الإتحاد: الخميس: 16 ـ 06 ـ 2005

سار مسرى الحقيقة أن جميع البنوك على أصنافها هي بنوك ربوية، عدا تلك البنوك التي أطلقت اللحية وقصرت الجلباب ولبست النقاب وأضافت لنفسها صفة (إسلامي)، تمييزاً لها عن اللون العالمي الأوحد في كل الدنيا للمعاملات البنكية، وهو الأمر الذي نوقش طويلاً. لكني هنا أطلب من قارئي مشاركتي البحث العقلي في قاعدة تحريم الربا التشريعية، وموقف البنوك الملتحية المتحجبة، وموقف البنوك السافرة الخليعة من تلك القاعدة. وأوجه للقارئ هنا خطاباً مختلفاً، أخاطب فيه عقله وأيضاً إسلامه، لنعلم أي اللونين من البنوك أكثر شرعية؟ أعلم أن السؤال مدهش لأن كل شيء واضح ومنتهٍ وصدرت بشأنه فتاوى قاطعة. لكن غير المدهش أن المسلمين في بلادنا غالباً ما يسلمون بأمور تبدو واضحة قاطعة وهي ليست كذلك بالمرة. ومثال لذلك الموضوع الذي نناقشه هنا. بل أزعم أن البنوك الإسلامية هي أسوأ أنواع الحيل التي يتم بموجبها استغلال المسلم الطيب غير المتفقه.

لنأخذ الموضوع خطوة خطوة، في مشهد من مشاهد الفضائيات الإسلامية التي توجع الكبد على المسلمين. شاهدت صاحب معرض سيارات يسأل الشيخ ليفتيه في حرمة أو حلالية بيعه السيارات بسعرين، فلديه سعر للبيع النقدي وسعر للبيع بالتقسيط، ولو قرر الاقتصار على البيع النقدي لبارت تجارته. فتقدم المفتي بحل مدهش ويسير، وهو أن يضع سعراً واحداً للسيارة هو سعر بيعها بالقسط، وعندما يقرر أحدهم الشراء نقداً يخصم له الفارق كهدية، والنبي قبل الهدية؟

الحل الفتوي هنا هو تحايل واضح لتمرير قانون السوق، الذي يعمل كله في كل أنحاء العالم بنظام الفائدة، والتاجر يعلم ذلك، والمفتي يعلم ذلك. تنقلنا هذه الخطوة لما بعدها، لنستمع إلى الشيخ القرضاوي وهو يقول:"إن الإمام ابن تيمية وابن القيم لهما دراسات واسعة في إبطال هذه الحيل... ربنا عاب على اليهود حينما استخدموا الحيلة في الصيد يوم السبت، ونصبوا الشباك يوم الجمعة، وبعدين أخذوا الصيد يوم الأحد، وقد اعتبر الله ذلك منكراً كبيراً، ولهذا جعلهم قردة خاسئين"- حلقة الظاهريون الجدد- "الجزيرة". فإذا كانت غضبة الله على اليهود لأنه حرم عليهم العمل يوم السبت دون حكمة واضحة، ويتضح أمرها في ابتلاء لهم بالطاعة المطلقة، فلما تحايلوا على شأن لم يروا فيه حكمة, غضب عليهم وحولهم من بشر إلى قردة وخنازير. فتراه ماذا يفعل بنا في ضوء مثل تلك الحيل؟ ترى هل التخلف المقيت الذي يعاني منه المسلمون دون العالمين والاحتقار الدولي لهم بسبب ما يفعله السفهاء منا، ترى هل هذا هو جزاء ما نرتكب؟

إن مشايخنا حللوا الفائدة المئوية المطاطة المفتوحة المتغيرة المجهولة المائعة غير المضمونة، وحرموا الفائدة المئوية الثابتة المعقولة الواضحة، المقررة بشروط يوقع عليها طرفا العقد، المحددة بصرامة الأمانة المطلقة دون نسبة خطأ واحدة. فائدة تقوم على قوانين تنظم العلاقة وتحمي أياً من الطرفين من الهروب بأموال الآخر كما حدث في كارثة بيوت الأموال وبنوك التقوى، وتجعل الأمان المطلق للمال شرفها المعلن بغض النظر عن معنى الحلال ومعنى الحرام عند مشايخنا. فالحلال والحرام ليس ظاهر نص بقدر ما هو توفير القيم في المجتمع وترسيخها، وأعلى قيم اقتصاد المجتمع هي ضمان الأمان في المعاملات النقدية، ولا يجادل في ذلك إلا جاهل أو معاند مكابر.

هناك تسليم آخر يرتبط بالموضوع ارتباطاً وجودياً، وهو تعريفهم للربا بأنه الفائدة المحددة النسبة، أما المفتوحة المحتالة كما حدث ووقع فهي الحلال. مع ملاحظة أن المشايخ الذين قدموا هذا التعريف للربا هم من وقفوا وراء شركات توظيف الأموال والتقوى، وهم ذوو أسماء لوامع وهم نجوم مشاهير في عالم الدعوة، وهم من وردت أسماؤهم في كشوف البركة التي كانت عبارة عن هدايا مالية تصلهم بحسبان الشركة تباركت بهم وبرعايتهم لها فزاد رزقها ببركتهم، فاستحقوا ما لهفوا من أموال فقراء المسلمين.

إن بيوت الأموال والتقوى هي بنوك "اعطني مجالاً أسرقك براحتي...، وسأسمي الربا مرابحة وهي عين المتاجرة، ورزقي ورزقك على الله". وهذا هو عين النصب العلني على المسلمين. وإذا كان القارئ منزعجاً، فليتابعني لأقدم له الأدلة العقلية والنقلية على أن صفة الربا يجب أن تلصق باعتبارها جريمة في كل المعاملات النقدية التي ترفع راية الإسلام، قبل أي لون آخر من البنوك، لأنهم قد صاغوا للربا تعريفاً يعملون تحته كمظلة، أما حقيقته فشأن آخر.