله، وعندها سيعيد التاريخ الأفغاني نفسه في العراق على شكل مأساة أكبر، وستضطر أمريكا العودة إلى شن الحرب على العراق من جديد، تماماً كما حصل في أفغانستان لتبدأ من المربع الأول وبتكاليف أكثر آلاف المرات. وهذه الحقيقة يعرفها الرئيس بوش وجميع أفراد طاقمه في البيت الأبيض، كما ويعرفها قادة الحزب الديمقراطي الأمريكي وكل من يملك عقلاً سليماً لم يتلوث بمرض العداء لبوش وبلير وللحضارة الغربية وقيمها الإنسانية.
ومن كل ذلك نستنتج أن احتمال انسحاب أمريكا من العراق، كما يروج له أعداء الديمقراطية وبدافع التمنيات وروح الأنانية المقيتة، غير ممكن بشكل مطلق. وقد أكد الرئيس بوش على ذلك مراراً وتكراراً، ولكن لن يجدي هذا التأكيد نفعاً مع أصحاب الأفكار الرغبوية في رؤية أمريكا مهزومة من العراق ويصورونها كما لو أنها حصلت فعلاً، ولكن نؤكد لهؤلاء أن هذه الأفكار الرغبوية قائمة فقط في مخيلاتهم المريضة، والتمني رأسمال المفلس، كما يقول المثل. كما ونؤكد أنه ليس للعراق ولأمريكا غير طريق واحد ذو اتجاه واحد، وهو مواصلة النضال إلى أن يتم سحق الإرهاب وتحقيق النظام الديمقراطي المستقر المزدهر.