الإنسان يشترك مع الحيوان في جميع غرائزه، لكنه يمتاز عنه بالعقل. هذا العقل الذي ظل ينمو في الإنسان على مر الدهر منذ أن افترقنا عن الشمبانزي قبل حوالي مليونين من السنين. مكننا هذا العقل من أن نُصقل بعض هذه الغرائز ونتحكم فيها إلى أن ينتفي مفعول العقل بواسطة المسكرات أو العقاقير، فنتصرف إذا سكرنا كما تتصرف الحيوانات بالغريزة، فنتقيأ أو نتبول في الطرقات ويعتدي بعضنا على بعض كما كان يفعل الإنسان البدائي. وقد يؤدي هذا الاعتداء إلى القتل دون أي سبب واضح. وهنا يمتاز الحيوان عن الإنسان، إذ أن الحيوان لا يقتل إلا إذا جاع أو حُصر في مكان لا يستطيع منه الفرار، بينما يقتل الإنسان أخاه الإنسان أو الحيوان لأسباب عديدة، أو حتى بدون أسباب. والمسكرات ليست هي الوحيدة التي تُغيّب العقل، فالمرض قد يفعل ذلك فتصيب الإنسان لوثة من الجنون قد يتصرف أثناءها كما يتصرف الحيوان. ولكن أكثر الأسباب شيوعاً لغياب العقل هو الدين أو العقيدة. وقاموس أكسفورد يُعرّف العقيدة أو الإيمان Faith بأنه الاعتقاد في شئ بدون دليل. فإذا صدّق الإنسان في شئ بدون دليل قائم عليه يكون قد نفى عقله تماماً. وقد ظهر هذا النمط من السلوك بظهور الأديان السماوية. فنجد كتب العهد القديم، وخاصة كتاب "يشوع" Joshua ملئ بالآيات التي تحض بني إسرائيل على قتل الرجال والأطفال والنساء وحتى الحيوان، بدون أن يكون هناك أي سبب لقتلهم سوى أنهم يختلفون عن بني إسرائيل في معتقداتهم وإثنيتهم. ثم جاء الإسلام وحض المؤمنين على قتال المشركين وسبي نسائهم وأطفالهم، لا لشئ سوى أنهم يختلفون عن المسلمين في معتقداتهم، رغم أنهم يشتركون معهم في الإثنية. وزاد الإسلام على اليهودية بأن جعل الرسول وأصحابه معصومين عن الخطأ، وجعل الويل والثبور عقاب من يتجرأ وينتقد أحدهم أو ينتقد الفكر الإسلامي. وجاء علماء بغداد في القرن الثاني عشر وألغوا العقل نهائياً وقفلوا باب الاجتهاد. ورغم أن الغالبية العظمى من المسلمين استسلموا لهذا الوضع، كما يطلب منهم الإسلام الذي يحثهم على طاعة الله ورسوله وأولي الأمر فيهم، ولغوا عقولهم، إلا أن جماعةً من المفكرين رفضوا إلغاء العقل وجادلوا في الدين، وكان مصير أغلبهم الشهادة في سبيل الدفاع عن العقل، فمنهم من صُلبَ ومنهم من أُحرق بالنار ومنهم من قطفوا رأسه بالسيف، كما قال الحجاج بن يوسف: إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها. وعل عكس باب الاجتهاد الذي أُغلق، ظل باب الشهادة مفتوحاً لمن أراد أن يدافع عن عقله، فولج منه مفكرون شهداء من أمثال فرج فودة ومحمود محمد طه.
وتفرّد الإسلام دون الأديان السماوية الأخرى باحتضان فكرة الجهاد في سبيل الله، رغم أن الله قادرٌ أن يجاهد عن سبيله بنفسه إن أراد. والجهاد في سبيل الله ليس بالضرورة أن يكون بالسيف، وإنما يمكن أن يكون بالنهي عن المنكر. والفكرة في حد ذاتها جميلة، غير أن وعاظ السلاطين جعلوا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سيفاً جديداً أضافوه إلى ترسانة رباط الخيل والسيف القديم، وجاؤوا بحديث عن الرسول يقول: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ". وطبعاً ليس هناك أي مؤمن يحب أن يكون إيمانه ضعيفاً، فلجأ كل مؤمن إلى يده وسيفه ليغّير ما يراه منكراً، حتى وإن لم يكن منكراً في نظر الآخرين. فمنذ بداية الإسلام اعتبر النبي محمد، ومن بعده أصحابه، أن نقد النبي أو نقد الإسلام جرم يستحق القتل، ولو غيلةً. و قال الواقدي عن أشياخه: أن النبي e نهى عن القتال عند فتح مكة، و أمر بقتل ستة نفر وأربع نسوة: عكرمة بن أبي جهل، و[هَبَّار] بن الأسود، وابن أبي سرح، ومقيس بن صبابة، و الحويرث بن نقيد، وابن خطل...... وكل ذنب هؤلاء النسوة والرجال أنهم هجوا النبي في أشعارهم.
والانقياد الأعمى وراء العقيدة قد يجعل الإنسان يتنكر لقواعد السلوك البشري السوي، فقد روى جرير عن المغيرة عن الشعبي قال: " كان رجل من المسلمين ـ أعمى ـ يَأْوِي إلى امرأة يهودية، فكانت تُطْعِمه وتحسن إليه، فكانت لا تزال تشتم النبي e وتؤذيه، فلما كان ليلة من الليالي خَنَقَها فماتت، [فلما] أصبح ذُكِر ذلك للنبي e، فنشد الناس في أمرها، فقام الأعمى فذكر له أمرها، فأبطل رسول الله e دمها." فهذا الرجل الأعمى لم يجد من يعطف عليه ويؤويه غير هذه المرأة اليهودية، فقتلها لأنها، كما زعم، شتمت النبي. فأسقط النبي دمها رغم أن هذا الرجل لم يكن له شهود ولا يعلم أحد إن كانت المرأة فعلاً قد شتمت النبي أو حاول هو اغتصابها وماتت أثناء الاغتصاب.
وإذا غاب العقل تصبح الحقائق وهماً. فالمعروف في التاريخ الإسلامي أن الرسول أمر بقتل اليهودي ابن الأشرف لأنه هجاه، وقد قُتل ابن الأشرف غيلة في داره، ولم يُنكر أحد هذه الحقيقة. ولكن محمد بن مسلمة كان مؤمناً لا تأخذه في الله لومة لائم، فذهب يوماً يزور معاوية بن سفيان وكان عنده يامين، الذي كان يهودياً فأسلم، وجاء ذكر ابن الأشرف، فقال يامين إنه قُتل غدراً، فلم يعترض معاوية لعلمه أنها حقيقة. وأخذت الغيرة محمد بن سلمة فقال لمعاوية: " يا معاوية أَيُغَدَّرُ عندك رسول الله e ثم لا تنكر؟ والله لا يُظِلُّني وإياك سقف بيت أبداً، ولا يخلو لي دم هذا إلا قتلته. " (رواه ابن وهب عن سفيان).
وكان الخليفة عمر بن الخطاب لا يتردد في استعمال سيفه في النهي عن المنكر. ويحكى أن رجلين اختصما في أمر ما وذهبا إلى الرسول ليحكم بينهما، ففعل. غير أن الذي حُكم عليه لم يقبل الحكم وقال لصاحبه: هيا بنا إلى عمر بن الخطاب، لعلمه أن عمر كان عادلاً. وعندما علم عمر أن النبي كان قد حكم بينهما ولم يقبل أحدهما الحكم، ما كان منه إلا أن دخل إلى بيته ورجع شاهراً سيفه فدق عنق الذي لم يقبل حكم النبي، لأنه اعتبر رفض الحكم طعناً في الرسول، والرسول بالنسبة لهم معصوم لا يخطئ، رغم أن القرآن يقول: " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ " (الكهف 110). والبشر لا بد أن يخطئ.
واتخذ فقهاء الإسلام من هذه السوابق دليلاً على أن الذي ينتقد أو يشتم الرسول أو ينتقد الإسلام يكون مرتداً يجب قتله، ويكون قتله جهاداً في سبيل الله يقوم به أي مسلم مؤمن، ويُجازى عليه بالجنة. وقد ألف الشيخ أحمد بن عبد الحليم بن تيمية كتاباً من مجلدين أسماه " الصارم المسلول على شاتم الرسول " ادعى فيه أن أهل الذمة يجب أن نعاملهم بالذل والاصغار، والواجب عليهم أن يقبلوا هذا الذل، فإن شتموا الرسول أو انتقدوا الدين الإسلامي فإن هذا يعني أنهم لم يقبلوا الذل والإصغار، فقال: " كان الصَّغَارُ حالاًّ لهم في جميع المُدَّة فمن المعلوم أن من أظهَرَ سَبَّ نبينا في وجوهنا وشَتَمَ ربَّنَا على رؤوسِ المَلأ منَّا وطَعَنَ في ديننا في مجامِعنا فليس بصاغرٍ؛ لأنَّ الصَّاغِرَ الذليلُ الحقيرُ، وهذا فعلُ متعزِّزٍ مُرَاغِم، بل هذا غايةُ ما يكونُ من الإذلالِ له والإهانةِ. ولا يخفى على المتأمِّل أنَّ إظهارَ السبِّ والشتم لدينِ الأمةِ الذي به اكتسبت شَرَف الدنيا والآخرة ليس فعلَ راضٍ بالذلِّ والهوانِ، وهذا ظاهرٌ لا خفاء به. " وعلى هذا الأساس أفتى ابن تيمية أن عقاب الذمي القتل. وإذا طعن مسلم أو ذمي في الدين، وجب إباحة دمه. ويتضح هذا من مقولة ابن تيمية : " وأما مَن طعن في الدين فأنه يتعيّنُ قتاله، وهذه كانت سنةُ رسول الله؛ فإنه كان يْندِرُ دماء من آذى الله ورسوله وطعن في الدين وإن أمْسَكَ عن غيره ".
ولا يشترط فقهاء الإسلام على المؤمنين سماع الطعن في الدين أو شتم الرسول بأنفسهم، بل يكفي أن يسمع أحدهم أن شخصاً ما قد طعن في الدين، فيحق له قتله. فقد روى عبدالرحمن بن عوف قال: " إني لواقفٌ في الصفِّ يوم بدرٍ، فنظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثةٍ أسنانُهما، فَتَمَنَّيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما، فقال: أي عم، هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، فما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أُخبرت أنه يسبُّ رسول الله e، والذي نفسي بيده لئن رايته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت العجل مِنّا، قال: فتعجبتُ لذلك، قال: وغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرتُ إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه، قال: فابتدراه بسيفيهما، فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله ". وهذا ما حدث عندما قتل أحد المصريين المفكر فرج فودة واعترف في المحكمة أنه لم يقرأ كتاب القتيل إنما سمع أنه يهاجم الإسلام.
وعندما يتمكن الإيمان من قلب المؤمن ويتحكم في عقله، يصبح المؤمن أداة قتل طائعة في أيدي شيوخ الفتاوى الذين يرددون عليه الآية: " لا تجدُ قوماً يُؤمنونَ بِاللهِ واليوْمِ الآخرِ يُوآدُّونَ منَ حآدَّ اللهَ وَرَسُولَه". ويقول الفقهاء أصحاب الفتاوى إن سبب نزولها أن أبا قحافة، والد أبي بكر الصديق، شتم الرسول فأراد أبو بكر أن يقتله، وكذلك أن عبد الله بن أبي بن أبي سلول شتم الرسول فاستأذن ابنه الرسول في أن يقتله ( الصارم المسلول على شاتم الرسول .) فلا بد أن الشخص الذي يود أن يقتل أباه يكون قد تخلى عن عقله، ولو مؤقتاً.
والشاب المغربي الذي طعن ثيو فان كوخ ثم أطلق عليه الرصاص وهرب من مكان الجريمة، مثله مثل أي جبان يختبئ وراء العقيدة، قد هاجر من بلده الأم إلى هولندا ربما للاستمتاع بأجواء الحرية والضمان الاجتماعي الذين لا يتوفران في المغرب. لكن المشكلة أنه لم يكن مهيئاً ذهنياً للعيش في هولندا في القرن الحادي والعشرين إذ لم يزل ما تبقى من عقله عائشاً في القرن السابع الميلادي يجتر الحديث المزعوم "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ". ففي كل البلاد المتحضرة يستعمل الناس اليد للمصافحة، وإن راؤوا منكراً أبلغوا الشرطة به، وأبلغت الشرطة المحاكم المختصة للتأكد من جرم المتهم ومن ثم معاقبته بالقانون السائد. والغريب أن القرآن يقول: " يا أيها الذين أمنوا إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ". وأنا لا يخامرني أي شك أن القاتل لم يتفرج على الفيلم الذي اتقد فيه ثيو فان كوخ الإسلام وإنما سمع أن الفيلم يسئ للإسلام. وعليه قتل المخرج، فيكون ثيو فان كوخ أُصيب بجهالة فأصبح شهيداً يلحق بركب من سبقوه من شهداء العقل.

مقالات ذات صلة:

مازن الراوي
حرية الاختلاف ثمنه طلقة!

تهديد هولندا أم تهديد الجالية الإسلامية

جاسم المطير
عن مقتل ثيو فان كوخ

مايك كولت وايت
قلق بين كتاب ينتقدون الاسلام