دراسات في تاريخ بلاد الرافدين (الحلقة 3)

لقراءة الحلقة الأولى / الثانية /

بالرغم من انتهاء عصر الطوفانات والسيول العظيمة التي أعقبت العصور الجليدية، فإن مياه دجلة والفرات استمرت تحمل في مواسم الفيضان كميات جسيمة من الطمي والغرين من المناطق المرتفعة وتنقلها إلى السهل الرسوبي المنخفض جنوب خط (هيت ـ سامراء) حيث يبدأ الطمى والغرين والمواد العالقة بها بالترسب.
وبالنظر لانخفاض سرعة جريان المياه في السهل الرسوبي، كانت عملية ترسب تلك المواد تحدث كذلك في مجاري الأنهار نفسها، فيرتفع بسبب ذلك مستوى قاع تلك الأنهار وتظهر في مجاريها جزر رملية سرعان ما تنمو فيها الحشائش والأدغال مما يساعد على تماسك تربتها. وهذا بدوره كان يقلل من قابلية استيعاب تلك الأنهار للمياه التي تجري فيها. وفي مواسم الفيضانات كان منسوب مياه تلك الأنهار يرتفع إلى حد إحداث فجوات في جوانبها لا يمكن السيطرة عليها. ومن تلك الفجوات كانت المياه الفائضة تجري نحو مناطق منخفضة قريبة وتشق بفعل جريانها مجرى جديداً للنهر يكون مجراه غالباً أوطأ من مجراه القديم، وبتفاقم عملية حفر المجرى الجديد وتوسعه،كانت إمكانية استيعابه للمياه تزداد على حساب المجرى القديم. وبعد انتهاء موسم الفيضان وانخفاض مناسيب المياه في أنهار العراق، كان سكان تلك المناطق يواجهون مشاكل جديدة. إذ كانت كميات المياه في المجرى القديم تتناقص أو ربما تنقطع عنه، مما يسبب هلاك المزارع والبساتين التي كانت ترتوي من ذلك النهر، وبالتالي اندثار القرى والمدن الواقعة عليه. مما يضطر السكان إلى الهجرة إلى مناطق أخرى بعد أن تجف المياه في مناطقهم وتنقطع فيها سبل الحياة. وطالما عرضت تلك التحولات سكان تلك المناطق إلى ويلات، وجرتهم إلى صراعات دموية حول الماء والأرض.
ومن الجدير بالملاحظة أن ظاهرة تحول مجاري أنهار العراق، كانت من أقوى العوامل التي ساهمت في اندثار الحضارات القديمة في وادي الرافدين وتحول مراكز الاستيطان والمدن من مكان إلى آخر.
لابد أن نشير هنا إلى أن ظاهرة تحول مجاري الأنهار في العراق ظلت محصورة في منطقة السهل الرسوبي، حيث قامت حضارات سومر وأكد. وإن وجود آثار المدن القديمة بعيداً عن مجاري الأنهار الحالية ما هو إلا دليل على تلك التحولات في مجاري الأنهار منذ فجر الحضارات. وهذا دليل أخر على أهمية الزراعة الحوضية على أنهار وادي الرافدين إذ يبدو أن تلك المدن كانت مراكز التسويق وإدارة الزراعة ضمن حوض نهر معين وأن تلك الزراعة الحوضية كانت الأساس في قيام دويلات المدن في حضارات وادي الرافدين القديمة
ومن أهم المدن التي اندثرت وتشاهد آثارها بعيدة عن مجاري الأنهار هي quot;نفرquot; و quot;أوروك/ الوركاءquot; و quot;لارسةquot; و quot;أورquot; و quot;أر يدوquot;. وكذلك مدن quot;بابلquot; و quot;سبارquot; و quot;كيشquot; و quot;كوثىquot;. ولنفس الأسباب اندثرت مدينة واسط التي بناها الحجاج على مجرى نهر دجلة القديم.
أما المنطقة الواقعة إلى الشمال من خط هيت-سامراء فإن مجاري دجلة والفرات لم يطرأ عليهما أي تغير وذلك لاختلاف طبيعتها الجغرافية. ففي هذه المنطقة يجري كل من دجلة والفرات في مجرى خاص به، تكوّن عبر العصور. إذ شق كل من النهرين مجراه عميقاً في تلك الهضبة الكلسية شديدة الانحدار، وذلك بفعل شدة تيار المياه الجارية. ومع مرور الزمن ونتيجة لعملية الحفر الطبيعية، تكونت لكل منهما ضفاف صخرية عالية ساعدت على حفظ وتثبيت مجاري تلك الأنهار. ولهذا نجد أن آثار المدن القديمة مثل ldquo;نينوىrdquo; و ldquo;آشورrdquo; تقع بالقرب من مجرى نهر دجلة الحالي.
وبسبب ارتفاع الأرض عن مجرى النهر في مناطق الجزيرة لم يتمكن الإنسان من الاستفادة من مياه دجلة والفرات في زراعة تلك المنطقة الواسعة كما هو الحال في الوادي الرسوبي الخصيب. ولذلك ظلت أرض الجزيرة شمال خط هيت-سامراء شبه قاحلة لا تصلح إلا للرعي عدا بعض المناطق الصغيرة بالقرب من الشواطئ أو التي تظهر صيفاً في مجرى النهر أي بين شاطئيه، أو في الأراضي الديمية في أقصى الشمال.
ولفيضانات دجلة والفرات طبيعة خاصة تتميز بالعنف وعدم الانتظام. ثم أن أوقاتها غير ملائمة لمواسم الدورة الزراعية في العراق. ففي فصل الربيع ترتفع مناسيب المياه في دجلة والفرات بصورة مفاجئة. ولكن مياه هذه الفيضانات تأتي متأخرة بالنسبة إلى الزراعة الشتوية، ثم أن فترة تلك الفيضانات تكون عادة قصيرة إذ تهبط مناسيب المياه بسرعة وقبل بداية أشهر الصيف. ولذا تشح المياه قبل نضوج المحاصيل الصيفية مما يتسبب في هلاك نسبة كبيرة منها.
من ناحية أخرى تأتي فيضانات دجلة والفرات في كثير من السنين عنيفة ومدمرة ولذا فإن نظام الري وعملية السيطرة على المياه تكون بالغة الصعوبة والتعقيد.
لقد واجه الإنسان منذ فجر الاستيطان في وادي الرافدين ذلك الواقع الصعب. فأجبرته طبيعة تلك البيئة على بذل جهود جبارة من أجل السيطرة على الرافدين الذين كانا يعتبران من أشد أنهار العالم عنفاً. ولذا يعتقد العديد من الباحثين أن تلك البيئة الفريدة تركت بصماتها واضحة في حياة وفكر وطباع المجتمعات الإنسانية التي قامت على ضفاف تلك الأنهار منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا.
إن من أهم آثار فيضانات دجلة والفرات المدمرة هو أن طغيان المياه في مجرى النهر غالباً ما تخرب الشواطئ وتندفع إلى المناطق المنخفضة من السهل الرسوبي وتغمر مساحات شاسعة منها. فتتكون الأهوار والبطائح وأكثرها مسطحات مائية غير عميقة. وإن البحوث العلمية تشير إلى أن بعض هذه الأهوار كانت موجودة منذ نهاية العصور الجليدية. ولابد أن مساحات تلك الأهوار كانت تتسع أو تتقلص حسب حجم الفيضانات التي تتحكم فيها الظروف المناخية السائدة. وأن الرأي السائد في الوقت الحاضر عند غالبية الباحثين هو إن قسماً من تلك الأهوار غمرته مياه الخليج بعد ارتفاع مستوى سطح المياه في المحيطات والبحار المتصلة بها جراء ذوبان الثلوج في نهاية العصور الجليدية.
أما الأهوار التي ظلت في وادي الرافدين فإنها تكون جزءاً متميزاً من السهل الرسوبي الذي يشمل وسط وجنوب العراق. وقد ظلت تلك الأهوار عبر التاريخ تتأثر بفيضانات دجلة والفرات وتحول مجاريها. وهذا بدوره كان يغير مواقع تلك الأهوار ويتحكم بمساحاتها وامتداداتها، ويتحكم كذلك بحجم ومواقع سكان تلك الأهوار. فالمعلومات التاريخية تشير إلى أن مجتمعات أهوار العراق لم تكن ثابتة ولا أزلية كما يبدو لأول وهلة بل كانت تتغير مع التحولات السكانية في وادي الرافدين. فكثيراً ما كانت التحولات في مجاري الأنهار تغمر مساحات شاسعة من المناطق الرعوية والزراعية في وسط وجنوب العراق فتتحول تلك المناطق إلى أهوار وبطائح يهجرها من ينجو من سكانها وبالعكس فإن تحول المياه إلى تلك المناطق كان يحرم مناطق أخرى من المياه فتجف أهوارها وبطائحها وتنكشف بها الأرض وتتحول أما إلى مناطق زراعية أو رعوية ، وبذلك تفتح الباب أمام هجرات جديدة وانتشار جديد للسكان فيها. وقد ساعدت تلك الظاهرة الفريدة القبائل العربية منذ دخولها وادي الرافدين على الانتشار في الأهوار الجنوبية.
تؤكد الدراسات بأن توغّل وانتشار القبائل العربية في أهوار جنوب العراق، خضع لنفس العوامل التي خضع لها سكان العراق منذ عصور بابل. وإن مجتمعات العرب التي قامت في الأهوار تكيفت مع تلك البيئة الفريدة في فترة زمنية تعد قصيرة نسبياً، وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن عشائر ألبو محمد والسواعد التي تعد اليوم من أهم وأكبر العشائر العربية المنتشرة في أهوار دجلة في منطقة العمارة هي عشائر زبيدية انحدرت وتوغلت في أهوار العمارة في العهود العثمانية ولكنها تكيفت مع طبيعة تلك الأهوار فسكنت البيوت المصنوعة من القصب بدلاً من الخيام وتحولت إلى زراعة الرز وتربية الجاموس وصناعة الحصر من القصب والبردي الذي يكثر في تلك الأهوار في مدة قصيرة نسبياً لم تتجاوز بضعة أجيال. وكذلك عشائر بني أسد التي انحدرت إلى أهوار الفرات الجنوبية واستقرت في منطقة الجزائر من نهر الحّمار بعد إن تسلط عسكر المماليك الترك على الخلافة العباسية وقضوا على دولة بني أسد العربية في الحلة في عهد الخليفة العباسي المستنجد بالله في سنة 558هـ (1162م). ومنذ ذلك الحين تكيفت عشائر بني أسد العربية إلى حياة تلك الأهوار.
ومن الجدير بالملاحظة فإن معالم خارطة توزيع العشائر العربية في العراق في عصرنا الحاضر اتخذت وضعها الحالي بعد تحول نهر دجلة من مجراه القديم الذي كان يمر بمدينة واسط، إلى مجراه الحالي في أواخر القرن السادس عشر. وكذلك التحولات التي شملت مختلف فروع نهر الفرات بين الحلة والكوفة والتي استمرت حتى بناء سدة الهندية في مطلع القرن العشرين.
في القرن السادس عشر كان مجرى نهر دجلة القديم يميل إلى الغرب و يجري بالقرب من نهر الفرات ويمر بمدينة واسط وإن تحوله إلى مجراه الشرقي الحالي غيرّ كثيراً في خارطة أهوار وبطائح وسط وجنوب العراق. فقبل عملية التحول تلك، كانت مياه دجلة تغذي في وسط العراق عدداً من الأهوار والبطائح التي كانت مياهها في أغلب الأحيان تتصل بأهوار وبطائح الفرات الأوسط، وتمتد لتتجاوز منطقة واسط إلى جنوب العراق. ولكن بعد تحول مجرى دجلة إلى المجرى الشرقي منذ القرن السادس عشر تقلصت أهوار وبطائح مجرى دجلة القديم بعد أن انحسرت عنها المياه. مما تسبب في تغير معالم تلك المناطق. وبالمقابل توسعت الأهوار والمسطحات المائية في جنوب وجنوب شرقي العراق، وتضاعفت كميات المياه التي تجري فيها وهذا بدوره سبب تغير معالم الحياة الاقتصادية والاجتماعية في تلك المناطق، ومن العشائر التي تأثرت بتلك التحولات عشائر بني لام وعشائر ألبو محمد، وفي الوقت الحاضر فان أكبر أهوار دجلة جنوب شرق العراق هو هور الحويزة وهور شويجة.
ولما كانت مياه دجلة والفرات تقترب من بعضها ثم تلتقي في جنوب العراق لتكوّن شط العرب، فان مياه أهوارها الجنوبية تلتقي هي الأخرى لتكوّن مسطحات مائية واسعة على شكل مثلث مترامي الأطراف يمتد من شط العرب حتى العمارة من جهة دجلة، ومن شط العرب حتى سوق الشيوخ-الناصرية من جهة الفرات. وفي نطاق تلك البيئة المائية الواسعة تجري عشرات الأنهار وعدد لا يحصى من الجداول. وبين مياه تلك الأنهار والجداول والمسطحات المائية تظهر بعض المناطق المرتفعة نسبياً لتكون قطعاً من اليابسة تعرف بالجزائر لكونها محاطة بالمياه، والتي توجد فيها عادة مناطق صالحة للزراعة تنمو في بعضها أشجار النخيل، بينما تنمو حولها أحراش القصب والبردي، وان أغلب تلك الجزر صالح لسكنى الإنسان بالرغم من أنها معزولة لوقوعها في أعماق تلك الأهوار. وقد فرضت تلك البيئة على الإنسان الذي دخلها واستقر فيها أن يتفاعل مع خصوصياتها ويكيّف حياته للمعيشة فيها.
ومن الجدير بالملاحظة أن مناطق الأهوار التي تلتقي فيها مياه دجلة بمياه الفرات تنتشر فيها عشائر انحدرت إليها من مناطق الفرات وأخرى انحدرت من مناطق دجلة وجميع تلك العشائر تحفظ أصولها والظروف التي أدت إلى هجرتها وتوغلها في تلك الأهوار. وهذه الحقائق القائمة على الأرض تؤكد على أن التحولات السكانية التي جرت في وادي الرافدين عبر العصور بسبب الفيضانات وتحول مجاري الأنهار كانت تشمل مجتمعات الأهوار كذلك. فالأهوار في حقيقتها تمثل الإمتدادات الطبيعية لذلك المجتمع النهري. وإن سكان وادي الرافدين كانوا يستفيدون دائماً من عزلة ومناعة تلك الأهوار في تعزيز مواقعهم على الأرض، خاصة في صراعاتهم مع القوى الأجنبية. وفي الفصول القادمة سنلقي بعض الضوء على انتشار الإنسان العربي واستقراره في وادي الرافدين. والظروف التي فرضت عليه التوغل والانتشار في أهوار العراق، لنرى كيف أن القبائل العربية استفادت من مناعة منطقة الأهوار والبطائح واستخدمتها كوسيلة للدفاع عن وجودها.


[email protected]

http://www.geocities.com/kutub_alrufaiy/kutub-alrufaiy-main.html