الليلة الأولى / مشروع الإنصراف !
كان هناك أكثر من حوار بين الحسين وعمر بن سعد في 1 / محرّم/ 61، الخميس، بغية الوصول إلى حل ناجع، ولكن دون جدوى، خاصَّة وأن عبيد الله بن زياد قد بعث برسالة بيد شمر بن ذي الجوشن إلى بن سعد يستحثُّه ويستعجله قتل الحسين عليه السلام فيما إذا لم يبايع، الأمر الذي سرَّع بحتميَّة الصدام في اليوم التالي، أي الجمعة في 10 / محرّم / 61 للهجرة.
كان الحسين في ليلة العاشر من محرّم وبعد أن يئس من إ قناع القوم قد (أمر أصحابه أن يقرّبوا بعض بيوتهم من بعض وأن يدخلوا بعض الأطناب في بعض، وأن يقفوا البيوت بين البيوت، فيستقبلوا القوم من وجه واحد، والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وشمائلهم، وقد حُفَّت ا لبيوت إلاّ الوجه الذي يأتيهم عدوهم منه) 1 ـ أنساب الأشراف 186 ــ واستكمالاً للاستعداد (أمر فأُتي بقصب وحطب إلى مكان من ورائهم منخفض كأنه ساقية، وكانوا حفروه في ساعة من الليل، فصار كالخندق، ثم ألقوا فيه ذلك القصب والحطب، وقالوا إذا غدوا فقاتلونا ألهبنا فيه النار، لئلا يأتونا من ورائنا...) 2 ــ نفس المصدر 186 ــ كل ذلك كان في ليلة الجمعة 9 / محرّم / 61، أما الطرف الآخر فهو أيضاً وضع استعداداته الخاصّة بذلك، وكاد بن سعد أن يهجم يوم الخميس بعد العصر، وهتف بداية (يا خيل الله أركبي وابشري...) 3 ــ الطبري 6 / 342 ــ ولكن اقتراح الحسين بتأجيل الأمور إلى يوم غد هو الذي حال دون ذلك، وفي غداة الجمعة حيث فشلت محاولات الحسين لحقن الدماء دخلت الاستعدادات مرحلة جديدة من قبل كلا الطرفين.
يقول الطبري (وعبَّأ الحسين أصحابه وصلى صلاة الغداة ـ الفجر ــ وكان معه اثنان وثلاثون فارساً، وأبعون راجلاً، فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه، وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه، وأعطى رايته العباس بن علي أخاه، وجعلوا البيوت ورائهم) 4ــ المصدر 6 / 349 ــ وفي المقابل خرج عمرو بن سعد (وعلى ميمنته عمرو بن الحجاج الزبيدي، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن الضبابي، وعلى الخيل عزارة بن قيس الأ حمسي، وعلى الرجالة شبث بن ربعي الرياحي، وأعطى الراية رويداً مولاه) 5 ـ أنساب الأشراف 178 ــ وكان ذلك يوم الجمعة في 10 محرّم 61، وذلك بعيد الغداة.

تروي المصادر أن الحسين نصب خيمة للطلي، ومن ثم وبعد انتهاء هذه العملية رفع مصحفه على رأسه وراح يدعو (اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدَّة، وأنت وليِّ في كل أمر نزل بيَ ثقة و عُدَّة...) 6 ــ الطبري 6 / 350 ــ ومهما كان من أمر فإن عمر بن سعد بدأ الهجوم، فيما كان الحسين قد أضرم النار في القصب، فقال الشمر (يا حسين تعجَّلت النار) 7 ـ أنساب الأشراف 187 ــ فأجابه الحسين بما يليق به، وهنا اقترح مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم فقال الحسين (لا ترمه فأني أكره أن أبدأهم) 8 ـ نفس المصدر ص 188 ــ وفي خضم هذه الأوضاع المتوترة عرض الحسين مرّة أخرى مشروع الانصراف، ولكن دون جدوى 9 ــ الطبري 6 / 351 ــ وبعد ذلك خطب الحسين خطبة طويلة شدَّد فيها على منزلته في الإسلام،داعياً القوم إلى التحقق من ذلك، فعلَّق الشمر (هو يعبد الله على حرف إنْ كان يدري ما يقول) 10 ــ نفس المصدر 352 ــ فهل حقاً كان الشمر لا يفقه قول الحسين؟ أم هي محاولة للتعامي عن الحقيقة؟ أم إنّ الشمر كان شخصية غبية جاهلة بأمور الدين والتاريخ؟
في هذه الأثناء حيث كانت تتقادم وتتفاعل عوامل الصدام خاطب الحسين بعض أشراف الكوفة، وذكَّرهم بالرسائل التي بعثوها أليه فأنكروها جميعا 11 ــ فكيف نفسٍّر هذه الظاهرة؟ هل هو استغفال إلى هذه الدرجة؟ أم أنَّه الطريقة الوحيدة للخلاص من المسؤولية؟ من الصعب تفسير مثل هذه المفارقات وما أكثرها في واقعة الطف، ومرَّة أخرى قال الحسين هنا(أيها الناس إذا كرهتموني فدعوني أنصرف إلى مأمني...) 12 ـ انساب الأشراف 188 ــ فأجابه قيس بن الأشعث ( أولا تنزل على حكم بني عمِّك، فأنهم لن يروك إلاّ ما تحب، ولن يصل إليك مكروه؟ فقال الحسين أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل، لا والله، لا أعطيهم إعطاء الذليل،ولا أقرُّ إقرار العبيد...) 13 ــ الطبري 6 / 353 ــ ومن هنا نفهم إصرار الحسين على حقن الدماء إلى آخر لحظة، نلتقي هنا بخطاب أستطيع أن أسمِّيه بـ ( خطاب ضد الثورة)، ومن خلال الحوارات المذكورة نرى الحسين ما زال متمسكا بأخلاق الفروسية.
كان ذلك هو رد قيس بن الأشعث، فتبعه زحف الجيش نحو الحسين، فخطبهم زهير بن القين ناصحا متوعِّداً، ذاكراً له بأن عبيد الله بن زياد سوف يسوسهم بالحديد والنار، ( فسبوه، وأثنوا على عبيد الله بن زياد، ودعوا له، وقالوا : والله لا نبرح حتى نقل صاحبك ومن معه، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله بن زياد سالماً) 14 ـ 6 /354 ــ وكان حصيلة هذه الحوارات أنْ (رماه الشمر بسهم، وقال أُسكت أسكتَ الله نامتك، فقال له زهير : ابشر بالحر في يوم القيامة، فقال الشمر : إنَّ الله قاتلك وقاتل أصحابك هذه الساعة) 15 ـ ا لأنساب 189 ــ
إنَّ مما يلفت النظر حقاً أن الحسين وأصحابه بعد كل هذه الاستعدادات بالغوا بالنصح، وكانوا يقترحون فكرة الانصراف المرّة تلو الأخرى ولكن دون جدوى 16 ــ نفس المصدر 188 ــ وممِّا سبق نفهم أن أول من رمى هو شمر بن ذي الجوشن،وذلك قبل بدء الشباك الحقيقي بين الفريقين.
كان عمر بن سعد يزحف بهدوء نحو الحسين، وقبل الاشتباك الفعلي كانت مفارقة الحر بن يزيد الرياحي، ففي لحظة وعي فائقة يقول لعمر بن سعد (... أصلحك الله أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال له : أي والله، قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الايدي...) 17 ــ الكامل في التاريخ 4 / 64 ــ ويتطور موقف الحر حيث يلتحق بالحسين، معتذراً نادماً، وقد خاطب المجتمعين على قتال ا لحسين (... لأمكم الهبل والعبر دعوتموه حتى إذا أتاكم أسلتموه فصار في أيديكم كالأسير ! وقد حلأتموه ونساءه وأصحابه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهود والنصارى والمجوس، ويتمرّغ في خنازير السواد، لبئسما خلفتم به محمداً في ذريته، فدعوا هذا الرجل يمضي في بلاد الله، أما أ نتم مؤمنون؟ وبنبوة محمّد مصدقون؟ وبالمعاد موقنون؟ فرموه بسهم) 18 ــ أنساب الأشراف 189 ــ
هنا نسجل تطور موقف عمر بن سعد، لقد مرَِّ بمراحل، إذ كان ممتنعاً عن قتال الحسين عندما كلَّفه عبيد الله بن زياد لأول مرَّة، فلما هدَّده بسحب ولاية الري قبل متردِّدا، وعندما زحف نحو كربلاء وحطَّ فيها راجع نفسه، وحاول جهد الإمكان ا لتخلُّص من المسؤولية،ولكن رسالة زياد حفَّزت فيه نوازع العدوان والشر، فأندفع وهو يبشر بقتال ضار، أيسره قطع الرؤوس والأيدي، ويبلغ الذروة عندما يدشِّن ا لاشتباك ا لفعلي بنفسه، فقد جاء في البلاذري وذلك بعد استعراض موضوع الحر (وزحف عمر بن سعد نحوهم، ونادى : يادريد أُدن رايتك، فأدناها، ثم وضع عمر بن سعد سهماً في كبد قوسه، ورمى، وقال : اشهدوا لي أني أول من رمى، فلما رمى عمر رمى الناس) 19 ـ أنساب الأشراف ص 190 ــ
والسؤال المطروح هنا، كم مضى من الوقت منذ ا نتهاء صلا ة الغداة حتى رمية أبن سعد؟ لا أعتقد إنَّه بالوقت القصير، إذ كان هناك ا لإعداد، وبعض مراسيم الدخول للحرب، وعملية حرق الحطب، والحوار بين الطرفين.
أن مشروع هذه الليلة بالنسبة للحسين كان إقناع القوم بالانصراف إلى مأمنه، وبالتالي كان خطاب هذه الليلة هو خطاب (اللاّثورة).

مصفوفة شكوك
تُنسب إلى الحسين مجموعة بيانات وخطب وكلمات في صبيحة عاشوراء،نريد استعراض أهمها من أجل مزيد من الوضوح حول شخصية الحسين وعمله المبارك.
في الفتوح (فلما كان وقت السحر خفق الحسين عليه السلام رأسه ثم أستيقظ فقال : أتعلمون ما رأيت في منامي الساعة؟
قالوا : ما الذي رأيت يا بن رسول الله؟
قال : رأيت كلاباً قد شدَّت علي تناشبني، وفيها كلب أبقع رأيته أشدَّها عليَّ، وأظن الذي يتولَّى قتلي رجل أبقع أبرص من هؤلاء القوم، ثم أني رأيت بعد ذلك جدِّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه جماعة من أصحابه يقول لي : يا بني !شهيد آل محمّد، وقد استبشرت بذلك أهل السماوات وأهل الصفح الأعلى، فليكن إفطارك عندي الليلة، عجِّل ولا تؤخِّر ! فهذا أثرك قد نزل من السماء، ليأخذ دمك في قارورة خضراء، وهذا ما رأيت، وقد أُزِفَ الأمر، وأقترب الرحيل من هذه الدنيا، ولا شك في ذلك) 20 ــ 5 /111 ــ ونقلها الخوارزمي في مقتله.
هذه الرواية مرسلة،ثم لماذا كان الحسين يصرُّ على الانصراف إلى مأمنه؟ ومن الواضح في الرواية استشراف الحسين للغيب، ويبدو ذلك من مقاصد الرواية، حيث أن شمر بن ذي الجوشن كان أبرص على ما ينقلون !
الغريب أن بعضهم يبني تاريخاً، ويشيد فكراً باسترشاد الأحلام، ويترك الخبر الذي قد يكون موثّقاً في بعض الأحيان.
في كامل الزيارات لابن قولويه (... حدُّثني الحسن بن عبد الله، عن محمّد بن عيسى، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن محبوب بن علي بن رباب، عن الحبي قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : إنَّ الحسين صلى بأصحابه الغداة، ثم التفت إليهم، فقال : أن قد أذن في قتلكم فعليكم بالصبر) 21 ــ ص 73ـ
في السند : محبوب الذي هو والد الحسن بن محبوب، لا ترجمة له في النجاشي، ومعلوماتنا عنه تكاد تكون ناضبة، لم يرد فيه توثيق 22 ــ معجم الخوئي 14 / 191 ــ فهل يُعقل الركون إلى هذا الرواية بعد كل هذا؟
يروي الخوارزمي بلا سند (... تقدََّم الحسين سلام الله عليه حتى وقف قبالة القوم، وجعل ينظر إلى صفوفهم كأنَّها السيل، ونظر إلى ابن سعد واقفاً في صناديد الكوفة، فقال : الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء، وزوال، منصرفة بأهلها من حالاً بعد حال، فالمغرور من غرَّته،والشقي من فتنته، فلا تغرنَّكم هذه الدنيا، فأنَّها تقطع رجاء من ركن إليها،وتخيب من طمع بها، وأراكم قد اجتمعتم على أمرٍ قد أسخطتم الله فيه عليكم، فأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحل بكم نقمته، وجنَّبكم رحمته، فنعم الرب ربنا، وبئس العبد أ نتم، أستحوذ عليكم الشيطان، فأنساكم ذكر الله العظيم،فتباً لكم،ولما تريدون، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد أيمانهم، فبعداً للقوم الظالمين. فقال عمر : ويلكم كلَِّموه،فإنَّه بن أبيه، و الله لو وقف فيكم يوماً جديداً لما انقطع، ولما حصر، فكلموه، فتقدم شمر لعنه الله فقال : يا حسين ما هذا ا لذي تقول؟ أفهمنا حتى نفهم. فقال عليه السلام : اتقوا الله ربكم ولا تقتلوني، فأنه لا يحل لكم قتلي، ولا انتهاك حرمتي، فإني بن بنت نبيكم، وجدتي خديجة زوجة نبيكم، ولعلَّه بلغكم قول نبيكم، الحسن والحسين سيدا شباب أ هل الجنِّة) 15 ــ 1 / 252 ــ والرواية مرسلة... لم ترد في أي مصدر تاريخي مهم.
في إحقاق الحق عن أبي الجحاف عن موسى، عن عمير الأنصاري، عن أبيه (قال : أمرني حسين بن علي، فقال : ناد في الناس أنْ لا يقاتلن معي رجل عليه دين، فإنَّه ليس من رجل يموت وعليه دين لا يد ع له وفاء إلاّ دخل النار.
فقام إليه رجل فقال : إنَّ امرأتي تكفلَّت عني.
فقال : وما كفالة امرأتي،وهل تقضي امرأة ؟) 16 ـ إحقاق الحق 19 / 492 ــ
الرواية تتضمّن نوع استهانة بالمرأة، والسند ضعيف بـ (موسى بن عمير الأنصاري) فلم يذكر عند الرجال إلاّ الدار قطني وقد ضعَّفه 17 ــ تهذيب التهذيب 10 / رقم 645 ــ
يروي ابن عساكر (... عن رجل من همدان، قال : خطبنا الحسين بن عليه السلام، غداة اليوم الذي أستشهد فيه، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمّ قال : ـ
عباد الله اتقوا الله، وكونوا مع الدنيا على حذر، فإن الدنيا لو بقيت لأحد أو بقي عليها أحد، كانت الأنبياء أحق بالبقاء، وأولى بالرضا، وأرضى بالقضاء، غير أنّ الله تعالى خلق الدنيا للبلاء، وخلق أهلها للفناء، فجديدها بال،ونعيمها مضمحل، وسوروها مكفهر، والمنزل بلغة، والدار قلعة، فتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى فاتقوا الله لعلكم تعلمون) 18 ــ تاريخ ابن عساكر 210 ــ وسند الرواية بـ (رجل من همدان) وذلك على أقل تقدير.
أن أكثر هذه الروايات أما مرسلة، أو ضعيفة السند، ومن العسير اعتمادها أو الركون أليها، في تأسيس صورة تاريخية سليمة، ومطمئنة، ومن الأجدر تركها.

الجزء الأول

الجزء الثاني

الجزء الثالث