1

على مدخل فندق quot; خانزاد quot;، الباذخ، كانت حافلتنا الصغيرة (ميني باص)، تتأهب للمضيّ بركبها نحو مدينة quot; أربيل quot;؛ عاصمة إقليم كردستان العراق، التي تبعد عنه بنحو دزينة من الكيلومترات. وكعادتنا، نحن أهل المشرق، عموماً، كان التأخر عن المواعيد صفة سيئة، ليسَ بالسهل التبرأ منها. بين تمتمات سائق الحافلة، المتذمرة، وصيحات الزملاء، المتهاتفة، إحتارَ ذلك الصباحُ الألِقُ، الصاحي على إشراقة شمس دافئة، ربيعية. وما كنت، من جهتي، بأقل حيرة أو تذمراً، في مجلسي بالصف الأمامي من تلك الحافلة. كانت نظراتي، عبر النافذة المشرعة، تتناهى صوب مدخل الفندق ترقباً لرفاق الرحلة، المتأخرين؛ وإذا بي أسمعُ، على حين غرة، أحدهم وهوَ ينطق إسماً أليفاً لسمعي: quot; وليم إيغلتن quot;. إنجذبتْ نظراتي، من ثمّ ، نحو ثلة من الرجال الأجانب، ذوي الملامح الأوروبية، لتستقرّ تلقائياً على الأكبر فيهم سناً: بدا الرجلُ المنتصبُ هناك على مدخل النزل، بكامل أناقته؛ بالرغم من عمره المراوح على أعتاب العقد التاسع. كان غزير شعر الرأس، أشيبه؛ لم تهزم وسامة قسماته تجاعيدُ الزمن، ولا إنحناءة الظهر التي بالكاد يميّزها المرء.

2

وليم إيغلتن الإبن؛ هذا إسمه الكامل. إنه الديبلوماسي الأمريكي، العريق، ومؤلف كتاب quot; جمهورية مهاباد الكردية quot;. كان من غرائب الإتفاق، قطعاً، أن يشهدَ هذا العامُ بالذات لقائي بالرجل؛ العام الذي نعى إلينا خبَرَ وفاة جرجيس فتح الله، الكاتب العراقيّ، اللامع ، مترجم ذلك الكتاب، الموسوم، إلى العربية؛ وهو العام، نفسه، الشاهد على الذكرى الستين لتأسيس تلك الجمهورية الكردية، الأولى. ولكي تكتمل تحفة المصادفة، الموصوفة، فقد كنا يومئذٍ في طريقنا إلى زيارة مبنى برلمان إقليم كردستان العراق، الفيدرالي؛ هذا المبنى، المهيب، المحروس بصورة quot; قاضي محمد quot;، رئيس جمهوريتنا الأولى، الوليدة، التي وأدها آنذاك تضاربُ المصالح (أم الأصح ، توافقها؟) بين الدول العظمى. كنا ما نفتأ في موقفنا ، على مدخل فندق quot; خانزاد quot;، الواقع في منتصف المسافة بين عاصمة الإقليم وأختها الصغيرة؛ مدينة quot; مصيف صلاح الدين quot;. في هذه الأخيرة، تتناهض تلة باسقة، متشامخة على ما يحيطها من وديان وسهول، ويمكن تمييزها بسهولة من موقفنا ذاك : إنها quot; سَرْرَش quot; (أيْ: الرأس الأسود)، المحتبية مجمعاً سكنياً واسعاً، فارهاً، يخصّ quot; كاك مسعود quot;؛ وهي التسمية المعتادة، التي يطلقها ببساطة ويسر أهالي إقليم كردستان العراق ، على رئيسهم مسعود بارزاني. الزمنُ، إذاً، يعيدُ أحياناً دورته. إلا أنّ الأمور، في مستهل هذه الألفية الجديدة، تنحو لمطابقة أماني الكرد، الإستقلالية؛ الأماني المشروعة، التي جعلتْ إسترجاع َ ذكرى تأسيس جمهورية quot; مهاباد quot; الكردية، الأولى، أكثرَ ألقاً ودفئاً؛ حال ذاك اليوم، الجميل، المستحيل نسيانه، الذي جمعنا بمؤرخها الفذ، وليم إيغلتن الإبن.

3

هروعي على الفور لملاقاة ذلك الكاتب الأمريكي، كان أولاً تحية ً لصديق شعبنا وتالياً عودة ً إلى سنوات الصِبا، الفائتة؛ السنوات التي شهدَ إحداها، (عام 1972)، وقوع الطبعة العربية الأولى، الطازجة، من كتاب quot; جمهورية مهاباد الكردية quot;، في يدي. ما زلت أذكرُ شكلَ هذا الكتاب، المجلوب تهريباً من بيروت؛ بغلافه الأنيق، المرقش إطاره بألوان الكرد، الحميمة، والمركونة بأسفله علامة دار النشر اللبنانية، اليسارية، التي كنا وقتئذٍ نحبذها. قلنا أنّ اللقاء جمعنا بمؤلف الكتاب ، حيث تحلقنا حوله لنتجاذب أطراف الحديث معه، تارة ً بمفرداتنا الإنكليزية، القليلة حدّ الشح، وتارة اخرى بوساطة مرافقه، الكرديّ، المجيد للغة السكسون تلك. كم كانت كبيرة بهجة الرجل بنا، كما إمتنانه للشعب الذي صادقه وأحبه، فيما يرى بعضَ أبنائه وهم يعرفون إسمه حق المعرفة، فيهبون للقائه ويحرصون على أخذ الصور التذكارية معه؛ حتى ليجوز القول، أن حميتنا تلك قد أدهشته ومرافقيه من الأجانب، أبناء موطنه. سرني بشكل خاص، معرفة أنّ حضور وليم إيغلتن إلى الإقليم ما كان زيارة ودية، حسب، بل ومعرفية أيضاً؛ دشن خلالها صدور كتابه الجديد، quot; النسيج الكرديّ quot;، المتبحّر بفنون صنعة السجاد والأبسطة في بلاد الله الجبلية، هذه. كاتبنا، إذاً، ينتقلُ من هموم السياسة التي شغلت شبابه ورجولته، إلى عالم الإثنولوجيا، المتشاغل به في كهولته: كأنما هوَ في مواكبته تلك، التاريخية، للشعب الصديق الذي أحبه وألفه؛ من مرحلة الحرب والشقاء والعناء إلى مرحلة السلم والبناء.

4

يفتتح مؤرخنا كتابه، quot;جمهورية مهاباد الكرديةquot;، بملاحظة ثاقبة، غاية في الأهمية، ربما تلخص أساس سوء الفهم، التاريخي، الذي إبتليَ به هذا الشعب في مستهل القرن العشرين؛ القرن المنصرم، الشاهد على تقسيم كردستان وإلحاقها بأربعة من دول الإستبداد، الشرقي. إن الكاتب، في ملاحظته تلك، الموصوفة، يشير إلى إعتماد الدول الغربية مبكراً، في معلوماتها عن بلاد الكرد وأحوال ساكنيها، على تقارير غير موضوعية من لدن جهاتٍ لم تكن، بدورها، على شيء من الحيادية: quot; بمجيء القرن 19، كان quot; الكرد الهمج quot; قد دخلوا عالم الحكايات التي يقصها المبشرون والآثاريون وأولئك الرحالة القادمون من أوروبة، ومعظمهم منتدب من حكوماتهم المهتمة بداخلية الامبراطورية العثمانية المتفسخة وبلاد إيران الغافية quot; (الصفحة 15 / الطبعة العربية الأولى). في سياق حديثه عن دور أولئك الغربيين، الموسومين، يخصّ المبشرين منهم ببعض التفاصيل المتعلقة بتقاريرهم، الملفقة، عن سوء معاملة الزعماء الكرد لرعاياهم النصارى، وحتى إرتكاب المجازر بحقهم. وإذ يدحض كاتبنا تلك المزاعم، ومنها ما يتعلق بأمير ولاية quot; بوطان quot; ، بدرخان باشا؛ فإنه يُذكر القاريء بشهادة ناصعة لصالح هذا الأمير الكرديّ الشهير، عن حسن معاملته للأقليات الدينية، وردت في وثائق أرمنية مدونة في كتاب quot; الأكراد quot; للمستشرق الروسي باسيل نيكيتين. للمفارقة، فإنّ الدولتين اللدوتين؛ أمريكة وروسية، اللتين تقاسمتا المسؤولية في المصير المأساوي لجمهورية quot; مهاباد quot; خلال النصف الأول من القرن العشرين، كانتا في أواخر القرن الذي سبقه على تنافس لكسب ودّ الزعماء الكرد. إننا نعلم مما ورد في كتاب وليم إيغلتن هذا، أنّ المبشر الأمريكي، الطبيب والقس quot; غوجران quot; ربطته صداقة وطيدة مع الزعيم الكرديّ، القويّ ، شيخ عبيد الله نهري؛ وأنه أوصل منه رسالة إلى القنصلية الأمريكية في عام 1878، يؤكد فيها: quot; أن الأمة الكردية شعبٌ قائم بذاته quot; (ص 20). بينما ذهبت روسيا إلى أبعد من ذلك، وبعد مضي عقد كامل من تلك الرسالة، سالفة الذكر؛ حينما إستقبل قيصرها نيقولا الثاني، بنفسه، في quot; تيفليس quot;، الجورجية، وفداً من الزعماء الكرد، مرحباً بهم كحلفاء ضد العدو المشترك، العثمانيّ، ومشيّعاً إياهم وهم محملين بالهدايا النفيسة.

5

كأنما المؤلف، في عرضه الموجز لتاريخ الكرد القديم، أراد إرسال أكثر من إشارة رمزية. فالموطن الأول لهذا الشعب العريق، الذي إنساحوا منه غرباً وشمالاً نحو بلاد ما بين النهرين، منذ الألف الأولى قبل الميلاد؛ ما كان سوى جبال زاغروس، في البلاد الإيرانية. كما أنّ الإمبراطورية الكبرى، الأولى، المؤسسة في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد، من لدن الميديين، أسلاف الكرد، كانت عاصمتها quot; آمدانا quot; (همدان الحالية، في شمال شرق إيران): فلا غروَ، والحالة هكذا، أن تكون الجمهورية الكردية، الأولى ، المشكلة في كانون الثاني 1946، قد وجدت في مدينة quot; مهاباد quot; (كردستان إيران)، عاصمة لها. في هذه المدينة، إنعقدتْ الشهرة لقاض شرعيّ؛ سيعرف إسمه، تاريخياً، quot; قاضي محمد quot;، مذيلاً بمهنته تلك. لا ينسى مؤرخنا التنويه بصداقة هذا القاضي، الدمث الأخلاق والجم التواضع، للمبشرين الأمريكان؛ هؤلاء الذين كانوا قد تعرضوا لمضايقات كبيرة من جانب quot; سمكو خان quot;، الزعيم الكردي الجريء حدّ التهور، والذي دوّخ السلطات الإيرانية طوال الثلث الأول من القرن العشرين. على أنّ قوة اخرى، عظمى، غير الأمريكية، هيَ التي كان من المقدّر لها لعبَ الدور الأهم في حياة الكرد السياسية، في أعقاب الحرب العالمية الثانية: إنها روسية السوفياتية، التي بقيت قواتها في الأراضي الإيرانية حتى بعيد هزيمة ألمانية النازية. لقد إستغل الكرد، إذاً، الفراغ الناجم عن غياب السلطة المركزية، فراحوا يديرون شؤون بلادهم بإرادتهم الذاتية وبمعونة محدودة من لدن قوات الإحتلال تلك. في هذه الأثناء، كان ثمة قوتان رئيستان، كرديتان، ساهمتا بتعزيز إستقلال الإقليم الفيدرالي ، الناشيء: الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي تأسست نواته الأولى، بإسم quot; كومله quot; (أيْ: الجمعية)، منذ عام 1942؛ علاوة على البارزانيين، وهم العشيرة الكردية العراقية، القوية، التي إنتقل زعيمها آنذاك، ملا مصطفى، إلى كردستان إيران إثر فشل ثورته ضد الحكومة العراقية المسنودة من القوات الإنكليزية، المحتلة. قاضي محمد، زعيمُ ح د ك، سيكون على موعدٍ مع إعلان الجمهورية ليصبح رئيسها؛ فيما البارزاني سيكون القائد الفعليّ لجيشها، وبصفة رتبته العسكرية الجديدة، كجنرال أركان حرب. في كتاب وليم إيغلتن الإبن هذا، ثمة صورة فوتوغرافية، يبدو فيها كلا الزعيمان، المذكوران، وهما في ميدان quot; جارجرا quot; (أيْ: المصابيح الأربعة)، في مدينة quot; مهاباد، والذي شهد إعلان ولادة الجمهورية الكردية؛ الميدان نفسه، الذي سيكون شاهداً، أيضاً، على واحدة من أكثر المآسي اتي دهمتْ لكرد، في تاريخهم الحديث؛ وهيَ إعدام قاضي محمد، بعد أقل من عام واحد على ذلك الإعلان، المهيب.

[email protected]