د.مزاحم مبارك مال الله :غياب أو ضعف الخدمات الحضارية، وبناءً على الهيكلية (المفروضة) في مجتمعنا الريفي في جعل العنصر النسوي هو الخادم و العنصر الذكري هو المخدوم ـ طبعاً هذا التقسيم معمول به في المدينة والمناطق الحضرية أيضاًـ لذا نجد إن المرأة تعاني من أجل توفير وتهيأة كل أسباب راحة الرجل بل من أجل كسب رضاه،وفي جميع الأحوال فإن كل هذا (الواجب) يقع على حساب صحتها وقابليتها،لذا فالمرأة الريفية تعاني من آلام جسدية منوّعة وحتى في سن مبكرة،أضف الى ذلك ما تعانيه من أهوال الحمل والولادة والسهر مع الوليد...الخ
ولمّا كانت الخدمات الحضارية معدومة أو قليلة أو متلكأة أو بالية ـ قديمة فإن المرأة هي التي تعوّض وهي التي تسد النقص الحاصل،لذا فإن كل الجهات الرسمية المعنية (والمرتبطة) أساساً بحكوماتها تتحمل كامل المسؤولية في المعاناة التي يعانيها أهالي القرى والأرياف والمناطق النائية بشكل عام والمرأة بشكل خاص.
هذا من جانب ومن جانب أخر فأإن ضعف هذه الخدمات قد أدى الى زيادة نسبة الأمراض بين سكان الريف و الى تقديم المزيد من الضحايا ولذات السبب.
أن الخدمات التي من الواجب توفيرها للناس في الريف يجب أن تشمل :

1.الخدمات الصحية :
والتي تشمل بناء وتأسيس أعداد من المراكز الصحية العمومية والمتخصصة،إضافة الى مستشفى هنا وأخرى هناك وحسب الرقعة الجغرافية والكثافة السكانية،والإبتعاد عن أسلوب بناء مركز صحي بسيط يكون إسناداً طبياً لأقضية ومدن بعيدة.إن الريف والواقع البيئي الزراعي يبدوان أحوج الى الخدمات الطبية والصحية من غيرهما وذلك بسبب الطبيعة البنيوية للريف المتمثلة بالتعايش مع المزروعات والحيوانات وما ينتج عن ذلك من أمراض مشتركة مع الإنسان،لذا فإن الإهتمام البيطري يُعد في غاية الأهمية، وإنشاء المستشفيات البيطرية أهم .إن المعطيات الطبية المتوفرة عن الريف العراقي تشير الى توطن بعض الأمراض مثل الكوليرا،التدرن،البلهارزيا، إلتهاب الكبد الفيروسي،الكزّاز،الحمى السوداء،داء القطط،الأكياس المائية،الديزنتري، الديدان المعوية،وغيرها .
أن تسيير الفرق الصحية البشرية والبيطرية بشكل مستمر يساعد ويساهم بشكل فعال على تحجيم وحصر إنتشار العديد من الأمراض. إن هذه الفرق يجب أن تأخذ على عاتقها مهام الفحص والعلاج إضافة الى (وهو الأهم) التوعية الصحية،لقد ثبت بما لايقبل الشك أن التوعية الصحية تساهم بشكل فعال في التقليل من هذه الأمراض.
أن الغالبية العظمى من نساء الريف بحاجة الى الرعاية الصحية الخاصة وتتركز هذه الرعاية بالحوامل بالذات لما يتعرضن له من مشاكل تحتاج مثل هذه الرعاية (كما أوضحنا ذلك سابقاً) إضافة الى الرعاية المطلوبة للاتي يلدن خصوصاً إذا عرفنا إن العديد منهن يتعرضن الى عسر الولادة أو الى حمى النفاس،ولاننسى الإصابات المسجلة بالكزّاز.

2.خدمات المياه الصالحة للشرب والإستعمال :
لعب إنعدام مد شبكة المياه الصالحة للشرب أو في أحسن الأحوال إن وجدت فهي متآكلة،في الريف دوراً مؤلماً بل مأساوياً في إنتشار الأمراض ومنها تلك التي تنتقل بواسطتها، مثل الكوليرا وإلتهاب الكبد الفيروسي والأمراض المعوية والجلدية المختلفة،وليس هذا وحسب وإنما أدت هذه الحالة الى معاناة مضاعفة تعانيها المرأة،ففي الكثير من المواقع الريفية تضطر المرأة وللأسف الشديد الى أن تستخدم المياه غير الصالحة للشرب أو حتى غير الصالحة للإستعمال البشري لكونها لم تخضع للتصفية وغير معقمة،فالمرأة هي المسؤولة عن توفير ونقل هذه المياه من الترع والسواقي وفي غالب الأحيان من مواقعها البعيدة الى البيوت،ثم تعمل هذه المسكينة على تصفية وتنقية تلك المياه.هنا تتجلى إزدواجية المعاناة فمن جهة الجهود الجسدية التي تبذلها المرأة وما يترتب على ذلك من تأثيرات على صحتها ومن الجهة الأخرى ما يمكن أن تتعرض له من أمراض جراء إستخدام هذه المياه.

3.خدمات الصرف الصحي :
وهي ذات المشكلة الخاصة بالمياه الصالحة للشرب،فهما صنوان لايفترقان فما دام هناك شبكة للمياه الصالحة للشرب والإستعمال فيجب أن تتوفر شبكة الصرف الصحي،والمطلوب إدامة هذه الشبكات، فقد دلت نتائج تحاليل الأمراض التي تعصف بالقرى الى إن إنعدام أو تآكل شبكة الصرف الصحي(إن وجدت) تقف وراء الغالبية العظمى منها.ولتأمل الصورة بشكل أوضح حينما نتصور حالة نسائنا الريفيات وهن يرمين بالمياه القذرة الناتجة عن التنظيف وغسل الملابس وغير ذلك من النشاطات اليومية في الأزقة أو في مياه الجداول والترع وبالتالي يساعدن بشكل مباشر على تلوث البيئة وما ينتج عن ذلك من مردودات صحية سلبية خطيرة.

4.المدارس والمعاهد التعليمية :
سلطّنا الأضواء في الصفحات الماضية على الدور الكبير الذي تلعبه الأميّة ولازالت في تأخر الوعي الصحي،والأمية باتت من معوقات التقدم العلمي بكل الإتجاهات والمجالات،ومما يؤسف له فإن الأمية متفشية في مجتمعنا منذ عقود بعيدة وزادتها تعقيداً وتأثيراً سلبياً تلك السياسات المتخلفة والدكتاتورية التي إنتهجتها الحكومات والتي تعاقبت على سدة الحكم العراقي.ففقدان المدارس في الرقع الجغرافية الريفية مترامية الأطراف أو بُعد القليل الموجود منها قد ساعد أو بالأحرى أدى الى ظاهرة ظهور أعداد كبيرة جداً من الأميين وخصوصاً بين الشباب والشابات،هذا من جانب ومن جانب أخر فالنظرة الضيقة والمتأخرة عن ركب الحضارة والمتمثلة بمنع البنت من التعليم أو في أحسن الأحوال من مواصلة تعليمها ووفق مختلف التبريرات والحجج والتي تتراوح(بين أن البنت في النهاية لها زوجها وبيتها فلا داعي ولا فائدة من العلم ومن التعليم وبين إدخال مفهوم ذهاب البنت الى المدرسة ضمن الأعراف والعرض والشرف وغير ذلك). مجمل هذه الصور والتي تعكس مستويات متباينة من الأمية قد أدت بشكل مباشر الى إنخفاض وفقر مستوى الوعي الصحي بين الفئات العمرية الحساسة والتي تُعد العمود الفقري في تشكيلة أي مجتمع،والنتيجة تفشي الأمراض الإنتقالية وغير الإنتقالية بين كل أفراد المجتمع الريفي ذي السمات الإجتماعية والبيئية الخاصة.

5.منظمات المجتمع المدني :
مما لاشك فيه أن منظمات المجتمع المدني تلعب دوراً فاعلاً في عملية البناء الإجتماعي فيما لو توفرت لتلك المنظمات ظروف العمل إيجابية ومناسبة،و مما هو معروف فإن تلك المنظمات تلعب دوراً إيجابياً إستثنائياً في المناطق الريفية ذات الخصوصية الخاصة،هذا الدور يتجسد كقوّة ساندة للجهات الصحية ـ الطبية والبيطرية.إن غياب فعل وجهود هذه المنظمات قد ساعد الى حدٍ ما الى بقاء النساء الريفيات قابعات بعزلتهن عن الحضارة وعن العلم وبالتالي لايوجد ما يحرّك الساكن.

(يتبع)

واقع المرأة الصحي في الريف العراقي(2)

واقع المرأة الصحي في الريف العراقي(1)