بين سندان القوانين الجائرة ومطرقة التعصب الديني
الصحافة المصرية تعيش أجواء الحروب الأهلية

الملف الكامل

إيلاف تفتح ملف الحريات الصحافية العربية

نبيل شرف الدين من القاهرة: لو افترضنا أن كائنًا فضائيًا من خارج كوكبنا هبط على أرض مصر وطالع ما يصدر بها من صحف، وما تثيره من قضايا، سيتصور أن هذه الصحف تتحدث عن بلدين أو أكثر، وليست عن بلد واحد، فالصحافة الحكومية لا تكف عن الثناء على الأداء الحكومي والإطراء على المسؤولين، بينما تنحو الصحف الخاصة والمعارضة منحى يقف في الطرف الآخر المضاد تمامًا، فهي تتحدث عن quot;خراب شاملquot;، وفساد يتمدد في كل شبر، واستبداد توحش حتى لم يعد يجدي في ظله أي حديث عن الإصلاح، وحالة من الوهن والرخاوة ضربت مفاصل المجتمع وكافة أنشطته .

وقد يبدو هذا الوضع للوهلة الأولى طبيعيًا في ظل المتغيرات السياسية التي تموج بها المنطقة وربما العالم، لكن حالة الإستقطاب الراهنة لم تصل إلى هذا المدى في مصر طيلة تاريخها المعاصر، وهو وضع يبدو مربكًا، ليس فقط للقراء الذين تتراجع لأعدادهم لصالح الميديا الجديدة (الإنترنت والفضائيات)، بل أيضًا للعاملين في حقل الإعلام، الذين وجدوا أنفسهم حيال معادلة جديدة، لم تعد فيها الدولة لاعبًا وحيدًا، بل اقتحم الساحة رجال أعمال من الوزن الثقيل، أطلقوا أقنيات إعلامية جديدة، غيرت كثيراً من ملامح المشهد، وصنعت نجومًا جددًا لم يكونوا ليجدوا هذه الفرصة، لو ظلت الأوضاع المهنية على ما كانت عليه قبل سنوات قليلة مضت .

ثمة متغير جديد يتعلق بمسألة الحرية التي يبدو أنها أصبحت quot;أم المعاركquot; التي تتصدر التحديات الصحافية، على الرغم من أن سقف الحريات الصحافية في مصر يبدو أعلى من كثير من نظيراتها في المنطقة، فقد احتلت مصر المرتبة التاسعة عربيا، والمركز الـ 128 دولياً في تقرير منظمة quot;مراسلون بلا حدودquot; حول حرية الصحافة في 167 دولة حول العالم، غير أنه لم تزل هناك معوقات جدية تقف أمام الارتقاء بالمهنة، مثل حرية الوصول إلى المعلومات والحصول عليها وتداولها، وحرية إصدار الصحف، فضلا عن وجود ضمانات دستورية وقانونية ومؤسسية لحماية حرية التعبير عن الرأي من تجاوزات الحكومات ونفوذ رجال الأعمال .

حبس الصحافيين

تظاهرة مناهضة لقانون حبس الصحفيين
نبدأ بتقرير لجنة حماية الصحافيين ـ وهي منظمة مستقلة تتخذ من نيويورك مقرًا لها وتعمل على رصد العمل الصحافي دوليًا ـ الذي ألقى الضوء على واقع الصحافة المصرية التي دخلت مرحلة جديدة تبدو مشوشة المعالم، في ظل ظهور صحف مستقلة ذات تأثير قوي على القارئ، إضافة إلى الانتشار الواسع للصحافة الإلكترونية والمدونات عبر شبكة الإنترنت .

ويقول التقرير إن الصحافيين المصريين لا يزالون يواجهون يوميًا عقوبة السجن بسبب انتقاداتهم للسلطة والنظام الحاكم، على الرغم من وعود الرئيس المصري حسني مبارك بإدخال إصلاحات جديدة تتعلق بالإصلاح ودعم الحريات العامة والديمقراطية .

تقرير حقوقي آخر حول حرية الرأي والتعبير في مصر كشف عن صدور 25 حكمًا قضائيًا بحق صحافيين في قضايا النشر خلال العام الماضي، بالإضافة إلى استدعاء 60 صحافيا أمام النيابات المختلفة للتحقيق معهم في قضايا متصلة بالنشر ، كذلك وقوع 10 حالات اعتداء على صحافيين بسبب عملهم .

وتناول التقرير الصادر عن ملتقى الحوار للتنمية وحقوق الإنسان، رصد المشهد الصحافي وعلاقته بالتحولات السياسية وتصدي الصحافة لقضية الإصلاح الدستوري، كما تعرض لتفشي ظاهرة الانتقادات القاسية فيما بين الصحافيين على صفحات الصحف، وهو ما اعتبره التقرير قيدا ذاتيا يفرضه الصحافيين على أنفسهم .

وتتضمن نصوص القانون ما لا يقل عن 42 فعلاً مؤثمًا يعاقب عليها بالحبس لمدة تتراوح بين ستة أشهر، والسجن لمدة خمس سنوات، والغرامة التي تتراوح بين خمسة حتى عشرين الف جنيه، وهي افعال تشمل ثمانية مجالات هي جرائم التحبيذ (وتشمل تحبيذ المذاهب التي ترمي الى تغيير مبادئ الدستور، او الى سيطرة طبقة على بقية الطبقات) وجرائم التحريض (وتشمل التحريض ـ بوساطة النشر ـ على قلب نظام الحكم، وعلى بعض طائفة من الناس، وعلى عدم الانقياد للقوانين، وتحسين الجرائم والجنح)، وجرائم الاهانة (وتشمل اهانة رئيس الجمهورية، وإهانة مجلس الشعب او الهيئات النظامية كالجيش والمحاكم والمصالح العامة) وجرائم العيب (وتشمل العيب في حق ملك او رئيس او سفير دولة اجنبية)، وجرائم السب والقذف (وتشمل السب والقذف في حق الموظفين العموميين والنواب والاخلال بمقام القضاة).

ثمة أمر آخر يتمثل في انه على الرغم من كثرة التعديلات التي أخلت على النصوص الخاصة بحبس الصحافيين احتياطيًا الذي سبق الغاؤه في العهد الملكي، ثم عاد مرة اخرى وتم الغاؤه عام 1995 بعد معركة شرسة، إلا أن هذا الإلغاء لم يتم في حالات quot;التعرض لرئيس الجمهورية، وازدراء الأديان ونبذها، والأخبار التي تنشر عن معلومات سرية تخص القوات المسلحة أو الشرطة، ولا تلك التي تضر بالمصالح القوميةquot;، وهي كما نرى من العمومية بحيث يمكن أن تنطبق على نصف ما يكتب في الصحافة .
والمعنى هنا انه ما زالت هناك ألغام قانونية تواجه الصحافين، ويمكن أن تلقي بهم خلف القضبان لو اتجهت النية إلى ذلك، فالقانون مثلاً يسمح بنقد الموظف العام، لكنه يشترط حسن النية، وصحة الواقعة، ثم يلقي على كاهل الصحافي عبء اثبات صحة الواقعة وحسن النية .

العزب الحكومية
وللصحافة المصرية وضع بالغ الغرابة، ففي مصر حالة ملتبسة في ملكية الصحف، فهناك صحف يمتلكها تجار، وأخرى تمتلكها وتعرضها للإيجار أحزاب سياسية، وهناك صحف أخرى تصدر بتراخيص من قبرص ولندن وكل هذا في كفة، وما يسمى بالصحافة القومية (الحكومية) في كفة أخرى، فلا أحد يعرف على نحو قاطع من يمتلك فعلاً هذه المؤسسات الضخمة كالأهرام وأخبار اليوم ودار التحرير ودار الهلال ودار المعارف وروز اليوسف وغيرها، فهي رسميًا مملوكة لمجلس الشورى، وهو أحد مجلسي البرلمان، غير أنه لا يمتلك صلاحيات تشريعية، وقد ورثها مجلس الشورى من التنظيم الأوحد quot;الاتحاد الاشتراكي العربيquot;، لكن من الناحية العملية فلا مجلس الشورى، ولا حتى مجلس الأمن يستطيع أن يتدخل في قرارات رؤساء مجالس إدارات المؤسسات الصحافية، فلا أحد يمتلك أدنى حق في مساءلتهم، أو معارضتهم، وإلا فبوسع هؤلاء أن يصدروا بحقه ما يعنّ لهم من قرارات، تبدأ بالحرمان من أي مزايا، ولا تنتهي عند حدود الفصل التعسفي، وهنا لا يتصور أن يتصدى صحافي فرد لخصومة مؤسسة تمتلك المال والنفوذ وأشباه الرجال المستعدين لدق عظامه واغتياله معنوياً إرضاء للأستاذ الكبير، وطمعاً في الأجر والثواب، الذي له ألف بندٍ .. وبابْ، وهناك عشرات الوقائع التي تم فيها دق عظام صحافيين تمردوا على quot;السيستمquot;، أو حتى طالبوا بأبسط حقوقهم.

ويقول الكاتب الصحافي المعروف سعد هجرس إن تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات كشفت عن وجود خلل في الهياكل التمويلية للمؤسسات الصحافية القومية ـ المملوكة للدولة، موضحا أن التقارير رصدت تكرار تحقيق خسائر في نتائج أعمال معظم هذه المؤسسات، منها ارتفاع خسائر مؤسسة quot;دار الشعب للصحافة والنشرquot; إلى نحو 98 مليون جنيه بما يزيد على 2.9 مثل رأس المال بعد زيادته، وأضاف أن المؤسسات الصحافية تعاني من ارتفاع الطاقات العاطلة بها، حيث بلغت تكلفة ما تم منها ـ وفقًا لتقارير الجهاز المركزي للمحاسبات ـ 2.30 مليون جنيه، إضافة إلى عدم استغلال المؤسسات الأصول الثابتة المملوكة لها .


صحافة رجال الأعمال
كما تواتر الحديث أخيرًا عن صحافة رجال الأعمال في مصر بعد أنباء عن صدور أكثر من صحيفة يملكها أحدهم، د. فاروق أبوزيد أستاذ الصحافة وعميد كلية الإعلام السابق يرى أن امتلاك رجال الاعمال الصحف ظاهرة طبيعية في ضوء تطور الاقتصاد المصري واتباع سياسات الاصلاح الاقتصادي، ونمو دور رجال الاعمال في الاقتصاد المصري وتضخم استثماراتهم وهو ما يعني ضرورة وجود صوت يعبرون به عن مصالحهم كما أن خصخصة كافة وسائل الانتاج تستدعي بالضرورة خصخصة وسائل الاعلام أو على الأقل السماح بوسائل إعلام خاصة، لكن المشكلة كما يرى أبوزيد تكمن في السمعة السيئة لبعض رجال الأعمال نتيجة الاضطرابات في تعاملاتهم مع البنوك، وتفجر بعض قضايا الفساد التي كان الطرف الثاني فيها من رجال الأعمال، فضلاً عن وجود منافسات غير صحية بين بعض رجال الأعمال عبرت عن نفسها في شكل حملات تشهير عبر بعض الصحف أعطت انطباعًا بأن هذه الصحف قد تنتمي الى الصحف الصفراء في حين ان الأمر يمكن ان يكون مختلفا لو تحلت الممارسات بمزيد من النضج .

ويبقى في النهاية دائمًا شعاع الأمل الذي ينتظره أبناء quot;مهنة البحث عن المتاعبquot; في تحررهم من الملاحقات الأمنية ، وحقهم في إصدار المجلات والصحف الخاصة المعبرة عن آراء حرة مستقلة ، وانهاء كافة عقوبات السجن في جرائم النشر ، واحقيتهم في الحصول على المعلومات من مصادرها دون أي تسويف أو تجميل، وأخيرًا حقهم في عيش حياة كريمة بدخل مناسب حتى لا يصابوا بانفصام في الشخصية بسبب عملهم صباحًا في الصحف الحكومية، ثم انتقاد الحكومة والسلطة مساء في الصحف المستقلة وعبر مواقع الإنترنت، ولكن هذا الامل قد لا يتحقق قبل عقود طويلة، وربما بعد أن تندثر الصحافة الورقية من العالم تمامًا.