أصاب الأستاذ عبد القادر الجنابي في مقالته الرائعة منذ أيام عن معرض فرانكفورت للكتاب والتمثيل العربي، ومحاولة العرب محاصرة العراق الجديد والتعتيم عليه. إن القارئ المتابع لابد ويتذكر مقالتي في إيلاف في عشية الحرب بعنوان "أزمة الفكر العربي". ولو أعدت كتابة العنوان لوضعت بدلا عنوان هذا المقال الجديد.
كما قال الجنابي، إن الثقافة والفكر العربيين قد تقلصا مع الأسف إلى التبشير بالعنف، ورفض الآخر، وتوسيع دائرة المحرمات، مما يذكر بعصور الانحطاط العربية ـ الإسلامية. وتحول الفقه الديني إلى تعصب وتكفير، ومطاردة للمفكرين الأحرار والمبدعين. وقد راح ضحايا لهذا الوباء الثقافي ـ الديني عشرات من المبدعين والمفكرين العرب وعشرات مضاعفة من خيرة الروايات والأفلام السينمائية. وسيطرت الغوغائية الدينية والقومانية على وسائل الإعلام العربية ولاسيما الفضائيات. وسادت السطحية وتراجعت دائرة الإبداع الحقيقي.
ذات يوم كنا نقول إن مصر أم الدنيا. ولكن مصر نفسها كانت المركز الأول لميلاد وانتشار الظلامية الثقافية والدينية، ولمطاردة المثقفين وذبح الأقباط والسائحين. لم نعد في زمن طه حسين وقاسم أمين وسلامة موسى وإسماعيل مظهر وتوفيق الحكيم وعلي عبد الرازق ومنصور فهمي وغيرهممن معالم الفكر والأدب والفن والتنوير.
لقد سادت عقليات " المؤامرة" في السياسة، وثقافة السحر والتنجيم والجن والزواج بين الجن والإنس، وواجب الحجاب، وتقييد المرأة، والانتقال من تمجيد " البطل القومي"، [ المهزوم دوما!!]، إلى تقديس بطولة الإرهاب الإسلامي برئاسة بن لادن والظواهري والزرقاوي والقرضاوي، وفضل الله وأمثالهم من المسؤولين، مباشرة أو بالتحريض، عن مقتل الآلاف من الأبرياء ـ هؤلاء الذين يدفع المواطنون العراقيون أثمانا دموية كل يوم عن أعمالهم أو الفقه المشبعبالدم.وهل يمكن للمثقفين والإسلاميين العرب تبرئة الساحة من مأساة أطفال بغداد أمس، وتمجيد المجرمين من "أبطال المقاومة" في نظرهم؟!
ليس من المفارقات أن يكتب الشاعر لجنابي مقالته قبيل أيام معدودة من مؤتمر المثقفين المصريين بحضور وزير ثقافتهم، وحيث أعلنوا عن دعم عمليات الخطف البشعة في العراق، و لما يعتبره "مقاومة للاحتلال" في العراق. إن هذه هي العقلية السائدة في الثقافة والإعلام العربيين اليوم وهي الطاغية على كل من الأداء السياسي والأداء الديني. إن القضية العراقية تقض مضاجع أعداء الديمقراطية والفكر التنويري. وما عدا النخبة اللامعة من المثقفين اللبراليين الخيرين، فإن المثقفين العرب هم بوجه عام يعادون المثقفين العراقيين الذين دعموا عملية إسقاط صدام والوضع السياسي الجديد. ولذلك فلا عجب في عدم توجيه الدعوة للمساهمة في معرض فرانكفورت للعشرات من خيرة المثقفين والمبدعين العراقيين، الذين عرفوا بمعارضة الفاشية الصدامية، وبالفكر التنويري، ومعارضة عمليات الإرهاب الصدامية ـ الزرقاوية والإيرانية الصدرية. وأعلم أن هؤلاء العراقيين لا يمثلون كل مثقفينا والفكر السائد في الشارع العراقي. فعهد صدام وثقافة العنف وممارسته والهجمة الإسلامية بعئذ قد شوهت التكوين الفكري والأخلاقي للكثيرين من العراقيين ومنهم أساتذة جامعات. ولكن النخبة العراقية المتنورة هي التي تجسد الطموح الحقيقي نحو الحرية والديمقراطية، اللتين تواجهان حرب الإرهابيين والفضائيات والمثقفين العرب. والمعرض ليس استثناء في تعتيم الأنظمة والمثقفين العرب على العراقيين. فهذا هو أمامنا في باريس مهد العالم العربي الذي رفض عرض أفلام عن فضائح صدام وقمعه الوحشي، المعهد الذي نجد الكثيرين من موظفيه وموظفاته العرب لا يستطيعون كتابة سطرين سليمين بالعربية.
إن تقارير لجنة التنمية الدولية العربية وإحصاءات الأمم المتحدة واليونسكو تؤكد أن العرب هم في آخر سلم البشرية من حيث العلم والتعليم والترجمة والوضع المعيشي وانتشار الأمية والاستبداد السياسي والديني. وكل ما يشهده عام اليوم من إرهاب ينشر الرعب ويفجر ينابيع الدم، ويفجر الأطفال والنساء والمدارس في العراق وبيسلان وعواصم العالم، فمن صنع العرب الذين استحوذت عليهم ثقافة الكراهية والعنف وفقه القتل والموت. ويا ترى أية كتب عربية جديدة تستحق العرض وكم عددها؟ هل ما يسود المكتبات من كتب السحر والحيض والحجاب وأنواع الجن؟ صحيح هناك قلة نادرة من كتب الإبداع والتاريخ. ولكن هل هي بمستوى معرض دولي هام عددا ونوعا؟!

ويتمنى الجنابي في آخر مقالته امتناع السيد وزير الثقافة العراقي عن المساهمة في المعرض. وأنا أشاركه التمني. ولكن فلنسأل: أليست وزارة الثقافة العراقية تتحمل قسطا من مسؤولية تجاهل العشرات من أفضل المثقفين العراقيين الذين ساهموا بالإبداع والكلمة وبالتضحية في تعرية نظام صدام؟! هل كانت اختيارات السيد الوزير لتمثيل الوجه الثقافي للعراق في المنظمات الدولية صحيحة أم خاضعة لمعايير الصداقة والمحسوبية؟! وهل ما جرى في مؤتمر المثقفين العراقيين في مقر اليونسكو بباريس سليما في التحضير والتمثيل وفي الأوراق المقدمة للناش؟! هل كان المثقفون العراقيون عاجزين عن تقديم وثيقة متعمقة وواعية لواقعنا السياسي والثقافي ومتطلباته، أم تركنا المهمة لصحفية لبنانية وموظفة فرنسية وبإشراف شاعر سوري معروف؟! وكيف تكون التوصيات دقيقة عندما تحكم الوثيقة بأن "الاحتلال" سبب العنف وبأنه هو الذي يعرقل التوافق الوطني؟! وكيف نقبل وثيقة لا كلمة فيها للإرهاب ولا للديمقراطية؟!
أجل! لنا جانب من المسؤولية، سواء من أداء الوزارة، أو من بعض الحساسيات والعقد بين المثقفين العراقيين الطيبين أنفسهم. وتبقى المسؤولية الكبرى على الحصار العروبي ـ الإسلاموي على العراق ومعاداة ثقافة الديمقراطية والتنوير واحترام المرأة، وعلى نهج خلط الدين بالسياسة وشؤون الحكم، وعلى التعليم الديني المحنط والمتعصب.
لقد ضرب معظم المثقفين العرب ووسائل الإعلام العربية الرقم القياسي في العداء لشعبنا سواء لحسابات شخصية أو بدافع العقدة الأمريكية، أو كمتنفس عن الفشل العربي المتواصل في حل القضية الفلسطينية. إن هؤلاء هم، مع ساستهم، يشككون في الانتخابات العراقية قبل وقوعها وكأن دولهم من أعرق ديمقراطيات العالم؛ إنهم يدعمون قطع الرؤوس وتفجير الأطفال وقتل أفراد الدفاع الوطني وجنود التحالف؛ إنهم يشككون بشرعية حكومة شرعنها قرار مجلس الأمن بينما يشرعنون الإرهاب وشبكاته الدموية ويضفون عليها الهالات. وقد قال لي أحدهم أمس:" نحن المصيبون، ألم تسمع بتصريحات عنان والمسؤولين الفرنسيين ؟" ولكن هل هؤلاء مقياس الصواب والحكمة فيما يخص العراق؟ كلا بالطبع. ولهذا الموضوع مجال آخر لتناوله. [أكتفي اليومبالإشارة للمقالة النافذة للدكتور عبد الخالق حسين عن الحملة الهجومية الدولية والداخلية والإقليمية على الانتخابات المقرر إجراؤها في العراق.]
أجل! أية ثقافة عربية تعرض نماذجها في فرانكفورت؟ هل في استعراض عضلات الآثار، كما عبر الشاعر الجنابي؟!!

عبدالقادر الجنابي:

هل سيقاطع العراقيون معرض فرانكفورت للكذّاب