لغز الهوية المصرية (1/3)

تناول المقال الأول من هذه السلسلة، التي تبحث ما نعتبره لغز بقاء سؤال الهوية معلقاً لدى شعب تجاوز عمر حضارته خمسين قرناً، الموضوع من جانب الخطاب الثقافي السائد، والذي كان عنصراً أساسياً في التشوش والارتباك، والمنفصل في أغلبه عن الواقع المعاش للشعب المصري، وبدأنا بما يمكن اعتباره جزءاً رئيسياً من هذا الخطاب، وهو دعوى القومية العربية، وشرعنا في تحليلها لتبين حجم الصدق من الزيف، وطبيعة أساليب التزييف في الفكر والقول، والتي وظفها دعاة العروبة لفرض رؤاهم طوال أكثر من نصف قرن، لم تثمر وحدة سياسية أو اقتصادية أو وجدانية وثقافية بين شعوب المنطقة، وإنما كما هو متوقع من كل فكر يحاول أن يلوي عنق الواقع والحقائق أو حتى يكسره، في سبيل فرض رؤاه المهيمنة الفاشية، أثمرت انشقاقات وحروب وكراهية متبادلة بين الكيانات السياسية، امتدت في أغلبها لتؤثر على نقاء الشعوب وميلها الطبيعي للمسالمة والتعاون في كافة مناحي الحياة تحقيقاً للمصالح المشتركة، وإن لم نرغب في استعراض ما أدى إليه الفكر العروبي من مآس ومصائب، يمكننا فقط أن نلوح بما حدث بين عراق صدام وبين الكويت، وما حدث ويحدث وسيحدث بين سوريا الأسد ولبنان، وكل من صدام والأسد من رافعي رايات حزب البعث العربي الاشتراكي، صاحب شعار 'أمة عربية واحد ذات رسالة خالدة'.
الأدهى أن هذه الدعوة التوحيدية بين كيانات سياسية مستقلة تسببت -بنزعتها الفاشية للهيمنة واستبعاد الآخر واستئصاله- في تصدع الكيانات السياسية القائمة داخلياً، ومن الطبيعي أن تتجلى مأساة الفكر العروبي في أشد صورها فجاجة حيث يسيطر بطل أبطال العروبة مثل صدام حسين، الذي يعبر عن عروبته بإبادة الأكراد المسلمين السنة شمالاً، والمسلمين الشيعة جنوباً، ناهيك عما فعله بالسنة العرب أنفسهم، والذين كان يستند في طغيانه على من استعبدهم من أبنائهم، ليخلفه في العروبة وطغيانها عمر البشير في السودان، ليحاول استئصال الأفارقة المسلمين وغير المسلمين في الجنوب، ويشن حروب إبادة على الأفارقة المسلمين السنة غرباً، لتحاول الآن الدول التي يسميها الخطاب العروبي إمبريالية أن تنقذهم من بين براثنه، ولسنا في معرض تعداد باقي ضحايا العروبة من الأقليات في باقي أقطار 'الأمة العربية الواحدة'!!
لأن أيديولوجية العروبة مناسبة تماماً للطغيان والهيمنة، فقد تحولت إلى أداة في يد المغامرين والعسكر، الذين قفزوا إلى حكم البلاد المسماة العربية بعد الحرب العالمية الثانية، ليحاولوا بها تحقيق أحلامهم في الزعامة والهيمنة الإمبراطورية في ثوب عروبي قشيب، لتتجرع الشعوب مرارة نتائج ذلك التوظيف، فساداً وطغياناً وفقراً وفشلاً في التنمية، ثم إرهاباً يتمكن من جسدها، لتعود وتستدعي القوات الأجنبية التي رحلت عنها، لتنقذها هذه المرة من شرور نفوسها، ومن جموح قادتها وخنوع وانخداع أبنائها، والأمثلة المتاحة لدينا لهذا التوظيف وفيرة، وأمامنا عبد الناصر والقذافي وصدام والأسد الكبير والصغير، ولن نقول البقية تأتي، لأن عصر المغامرين الطغاة يوشك على الأفول، وغير المأسوف عليها العروبة احتضرت في أحضان مناضليها، ولم يتبق منها غير أكفانها، يتشح بهلاهيلها أشاوس الميكروفونات والفضائيات والسيارات المفخخة.
استعرض المقال الأول من خطاب مقومات الهوية العربية زعمها الأول وهو وحدة اللغة، وبيَّنا ما فيه من تزييف اعتمد التعميم والتضخيم والتجاهل، وننتقل إلى زعم آخر هو 'وحدة الجغرافيا والتاريخ'، نبدأ بالجغرافيا، العامل المؤثر بعمق في صناعة وتشكيل هوية الشعوب، فتأثير المناخ والطوبوجرافيا المباشر على تكوين شخصية الإنسان بالغ العمق، بالإضافة إلى تأثيرها غير المباشر عبر طبيعة الإنتاج ومن ثم علاقاته، والتي تطبع هي الأخرى الإنسان ومجتمعه بطابعها، فالجغرافيا فائقة التأثير على وحدة التجمعات البشرية التي تقطن مناطق متماثلة جغرافياً، لكنها تلعب دوراً مضاداً في الكيانات السياسية الكبيرة، والتي تضم بيئات جغرافية متنوعة، ففي مصر نجد بيئة البحر الأحمر الساحلية الجبلية الحارة، وسيناء الجبلية الصحراوية القارية المناخ، وفي الجنوب وادي النيل الضيق المحاصر بين سلسلتين من الجبال والصحاري وحيث المناخ الحار، وفي الشمال دلتا النيل الخضراء المنبسطة ذات المناخ المعتدل، وفي الغرب الوادي الجديد بواحاته وجباله وصحاريه ومناخه القاري، يعلوه الساحل الشمالي على البحر المتوسط صحراوي، وأخيراً بيئات المدن الكبرى والمتوسطة والموانئ بأنشطتها الصناعية والتجارية.. تنوع جغرافي عريض بتأثيراته على المجتمعات القاطنة فيه، وبتشكيله لشخصيات البشر وطبائعهم، التي هي هويتهم الحقيقية وليس المفترضة أو المدعاة، كل هذا داخل كيان سياسي واحد، يلزمه ليحافظ على حد أدنى من الوحدة الوجدانية لشعبه أن يعادل تأثير الجغرافيا التفتيتي، بعوامل أخرى تُشعر الجميع بأنهم أعضاء في كل واحد.
تبرز هنا والآن مسألة بدو شبه جزيرة سيناء، حيث يحتاج الأمر من الدولة أن تبذل المزيد من الجهد وتقديم الرعاية والخدمات والمشروعات، لتعميق احتواء البدو الرحل في منظومة الحياة المصرية، تحقيقاً لحياة أفضل لقطاع ربما يعد منسياً أو مهملاً من الشعب المصري، وأيضاً لتحقيق الأمن القومي المصري على الحدود الشرقية، لتكون بوابة آمنة وتحت السيطرة الكاملة في مواجهة إسرائيل، ذات علاقات السلام الحديثة والهشة مع مصر، وفي مواجهة منظمات الإرهاب وتجارة المخدرات القادمة من الشرق بأعماقه القريبة والبعيدة، وعلى الطرف الآخر في صحراء مصر الغربية المجاورة لليبيا تقطن قبائل أولاد علي البدوية، والتي سبق أن وزع عليها القذافي (الوحدوي العروبي) بطاقات هوية تحمل الرمز 'ص. ش.' أي صحراء شرقية، وسبب قلاقل بطموحاته التوسعية، نتج عنها صدامات عسكرية مع مصر أيام السادات، وأمام الدولة المصرية الكثير لاستيعاب هؤلاء البدو المصريين في منظومة الحياة والتنمية المصرية.
إذا كان هذا هو حال وتأثير الجغرافيا داخل كيان سياسي واحد، يعد من أعمق كيانات المنطقة بل والعالم وحدة وتجانساً وسيطرة مركزية، ربما جاز القول أن التنوع الجغرافي لا يمنع محاولات التوحد، لكن أي حديث يمكن قبوله عن الجغرافيا كعامل ربط ما بين صحراء الربع الخال وسواحل الخليج وجبال اليمن وعسير ووادي الرافدين وسواحل لبنان وسوريا ووادي النيل وغابات السودان ومستنقعاته وأحراشه والصحارى الليبية وسواحل تونس والجزائر وبسواحلها وجبالها وصحاريها؟!!
إذا انتقلنا لما يدعيه دعاة العروبة من 'وحدة التاريخ' لا نجد أيضاً غير التنوع والاختلاف البين والجذري، ما بين تاريخ وادي الرافدين ووادي النيل بحضاراتهما العريقة وعمرهما الضارب في أعماق التاريخ الإنساني إلى أكثر من خمسة آلاف عام، مروراً بحضارة لبنان الفينيقية البحرية القديمة، والتي أهدت العالم حروف الأبجدية، وانتهاء بتاريخ القبائل العربية التي لم يرد لها ذكر في التاريخ قبل القرن التاسع قبل الميلاد، ولم يعرف عنها غير البداوة والرعي وبعض التجارة، إلا احتراف الغزو والإغارة والنهب والسلب والاقتتال المتبادل طويل الأمد، ولم تتمكن خلال تاريخها من إنتاج أي حضارة ولو في أبسط درجاتها، حتى خرجت بعد ذلك من قوقعتها الصحراوية لتجتاح مراكز الحضارة من حولها، لتعتاش على وفوراتها بمنطق الجباية والاستنزاف، وليس الاستثمار الذي يدر عائداً يعود على الجميع، وهذا غير غريب على العقلية البدوية، التي لا تعرف الاستزراع والاستثمار، وإنما فقط الاستحلاب والنحر!!
إذا كانوا يعنون بوحدة التاريخ بعض الفترات المختارة تعسفياً من عمر شعوب المنطقة الممتدة لأحقاب، مثل مرحلتي الخلافة الأموية والعباسية، فربما كانوا لا يعلمون، أو يعلمون ويغالطون ويزيفون، أن سيادة تلك الدولتين على شعوب المنطقة كانت اسمية أو رمزية أكثر منها فعلية، وأن ذلك الحكم أو التوحيد الذي قام على غزو الجيوش وانتقال بعض القبائل العربية لتستوطن تلك البلاد، لم ينتج عنه دولة موحدة وشعوباً متجانسة، وإنما إمبراطورية مصطنعة لم توجد إلا لتتفكك، لعدم توافر المقومات المادية الموضوعية لتجمعها ووحدتها، ولتقتصر فعاليات الحكومات المركزية طوال فترات قوتها على تسيير الجيوش لقمع الثورات وإبادة الثوار ومن والاهم، ولتحصيل الجبايات تحت مسميات الجزية والخراج، في غياب تام لفكر الرعاية والتنمية لمقدرات تلك الشعوب، ولو لضمان استمرار قدرتها على إدرار الحليب لمراكز الرضاع المجدبة والعقيمة، وبالتالي لا منطق في اتخاذ تلك الفترة الاستثنائية والحافلة بالاضطرابات والثورات والتدهور في حياة وحضارات شعوب تلك المنطقة كمعيار أو ذريعة للحديث عن وحدة حقيقية مدعاة، ونفس هذا يقال عن فترة الحكم العثماني تحت مسمى الخلافة الإسلامية، وكانت من أحلك فترات المنطقة سواداً وتدهوراً في جميع مناحي الحياة.
وللحديث بقية.

[email protected]

اية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه