لم يعد العالم يتعامل مع الحروب، على بشاعتها، كواقع حقيقي. ففي زمن الفضائيات والنقل المباشر، صار أبناء زمننا، يا للمفارقة، يتعاملون مع الحرب، أي حرب، كأنما هي لعبة فيديو، لا أكثر. لعبة يتابعونها بنهم، في البداية، ثم سرعان ما يسأمون منها، بعد أيام قليلة، فيتحوّلون، إلى قنوات أخرى، تُلبي مطالب لحظتهم، وتسهم في الترويح عن مزاجهم. أما الحرب، كواقع حقيقي، فلا يشعر بها، سوى من يقعون تحت نارها ودمارها، من يكونون طعامها البشري، ووليمةً لمعدنها المتوحش. أسبوعان ويومان مرّا حتى الآن، على نشوب الحرب الأخيرة في لبنان. أسبوعان ويومان، لم تكف، كمدة زمنية رهيبة، لكي يتحرّك ضمير العالم، فيوقف ساسته، أصحاب الأيدي القذرة بتعبير سارتر، هذه المجزرة، التي لم ترحم طفلاً ولا شيخاً، ولا رحمت مئات ألوف المهجّرين، فأجلتهم عن بيوتهم، دون سابق إنذار، ودون أن يأخذوا شيئاً من متاعهم، إلا لماما، لترميهم بين السماء والطارق. حرب ضروس، تشنّها دولة مارقة على كل القوانين والشرائع، بسبب حماقةٍ من حزب، أو فصيل، أعطاها الذريعة، لكي تنكّل، بكل ما لديها من وحشية، بكامل لبنان، شعباً وأرضاً. لبنان الصغير، الذي، بالبداهة، لا يحتمل لا هذا النوع من التنكيل، ولا الذي أقلّ منه. لبنان الذي أدخله حزب الله وإسرائيل معاً، في نفق مظلم، لا يبدو أن ثمة أملاً قريباً في نهايته. إن ما يهمّني في كل هذه الدراما الدموية، هو أولاً وقبل أي شيء آخر، هؤلاء الضحايا من المدنيين الأبرياء. فهؤلاء، الذين يُعدّون بمئات الألوف، من البشر الطيبين، هم الذين يدفعون ثمن كل حرب وأي حرب. وهم الخاسرون الوحيدون، في كل حرب من هذا النوع. فهم مَن يموتون، وهم من يفقدون أعضاء من أجسامهم، وهم من يفقدون أعزّاءهم وأحبابهم. وهم في الأخير، من تبقى الغصة في حلوقهم، حتى بعد عشرات السنين من انتهاء الحرب وسكوت المدافع. ضحايا أبرياء، لا ذنب لهم، ولا جريرة، يموتون فجأة، ويضيعون فجأة، بينما متخذو قرار إشعال المجزرة، بعيدون عن الخطر، في مكامنهم أو مكاتبهم، على الجانبيْن. وإذا كانت الحرب، لأسباب عدة تخصّ أزمنتنا الحديثة، صارت لعبة فيديو، أو شيئاً من هذا القبيل، فإنّ أبرياء لبنان، لم يكونوا ولن يكونوا، مجرد كورس في هذه اللعبة : كورس يتكون من مجموعة مصمتة مجردة من الأرقام. فالخمسمئة ضحية، الذين قضوا حتى اللحظة، هم خمسمئة قصة وحكاية : خمسمئة سيرة حياة وخمسمئة مشوار حياة كاملة. وبغيابهم الأبدي، غابت هذه القصص والحكايات، إلى الأبد. ولن يبقى وراءها إلا الصمت واللوعة والألم الدفين. لن يبقى وراءها إلا رائحة الغياب الأسيفة الأسيانة. بشر يموتون، ومباني تُهدم، وبلد يوضع في مهب الريح، ولا أحد يعرف لماذا إلا حزب الله وإسرائيل. فلكل منهما أجندته، ولكل منهما حساباته الخاصة به. حسابات وأجندة، لا مكان فيها، لألم البشرية وعذابها الصامت والصارخ. واليوم، كما أمس، تضرب إسرائيل، المدنيين العزل، بالأسلحة المحرمة دولياً : القنابل العنقودية والفراغية. قنابل، هي الجحيم ذاته. جرّبناها هنا في قطاع غزة، وعرفنا بالضبط ماذا تعني. إذا سقطت في مكان، قتلت وأصابت كل مَن فيه، ثم ابتلعته، فسوّته بالأرض، كأن لم يكن مِن قبل. سلاح شيطاني، ما أبأس الشرط البشري الذي اخترعه ! وما أبأس هذه الحضارة المتقدمة الذي هو أحد منتجاتها. سلاح يضرب أينما شاء، وكاميرا تلاحقه، ثم تعرضه على البعيدين في هدأة ورخاء منازلهم، فينظرون إليه، كما ينظرون للعبة فيديو عنيفة، دون أن يتغيّر فيهم إحساس أو عقل. وكأنّ ما يجري، يجري لأناس غامضين يقطنون كوكب المريخ. إنّ ردّ فعل العالم، حكومات وشعوباً، على هذه الحرب القذرة، ما يزال، دون الحد الأدنى المطلوب إلى الآن. وإذا كنا، من قديم، لم نعد نراهن على الحكومات، فقد صرنا، يا للأسف، لا نراهن على الشعوب أيضاً. فهذه مخدّرة بهموم معيشتها، وبمنسوب وعيها المنخفض، وبأنانيتها كذلك. وكأنّ لسان حالها يقول : ما دامت هذه الحرب، بعيدة عن بيتي فأنا بخير. لا بأس. ليس أمام شعب لبنان، وشعب فلسطين، إلا أن يعدّ خساراته، وقتلاه، من الآن، وإلى إشعار آخر : يعدّها على مدار اللحظة، دون أن يكلّ أو يضجر _ مع أنّ من حقه الإنساني أن يفعل ذلك، وبالأخصّ إذا طالت الحرب، فالحرب الطويلة، هي أيضاً مجلبةٌ للضجر ! لكأنما ولدنا هنا، في هذه الرقعة التعيسة من العالم، فقط لكي نحصي الشهداء. فهذا هو كل نصيبنا من الرياضيات القديمة والحديثة. إنها الحرب، ولأنها الحرب كما قلتُ، فإنها أيضاً المهزلة ! بل شر أنواع المهازل : المهزلة السوداء، بل الأشدّ سواداً، وجهامة وفظاعة، وقسوةً، من غيرها. وأي مهزلة سوداء أكثر من أن يتحوّل بلد صغير جميل، طبيعةً وناساً، خلافاً لمحيطه الصحراوي، إلى لعبة فيديو، مجرد لعبة فيديو؟!