ولقاءات أُخرى

جاء في تهذيب ابن عساكر (ولقيهما ــ أي الحسين وعبد الله بن الزبير وهما في الطريق من المدينة إلى مكّة ــ عبد الله بن عمر وابن عباس وابن أبي ربيعة ــ في طبعة التهذيب خطأ في الاسم شوا لتصحيح في البداية والنهاية 8 / 164 ــ بالأنواء منصرفين من العمرة فقال لهما ابن عمر : إ ذكِّركما الله ألاَّ رجعتما فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس وتنظرا، فإن اجتمع الناس عليه فلا تشذّا، وإذ ن افترقا عليه كان الذي تريدان، وقال ابن عمر للحسين : لا تخرج فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خيَّره الله بين الدنيا والآخرة فأختار الآخرة، وإنّك بضعة منه فلا تتعاط الدنيا، فأعتنقه وبكى وودّعه... وقال له ابن عباس : أين تريد بابن فاطمة قال : ا لعراق وشيعتي، قال : أنّي لكاره لوجهك هذا، تخرج لقوم قتلوا أ باك وطعنوا أخاك حتى تركهم سخطة وملّهم، اذكر الله أن تغرِّر نفسك) ــ 19 تهذيب ابن عساكر 4 / 331 ــ وهي رواية ابن سعد ضمن جوامع أحاديثه عن مقتل الحسين ــ ما رواه ابن سعد وهو القسم الأخير من طبقاته غير منشور ولكنّه في تاريخ دمشق ــ

ولكن في هذه الرواية ما يلفت الانتباه، ومنها : أنّ هناك رواية أُخرى تفيد أنَّ الحسين غادر المدينة بعد عبد الله بن الزبير بليلة ــ 20 ا لكامل 4 / 16 ــ كما لم تكن في البين أي علائم تشير إلى أنّ الحسين عليه السلام عازم على الذهاب إلى الكوفة وهو يبرح المدينة، ولغة إ بن عباس كانت جافّة مع الحسين عليه السلام فيما المعروف عنه التلطّف والتواضع مع الحسين، فإنّ ذلك جزءً من علاقته الحميمية بعلي بن أبي طالب عليه السلام. ولكن ابن إلا سير يشكك بهذه الرواية (وقيل أنَّ ابن عمر كان هو وابن عباس بمكّة، فعادا إ لي المدينة، فلقبهما ا لحسين وأبن الزبير فسألاهما : ما ورائكما ؟ فقالا موت معاوية وبيعة يزيد، فقال إ بن عمر : لا تفَّرقا جماعة المسلمين... وقدم ــ أي ابن عمر وابن عباس ــ ا لمدينة) 21 ــ الكامل 4 / 17 ــ

فإبن الأثير صدّر الرواية بـ (قيل)، أي بلغة التمريض، ونقرأ في (الإخبار الطوال) للدينوري (وأمّا عبد الله بن عباس فقد كان قد خرج قبل ذلك ــ أي قبل خروج الحسين المدينة إلى مكّة ــ بأيام إلى مكّة) 22ــ ص 218 ــ وينبغي أنّ لا يغرينا في قبول ذلك رواية صاحب البداية والنهاية ــ 8 / 150 ـــ لأنّه رواها عن ابن سعد أيضاً، أي عن صاحب الطبقات الكبرى، كذلك رواية الفتوح مع العلم ـ كعادته ــ أضاف زيادات كثيرة على أصل النص ــ الفتوح 5 / 24، كذلك رواية مقتل الخوارزمي 1 / 189، مع العلم ان الخوارزمي يعتمد كثيراً على الفتوح ــ.
إنّ كل هذه المقتربات تجعلنا نشكُّ شكاً عميقاً بهذه الرواية.

رواية (غيبيِّة !)
تروي بعض المصادر أنّ الحسين قبل خروجه إلى مكّة زار قبر جدِّه رسول الله، وقد اتخذ هذا الخبر مزيدا من التصعيد في المضمون .
في الطبري (قال أبو مخنف : وحدّثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق، عن أبي سعيد المقبري، قال : نظرتُ إلى الحسين داخلاً مسجد المدينة وأنّه ليمشي وهو معتمد على رجلين، يعتمد على هذا مرّة وعلى هذا مرّة، وهو يتمثل قول ابن المفزع :
لا ذعرت السّوام في فلق الصب ح مغيرا ولا دُعيتُ يزيدا.
يوم أُعطي من المهابة ضيما والمنايا يرصدني أن أحيدا.
قال : فقلتُ في نفسي : والله ما تمثّل بهذين البيتين إلاّ لشيء يريد، قال : فما مكث إلاّ يومين حتى بلغني أنّه سار إلى مكّة) 23 ــ 6 / 261 ــ رواه بهذا السند البلاذري في الأنساب ورواه صاحب البداية والنهاية (قال الزبير بن بكار : وحدّثني محمّد بن الضحاك، قال : لما أراد ا لحسين الخروج من مكّة إلى الكوفة مرّ بباب المسجد وقال ...) 24 ــ البداية والنهاية 8 / 167 ــ

الزبير بن بكّار توفي سنة 256 للهجرة، وروايته على هذا الأساس مرسلة، إذا عمره بلغ أربعاً وثمانين سنة، وهذا يعني انّه مولود سنة 172 للهجرة 25 ـ تهذيب التهذيب 3 / 580 ــ فإلى أي مدى يمكن أن يمتّد عمر الضحاك حتى يكون حاضراً الواقعة المذكورة؟ وأمّا رواية الطبري ففي سندها (عبد الملك بن نوفل بن مساحق) وهو وإن كان راوية معروفاً لدى الطبري وغيره، وهو أحد مصادر أبي مخنف، ولكن لم يوثّقه أحد غير (ابن حبّان)26 ــ نفس المصدر ــ وفي توثيق هذا الأخير نظر فيما إذا تفرّد به، وذلك عند معظم الرجاليين، على أن (المقبري) يقول أن الحسين تمثّل بهذين البيتين في المدينة، وهو يروم الخروج إلى مكّة، فيما رواية الزبير بن بكّار إنّه تمثّلها في مكّة، ومهما يكن من أمر فإن فحوى رواية الطبري : أنّ سيدي وأمامي الحسين عليه السلام كان خائفاً من القتل، وهذا طبيعي لأنه لم يبايع، وكان مروان بن الحكم قد اقترح على الوليد قتله لو لم يبايع، وكانت رسالة يزيد بن معاوية إلى الوليد تحمل هذا المعنى، فيما نرى بعضهم يحمّلها بُعداً غيبيِّاً يتصل بالطف ومأساة عاشوراء !

هذه الرواية تصاعدت وتيرتها في مصادر أخرى، ففي رواية ابن أعثم الكوفي أن الحسين زار قبر جدِّه مرّتين، وقد خاطب الرسول في الإ ولى (السلام عليك يا رسول الله، أنا الحسين بن فاطمة، أنا فرخك وابن فرختك وسبطك في الخلف الذي خلّفت على أُمتك ، فاشهد عليهم يا نبيّ الله أنّهم خذلوني وضيعوني وإنهم لم يحفظوني، وهذه شكواي إليك حتى ألقاك ...)27 ــ الفتوح 5 /19 ــ وفي الثانية قال (اللهم أنّ هذا قبر نبيّك محمد وأنا ابن محمّد وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللهم وأني أحب المعروف وأكره المنكر، وأنا أسالك يا ذا الجلال والإكرام بحق هذا القبر ومنْ فيه، ما اخترت من أمري هذا ما هو لك حتى ترضى) 28 ــ نفس المصدر والصفحة ــ ونعود للقول إن رواية ابن اعثم تحتاج إلى تروّي كثير، فان روايته عارية من السند وهو شديد على الأمويين ، كما يغلب عليه (الطابع الروائي السردي بصورة عامّة) ـ29 الحجاز والدولة الإسلامية لبيضون ص 22 ــ ويتابع صاحب (الفتوح) كلامه هنا، فيدّعي أن ا لحسين أخذته إغفاءة على القبر، وأن رسول الله جاءه في عالم الرؤيا وقصّ عليه مأساة كربلاء بكاملها وموضوع الجنّة التي تنتظره 30ــ الفتوح 5 /20 ــ ثمَّ جاء الخوارزمي ونقل كلام ابن أعثم ــ مقتل الخوارزمي 25 1 / 186 ــ ثمّ جاء صاحب البحار ليكرّر العمل ذاته، وهكذا من مصدر لمصدر... وهناك زيادات أخرى في المضمون والمحتوى وردت في منتخب الطريحي، وناسخ التواريخ، وغيرها من الكتابات المتأخرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

يتبع إن شاء الله

الحلقة الأولى

الحلقة الثانية