الحلقة الثانية

الأولى

القضاء الأعمى
من المعروف تاريخيِّأ ان أمامنا الحسين عليه الصلاة والسلام تنكّب الطريق الأعظم في رحلته من المدينة الى الحجاز، وذلك عكس ما فعل أبن الزبير9 ــ الطبري 5 / 351 ــ وقد كان ذلك محل تعجّب البعض، فمن المفروض أن يختار غير هذا الطريق فأجاب الشهيد العظيم (لا والله حتى يقضي الله ما هو احبُّ اليه )9 ـ الطبري 5 /351 ــ وفي إرشاد الشيخ المفيد (لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض) 10 ـ الإرشاد 202 ــ، وقد ورد مثل ذلك في فتوح ابن أعثم الكوفي ومقتل الخوارزمي.
هذا الجواب في تصوري لا يشفي غليلا، ولا يدخل في نطاق التفكير الإعتيادي، ما لم تكن هناك دواع أخرى تخترق المألوف في حياة الناس، وإلاّ لماذا لم يمكث في المدينة حتى يجري القضاء بما خطّه في سالف من زمن؟ وأذا كان الحسين سلام الله عليه قد إستهواه القضاء في لحظة نائية من أعدائه فلماذا لا يغرم فيه وهو في لحظة قريبة من هؤلاء الجفاة؟ وإ ذا كان هذا هو جواب الحسين عليه السلام حقا، فإنّما قد يراعي عقول السائلين، لأنها قد لا ترتفع إلى مستوى المعنى الغائر في أعماق ضميره الحي، أما أولئك الذين يعلّلون هذا السلوك بإرادة الشهادة المسبقة، فهم يؤخرون ويقدّمون هذه الإرادة حسب هواهم، وما علموا ان إستعجالها من قبل الحسين في المدينة أقدر على تحويلها الى لعنة أبدية بحق يزيد وأعوانه. الجواب مُساق على وتيرة تلتقي مع التقدير المسبَّق على صعيد الشهادة، فهناك قضاء يجري في حياة الحسين الإمام سلام الله عليه منسجم الوتائر، وليصُّبّ في نتيجة مرسومة سلفا، أن الجواب محبوك في إطار قصِّة هادفة.
أن الحسين عليه السلام أبى إلاّ (أن يتنكّب الطريق الأعظم) لان ذلك من أخلاق الفروسية التي ورثها عن أبيه عليه السلام، ولعلّ من دلائل ذلك أنّه كان يقرأ قوله تعالى (فخرج منها خائفاً يترقّب قال ربِّ نجني من القوم الظالمين) فهي سجيِّة الفارس الشجاع الذي يتحدّى ولكن بما يخالط الجرأة ــ عادة وتكويناً ــ من هواجس الخوف على مصير من خطر مرتقب، أنّه ليس كابن الزبير، يجثم كالأسد، ويراواغ كالثعلب (فإذا مكنته الفرصة وثب) 11 ــالطبري 5 /322 ــ في المدينة وهو يغادر مكّة المكرمة نقرأ عن مجموعة حوادث و وقائع نريد إ ستجلائها جيدا، لأنها تتصل بالخطاب الحسيني بشكل وآخر...

لقاء عبد الله بن المطيع
يلتقي الحسين عليه السلام عبد الله بن المطيع وقد أحيط اللقاء بالأسرار والغيبيات، كما أنَّه تضمَّن موقفاً مهماً يهمنا تحليله، فأننا نقرأ في الاخبار الطوال أنّ إبن المطيع حذرَّ الحسين عليه السلام من أن يترك مكّة ــ إذا حلّ فيها ــ الى العراق، والكوفة على وجة الخصوص، بعد أن وصفها بالغدر والخيانة والشؤم، وفي طبقات إبن سعد إنَّ الحسين أخبر إبنّ المطيع بأن شيعة الكوفة قد كتبوا اليه وأنه سائر اليهم، فحذَّره من ذلك قائلاً له (متعنا بنفسك ولا تسر إليهم) ــ12 طبقات إبن سعد 5 / 144 ــ نقل ذلك إبن عساكر في التهذيب مع إختلاف ملحوظ ــ13 تهذيب إبن عساكر 4 /331 ــ وفي رواية أُخرى لأبن سعد أن عبد الله بن مطيع قال للحسين (بأبي أنت وأمي إ مسك عليك نفسك فو الله لئن قتلوك ليتخذونا هؤلاء القوم عبيداً) ــ 14 المصدر 5 / 145 ــ وفي الطبري عن أبي مخنف أن الحسين إلتقى عبد الله بن المطيع وهو في الطريق إلى مكّة وجرى بينهما الحوار التالي (فقال ـ عبد الله ــ للحسين: جُعلتُ فداك أين تريد؟ قال أمّا الأ ن فإني أريد مكّة، وأمَّا بعدها فأستخير الله، قال: خار الله لك، وجُعلنا فداك، فإذا أنت أتيت مكّة فإياك أن تقترب الكوفة ، فإنّها بلدة مشؤومة بها قُتل أبوك... إلزم الحرم فإنّك سيد العرب... ويتداعى إليك الناس من كل جانب، ولا تفارق الحرم فداك عمّي وخالي)15 ــ 5/ 271 الطبري ــ ومن الصعب التصديق بإنّ ا لحسين عليه السلام أـ خبر عبد الله بأن أهل الكوفة كاتبوه لأنّ كتبهم جاءته وهو في مكّة.
أ ن الحسين عليه السلام لم يمكث طويلاً في المدينة بعد أن إستدعاه الوليد بن عبتة للبيعة بل سارع بالخروج إلى مكّة المكرّمة فكيف تمّ هذا؟ أمّا أنّه حذّره من الذهاب الى الكوفة فربما مجرّد حدس من قبل عبد الله بن مطيع، إذ لم توجد أي إشارة كانت تفيد أنَّ الحسين عليه السلام عازم على الذهاب الى الكوفة، عل أنَّ هذا التحذير يسترعي الإنتباه حقاً، ذلك أنَّ عبد الله بن مطيع إلتحق بعبد الله بن الزبير وولى له الكوفة ــ16 طبقات إبن سعد 5 / 147 ــ فهل كان إصرار عبد الله بن مطيع على الحسين عليه السلام بالبقاء في الحجاز لإغراض سياسية بعيدة؟ ولماذا لم يلتحق به وينصره في معركته ومحنته؟ وربما سيقت هذه الرواية لتبرير تخلّف إبن المطيع عن نصرة إمامنا الحسين لان الرجل من عشيرة (عدي)، وهذه المسألة لها أهميّة في مثل هذا الموضوع، وتضاعفت مضامين الرواية لتؤكد نوع العلاقة الخاصّة بين عبد الله إبن المطيع والحسين عليه السلام، ففي رواية إبن سعد (... مرّ حسين بن على إبن المطيع وهو ببئره قد أنبطها، فنزل حسين عن راحلته، فأ حتمله أبن المطيع إحتمالاً حتى وضعه على سريره، ثمّ قال: بأبي وأُمي إمسك علينا نفسك...) ـ17تفس المصدر 5 / 145 ــ تُرى أين هذا الموقف ا لصميمي من المحنة التي أحاطت بالحسين؟ لم نعهد لابن المطيع أي موقف إيجابي في هذا الخصوص.
وتأخذ الرواية منحى غيبيّا (... فقال أبن مطيع: أين فداك أبي وأُمي، متعّنا بنفسك ولا تسر إليهم ـ الكوفة ــ فأبى الحسين، فقال له إبن مطيع: أنّ بئري هذه قد رشحتها وهذا اليوم أوان ماخرج إلينا في الدلو شي من الماء، فلو دعوتَ الله لنا فيها بالبركة، قال: هات من مائها، فأتى من مائها في الدلو فشرب منه ثمّ مضمض ثمّ ردّه في البئر فأعذب وأمهى) ــ 18 نفس المصد ص 145 ــ لا نريد أن نتحدث عن السند، ولكن يبدو لي أن الرواية سيقت أصلا لتثبيت كرامة لابن المطيع، المقصود بعيدا هو عبد الله بن المطيع، لتضفي على موقفه ا لخاذل من أبي عبد الله عليه السلام شيئا من التخفيف والتهوين بشكل وآخر.

يتبع