... العلم ليس من ارتكب الجرائم

لقد آمنت منذ وعيت بالحقوق الأصيلة المشروعة للشعب الكردي، وفي مقدمتها حقه في تقرير المصير، ولم أجد في إيماني هذا ما يضير المصالح القومية العربية التي أعمل لأجلها في شيء، بل إنني أشد إيمانا بأن صداقة وأخوة الأكراد أكبر ضمانة لمصالح العرب، ومحبتي لعروبتي هي التي أفهمتني كم قاسى الأكراد ndash; ولا يزالون- في أقاليمهم

سردار عبدالله: هل سيعلن الرئيس البارزاني ولادة الدولة الكردية؟

الأربعة من مآسي ومظالم وجرائم ونكبات، أسأل الله أن يعجل بنهايتها في أقرب الآجال. ولقد آمنت أيضا، كما آمنتم أنتم سيادة رئيس إقليم كردستان العراقي، بأن الحل الفيدرالي في العراق، هو الأفضل حاليا لحماية الحقوق الكردية، ولبناء علاقة إيجابية بناءة بين شعبي العراق العرب والكرد، ذلك أن أي حل آخر، إما سيكون مجحفا في حق الشعب الكردي، وهو حل الدولة المركزية، أو غير مقبول دوليا، وغير ممكن في المدى المنظور، وهو حل الانفصال وبناء دولة كردية مستقلة.
وكان تقديري ndash; ولا يزال- أنكم إلى جانب السيد الرئيس الفيدرالي جلال الطالباني، أحد بناة العراق الديمقراطي الجديد، أين بدأت تتأسس في العالم العربي والإسلامي، تجربة مميزة وفريدة في معالجة القضايا الشائكة، وفقا لمعايير ومبادئ حديثة قائمة على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان والاعتراف بحقوق الأقليات القومية والدينية والطائفية..هذه التجربة التي أنتم أول من يدرك، حجم التحديات الداخلية والخارجية المحدقة بها، ومدى ممانعة أطراف إقليمية ودولية لاستكمالها، وحد المساعي الاستثنائية التي تقوم بها جماعات محلية وعالمية للحيلولة دون استقرارها وتمتع المواطنين العراقيين، عربا وأكرادا، بثمارها.
إن الديمقراطية والفيدرالية والتعددية في العراق، لا يمكن أن تستكمل أشكالها النهائية المأمولة، إلا بتسلح مختلف بناة الدولة العراقية الجديدة، على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم وانتماءاتهم بالعقلية الوفاقية، فدون وفاق ستتحقق نظرية صدام حسين الخفية التي تؤكد على أن العراق لا يمكن أن يحكم إلا بالحديد والنار، وعلى أن ديكتاتوريته وحدها التي صانت الوحدة الوطنية العراقية طيلة أربعة عقود، دفع خلالها العراقيون عربا وأكرادا ما يقارب ربع تعدادهم موتا وخرابا وآلاما، وإنني على يقين أنك ndash; ووالدك من قبل رحمه الله- من أكثر من خبر مآسي الماضي وخطورة أشباحه التي ما تزال تنشط وتخيم على بلاد الرافدين، مهددة ومتوعدة كل من ساهم في إسقاط الصنم بالويل والثبور.
لقد تميزتم طيلة عقود من نضالكم السياسي، بخط وطني كردي معتدل كانت عينه على تحقيق آمال وأحلام الشعب الكردي في العراق، دون تناسي أهمية الرابطة العربية ndash; الكردية، فما يجمع بين الشعبين العربي والكردي أكثر مما يفرق، بل إن المفرق طارئ خارج عن إرادة الطرفين، اللذين كتبا عليهما تقاسم التاريخ والجغرافيا وقدر كبير من عناصر الهوية الأخرى، كالدين والثقافة والفنون والمصالح المشتركة، ولعلك خير من خبر ضرر التطرف سواء في تقدير الأشياء أو الاستمتاع بها، وكذلك كان أكبر خطر على الحرية والديمقراطية الشطط في استعمال الحقوق المنبثقة عنهما والمزايدات الفارغة في ممارستها.
إن العراق الجديد الذي ضمن للشعب الكردي وضعا مميزا، ما يزال يتطلع إليه في الأقاليم الكردية الأخرى، التركية والإيرانية والسورية، ليس مهددا فحسب من قبل الجماعات الإرهابية البعثية والزرقاوية، و ليس مهددا فقط من قبل القوى الإقليمية والدولية التي ترى مصلحتها في أن لا تستقر الدولة الديمقراطية الفيدرالية، إنما مهدد أكثر بمزايدات سياسييه ومناحرات وحروب وصراعات بناته وأحزابه وطوائفه التي انخرطت في مشروعه التعددي والديمقراطي والفيدرالي، والخوف كل الخوف أن يأتي يوم يقال فيه quot;أن الثورة العراقية التي أسقطت الصنم قد أكلت أبناءهاquot;، وأن يكون المصير قيام دكتاتور جديد لا قدر الله، سيكون ضرره حتما الأبلغ والأعنف على ما تحقق للأكراد من حقوق مشروعة قابلة للتنمية، وليس مثل الثورة الفرنسية ومجيء نابليون بعدها بخاف عليكم.
ولأنه لا تعوزكم الحكمة ولا الاعتدال فقد وجدت من واجبي كتابة هذه الرسالة المفتوحة لكم، ومن بعدكم لكافة ساسة العراق الجديد، فرفضكم لرفع العلم العراقي إلى جانب العلم الكردي، خطوة تضعف الحل الديمقراطي الفيدرالي، وتضعف الحكومة الفيدرالية التي أنتم شركاء فيها، كما تضعف مؤسسات الدولة العراقية الجديدة برمتها وتوقع الحرج والتردد بين رموزها وقادتها، ومن بينهم ساسة أكراد أجلاء و حكماء..و إنها باختصار، لا تصب إلا في مصلحة أولئك الذين لا يضمرون إلا الشر للعراق الجديد، الديمقراطي والفيدرالي، وللشعب الكردي.
إن العلم بصرف النظر عن أي تاريخ صنع فيه، أو الشخص الذي أعطى الأمر بوضعه، ليس سوى مسألة رمزية، ثانوية في رأيي قياسا بقيمة الإنسان ومصالح الشعوب العليا والتحديات العظيمة المطروحة عليها، ولعلكم إذا تأملت في أعلام الدول الأوربية الحالية، ستجدون أنها إما عائدة إلى عصر دوقيات القرون الوسطى، أو إلى الفترة النابليونية التي سادت أوربا أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، ولقد جاءت الديمقراطيات لاحقا دون أن تجد حرجا في التعايش مع هذه الأعلام التي ألفها الناس متناسين أصولها ودلالاتها والأشخاص الذين أمروا بصنعها..
و إنكم إذا ما تأملتم جيدا في مسألة العلم العراقي الحالي، فستجدون أن الجنود الذين نكلوا بالشعب الكردي ndash; وعموم الشعب العراقي- طيلة ما يقارب النصف قرن من الزمان، لم يفعلوا ذلك من منطلق أن صدورهم وأرواحهم كانت مملوءة بحب الراية الوطنية، بقدر ما كانوا موجهين ومأمورين من قبل طاغية، لم تكن تعنيه الأرواح، ناهيك عن أن ينتبه إلى الألوان والقماش.
إن الأعلام والرايات مجرد رموز للتعارف والتمايز، والأهم منها والأقدس حرمات البشر، أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ومستقبل أبنائهم ورفاهيتهم، ولهذا فإن زائر مدينة quot;ماستريختquot; حيث وقعت اتفاقية الوحدة الأوربية، سيجد أن أربعة أعلام مختلفة مرفوعة على أبنيتها، علم المدينة الخاص، وعلم اقليم ليمبورغ الذي تمثل المدينة عاصمة له، وعلم هولندا، وعلم الاتحاد الأوربي، والأهم من هذه الأعلام جميعا أن سكان ماستريخت يعيشون آمنين في رفاهية، ولا يرون أي تناقض أو إشكال في أن يكون لديهم أعلام أربعة بدل علم واحد، بل لقد حولوا هذا التعدد إلى ميزة تجارية وسياحية، تجذب ملايين الزوار إليها كل عام.
إن معركة العراق الحالية ليست مع الأعلام، إنما مع العقليات المتهافتة والعنيفة، وضد المشاريع الإرهابية والرجعية التي تسعى إلى إعادة هذا البلد الزاخر والمفتون حتى النخاع بالألوان، إلى معالم العهد البائد حيث ساد لون واحد قاتم لا لون له. وإن تفويت ساسته عربا وكردا الفرصة على أعدائه تأتي في مقدمة الأولويات، قبل النظر إلى خلفيات رمزية ثانوية وألوان هي في كل الأحوال ألوان العراق التعددي بامتياز.
ولتسمحوا لي في الختام أن أقدم لكم تأويلا جديدا للعلم العراقي الحالي الذي أشرف البعث على صناعته خطأ، بحيث يكون هذا العلم في رأيي أكثر تعبيرا عن العراق الجديد من أي علم آخر قد يصنع، فالألوان الثلاثة ترمز حقا إلى كتل العراق الثلاثة الكبرى: الأخضر لكردستان الخضراء بجبالها وغاباتها وبحيراتها وغنى أرضها، والأبيض للعرب السنة، فالبياض لون السنة منذ الصحابة رضي الله عنهم، والأسود لون العرب الشيعة، حيث السواد عمامة الأئمة من آل البيت عليهم السلام ودلالة أبدية على الحزن لما جرى للحسين وبيت الحسين، أما عبارة quot;الله أكبرquot; فهي هوية حضارية جامعة بين العرب والكرد المسلمين في غالبيتهم، كما هي جامعة بين المسلمين والمسيحيين والصابئة واليزيديين وغيرهم من الديانات التوحيدية التي حبا الله بها العراق، وهي فوق ذلك دليل على مساواة بني البشر، الذين خلقهم المولى جميعا من طين كأسنان المشط، وإليه يرجعون، فالدين لله والوطن للجميع..ومني عليكم السلام.

كاتب من تونس.