لحظة انهياره كان يجثم على ركبتيه ويولول بأعلى صوته والدموع تنساب من مقلتيه : quot; عفوك و غفرانك اللهم ما كنت أحسب أني في يوم ما سأقتل فتى في ريعان الشبابquot;. كان ذلك هو مشهد انهيار أحد أعوان الأمن اثر عودته من إحدى المواجهات التي جدت كما هو معلوم مؤخرا بين قوات الأمن و الجيش من ناحية و quot;العصابة الإجرامية المسلحةquot; على حد تعبير الأوساط الرسمية التونسية من الناحية الأخرى. المشهد جاء على لسان أحد الرواة في محطة حفلات في العاصمة تونس و العهدة على الراوي في برهة تحولت فيها ألسن كثيرة إلى وكالات أنباء لتداول الأخبار حول ما جرى في موطن الزيتونة على امتداد الأسبوعين الأخيرين من السنة الفارطة. ولان الناس في هذا الموطن ألفوا العيش في مناخ يخلو من سفك الدماء ولا يتمثلون الاقتتال إلا من خلال مشاهد الحروب الدائرة في محيطهم ولا سيما الحرب الأهلية العراقية فان الصدمة كانت شديدة عليهم وهذا ما قد يثبت صدقية ما ذهب إليه الراوي عن جسامة الشعور بالذنب لدى عون الأمن القاتل لفتى الثمانية عشر سنة و الذي كان عنف صدمته من عنف صدمة شعب بأسره جبل على المسالمة والتآخي و نبذ العنف.
لا أحد بامكانه التأكد من صحة هذه الرواية. ومع ذلك فهي واحدة من عشرات الروايات المتداولة في الشارع التونسي الذي راح يلهث وراء الإخبار في اللاخبار lrsquo;information dans la deacute;sinformation ما يزيد عن عشرين يوم منذ انطلاق الأحداث الدامية امتزجت خلالها الإشاعة بقلق الرأي العام التونسي وسط حالة الاستنفارالأمني و الرقابة المشددة على الطرقات و تواتر الأخبار التي أهملها قسم الإخبار...
وشاء ت أيضا سخرية التاريخ أن يكون تنفيذ حكم الإعدام في صدام حسين مصدر تلهية للناس عمّا يجري على مرمى حجر منهم فضلا عن كبش العيد بطبيعة الحال.
ولما قررت أخيرا السلطة الحاكمة أن تزيح جدار الصمت الرسمي وأن تقدم معطيات ثبت من خلالها بالخصوص أن العصابة إرهابية فعلا أبت إلا أن تفعل ذلك من خلال ندوة للحزب الحاكم بدلا من عقد ندوة صحفية كان الرأي العام المحلي و ربما الدولي متلهفا لها. وجاءت الندوة التعبوية quot;التي عقدها التجمع الدستوري الديموقراطيquot; مساء الجمعة 13يناير (كانون الثاني)الفائت لتثبت مرة أخرى تعمد الخلط بين الحزب والدولة.
نحن إذا بصدد أزمة أمنية اندفعت من رحم الجهاز الأمني الذي طالما اعتبرته السلطة الحاكمة الحصن الحصين و صممام الأمان الأوحد و الأصلح للمعالجة الاستباقية لكل الأوضاع. كما أثبتت هذه ألازمة قدرة الإرهاب الاسلاموي المعولم على اختراق أجهزة الأمن والدولة وإحداث أوضاع من عدم الاستقرار لا أحد بوسعه تقدير خطورة عواقبها.
و على الرغم من أن التكتم الشديد للنظام التونسي على الأحداث لم يفاجىء أيا من الملاحظين المتعودين على مثل هذا التعتيم الإعلامي الرسمي فان دلالة الصمت هنا تحديدا قد تشير إلى رفض السلطة على الاعتراف بفشل أو حتى بحدود المعالجة الأمنية لملف الإرهاب وملف الإسلام السيا سي بصفة عامة.
والواقع أن فشل المعالجة الأمنية هذه إنما يندرج في مسار تعاقبي مثلت- وما بالعهد من قدم- المشادة الأخيرة حول مسألة الحجاب أحدث تجلياته. بل أن النظرة المتبصرة للواقع لا يمكنها أن تهمل العلاقة العضوية بين ما جد بالأمس في تونس حول مسألة الحجاب و الأحداث الدامية لموفى سنة 2006.
فلما احتدم الخلاف حول مسألة الحجاب وامتد الجدل إلى الإسلاميين وغيرهم حول هذه المسألة تعالت أصوات كثيرة من ضمنها حتى اليسارية ضيقة الأفق لتعتبر أن المسألة تتنزل في سياق quot;حرية اللباسquot;و الثقافة الدينية ولا علاقة لها بالشأن السياسي...
والواقع أن القول بفشل المعالجة الأمنية للإسلام السياسي لا يتأتى من توسع ظاهرة الخمار والتدين فقط وإنما من أن هذا التوسع بات كما دلت على ذلك الوقائع الأخيرة يمثل المتن الاجتماعي والثقافي والسياسي للإرهاب.
وحيث لا نضيف جديدا في اعتبار واقع البؤس المادي والفكري والفراغ الروحي وشتى ألوان الكبت التربة الخصبة لنمو التطرف بالخصوص في الأوساط الشبابية فان دقة الموقف تحتم علينا التشديد على خطورة تلك quot;الثقافة الدينيةquot; بالذات التي تسكن وجدان طلائع الإرهاب.
فمنذ متى كانت الثقافة الدينية مفصولة عن الثقافة السياسية عموما ؟ وكيف تكون كذلك بالنسبة للإسلام وهو سياسي أو لا يكون؟ ولننظر حينئذ إلى المحتويات التي تغرف منها الحركات الإسلامية وعموم المتدينين والتي تقتحم وجدانهم عن طريق الفضائيات وشبكة الانترنت وصحافة الإثارة؟ وماذا ننتظر من روافد تحمل في ظهرانيها كل يوم فلسفة الموت واديولوجية الانتحار والدعوات الجهادية الصليبية و شعوذة عمرو خالد وكل ما اتصل بها من طقوس وتخاريف؟
وفضلا عن القوة المادية و الإعلامية الضاربة للقنوات الفضائية الخليجية فان صحف الإثارة المحلية انخرطت في الدعاية السياسية لرموز التيوقراطية العربية والإسلامية وأصبحت تسبح باسم بن لآدن و أحمدي نجاد وحسن نصر الله لا لشيء إلا لتكديس مزيد من الإرباح من مبيعاتها.
وطبعا لا يمكن بأي حال من الأحوال إنكار وقع لحروب العدوانية والاعتداءات والإهانات اليومية التي يتعرض لها العرب و المسلمون لا سيما في فلسطين و العراق من طرف الولايات المتحدة وإسرائيل. ولكن إذا ما توفرت القوة المالية الضاربة المتأتية من البترودولار إلى جانب القدرة التنظيمية و العسكرية المكتسبة من الحروب التي خاضها الإرهابيون في مناطق متعددة من الدنيا فان انتداب الانتحاريين و تكوين الخلايا الإرهابية يصبح في متناول المتربصين بالشعوب المسالمة التواقة إلى الحداثة و النمو والديموقراطية و كل الاستحقاقات التي تتماشى مع روح العصر وتوظيف شتى تجليات الاحتقان للأغراض الإرهابية. ولا شك أيضا في أن التصحر الثقافي والسياسي الذي أحدثته الاختيارات الرسمية من خلال استهداف شتى المعارضات المدنية أعطى سبقا سياسيا وتنظيميا غدا بينا لفائدة الفرق الإرهابية. وهكذا فان المشهد الاسلاموي في مستهل القرن الجديد في تونس ولئن حافظ على بعض ثوابته فانه عرف تحولات مشهودة عن ما كان عليه في أواخر القرن الماضي زمن quot;الاتجاه الإسلاميquot; و حركة النهضة.
نحن الآن بصدد حركة اسلاموية جديدة سليلة تفاعل عوامل محلية وإقليمية و عالمية و لم تعد ترضى بان يقوم حزب quot;النهضةquot; مقام تعبيرتها السياسية بل توغلت أكثر في التطرف لترتبط بالجهادية السلفية و شبكة القاعدة.
وفي الوقت الذي أخفق فيه كثير من السياسيين المعارضين في تقدير خطورة الاسلاموية الجديدة وظلوا حبيسي الموقف الأحادي في معاداة السلطة وأحيانا في تملق المشاعر الدينية للشعب وللإسلاميين فان الفضل عاد إلى بعض الفنانين الذين تمكنوا بفضل عمق و صدق تجربتهم من تشخيص الواقع تشخيصا حصيفا و إطلاق صفارة الإنذار حول الخطر الإرهابي.
وما على هؤلاء السياسيين إلا أن يحجزوا أماكنهم لمشاهدة مسرحية رجا بن عمار quot;هوى وطنيquot; و quot;خمسونquot; للفاضل الجعايبي و'آخر فيلمquot; للنوري بوزيد. وعسى أن يكون وقوفنا أمام الحقيقة العارية لبلادنا تونس مناسبة لنزع الأوهام. ولعل أول الأوهام هو ذاك الذي يروج إليه منذ مدة ويقوم على اقتراح quot; الإسلام المعتدل quot; بديلا عن النظام القائم حاليا طبقا للنموذج التركي. إن قيام دولة الإسلام المعتدل هذه لن يقدم لتونس أية ضمانة تحميها من التوغل في التطرف لتأكل أبناءها و يكون في ذلك اقصر السبل للانتقال إلى النموذج الإيراني أو الأفغاني كما فعل الملالي ببني صدر و طالبان بالموللى عمر.
لذلك فان قيام الجمهورية الديموقراطية التي تضع حدا للاستبداد وتفصل الدين عن الدولة كان ولا يزال يمثل أساس المبادرة التاريخية للتحول النوعي في بلادنا.وفي الوقت الذي تصون فيه هذه الدولة حرية المعتقد فإنها تجرم الإرهاب دون أن تلجا إلى الصمت ألتآمري في التصدي له كما أنها تقاوم دون هوادة الأسباب الهيكلية المغذية لهذه الآفة وكذلك كل المحتويات الثقافية الهابطة التكفيرية والاحترابية والعنصرية الداعية إلى الفتنة الداخلية والحرب الصليبية.
وعلى الرغم من استعصاء المسك بناصية الحقيقية الإعلامية فان تونس تعيش في الظرف الراهن ساعة حقيقة لن ينفع معها الهروب إلى الأمام.