قبل أيام لم يتحمل مواطن مسلم من المغرب فيلم ثيو فان كوخ الذي يتعرض للقيم الإسلامية، فيخزن غضبه وينوي إنقاذ المسلمين منه. يركب دراجته، يرصده، ويصادفه نازلاً من سيارته فيطعنه ثمّ يطلق عليه النار. وهكذا يريح المسلم ضميره، ويريح ضمير الإسلام. ولأنه مصاب بعمى التلقين، لايعرف ماالذي سوف يأتي من بعد. تحتشد الآلاف في امستردام ناثرة الورود، شاعلة الشموع، مستنكرة اغتيال الرأي. ويكسب اليمين المتطرف في هولندا، بهذا الإغتيال، جولة اخرى في تعبئة الرأي العام ضد الأجانب وخاصة العرب والمسلمين. "هؤلاء الذين يتلقون المساعدات الإجتماعية، والذين يرفلون بالكسل ثم يقتلوننا"

ولأن لكل فعل رد فعل، جاءت ردة الفعل هذه المرة بتفجير قنبلة، على الأرجح من قبل اليمين المتطرف، استهدفت مدرسة ابتدائية اسلامية في ايدنهوفن. وربما هي مجرد تحذير لم يقصد به الحاق ضرر فادح بالأطفال هذه المرة. ولكن القنبلة زرعت الخوف بالتأكيد في نفوس الصغار وفي نفوس أهاليهم. واستمر مسلسل التخويف والرعب عندما نشر في 9 نوفمبر بيان على موقع إسلامي يهدد فيه، على نحو عنتري، الحكومة والشعب الهولندي بدفع الثمن. وقال البيان "قسماً اننا سنجعل الحكومةالهولندية والشعب الهولندي يدفعان الثمن غاليا.."
والبيان في محتواه وفي خلاصته بيان ساذج غير منطقي، وهو بمثابة اعلان حرب على الشعب برمته وعلى الحكومة الهولندية بغض النظر عن المواقف التاريخية للشعب الهولندي الذي دافع باكثريته وما زال يدافع عن المهاجرين اليها، وهو شعب سمح دافع و يدافع عن التعدد الثقافي. وكذلك الحكومات الهولندية المتعاقبة التي قدمت الكثير ومازالت للجالية العربية والإسلامية.

ولكن البيان في تهديده ووعيده لا يقرأ الواقع ولا يريد أن يقر به، و ينطلق من موقع إعلان الحرب داخل أزمة لها جذورها ومسبباتها. وأعتقد بأن مثل هذه البيانات هي التي ستؤزم الوضع وتمهد الأرضية لصعود اليمين المتطرف، وبالتالي تضر بمستقبل الجالة العربية والإسلامية من حيث تريد الدفاع عنها بقوة التهديد وبزرع الإرهاب.

منذ عقود يتقاطر العرب والمسلمون إلى هولندا، مثلما هم يتقاطرون إلى بلدان أوربية عديدة مثل المانيا والسويد والدانيمارك وبلجيكا والنرويح وغيرها من البلدان "الرحيمة" حتى بلغ عددهم الملايين. الملايين في هذه البلدان ضاقت بهم أوطانهم فهجروها، سواء أكانوا مهاحرين لأسباب اقتصادية، أو ملاحقين وهاربين من جراء العسف والإرهاب في بلدانهم.

وفي هذه الهجرة الطوعية توفر لهم بلدان اللجوء حياتاً كريمة على أقل تقدير. فهم يحوزون على المساعدات الاجتماعية، أي تصرف لهم المال الذي يحتاجونه لإدامة حياتهم واحتياجاتهم، فضلا عن أجور مساكنهم وأجور علاجهم وأطفالهم. والحقيقة ان أفواجاً من المهاجرين تقصد البلدان آنفة الذكر بسبب هذه الإمتيازات، وبسبب امكانية توفر فرص العمل والدراسة لهم فيها. ولا يقتصر الأمر على الرفاهية النسبية لهم فقط، بل أن هؤلاء يرفدون ويساعدون عوائلهم في بلدانهم الأصلية التي وفدوا منها. وبهذا فإن حياة ملايين العوائل ترتبط بهم على هذا النحو أو ذاك.

وبمستطاع الجاليات العربية والإسلامية، في بلدان الهجرة، أن تمارس عاداتها وتقاليدها وتقوم بتطبيق شعائرها الدينية دون أن تمنعها علمانية الدولة أو دين الأكثرية المسيحي. فهم جزء من المجتمع الذي يعيشون فيه. وإذا ما بدر بعض التعارضات فهو بسبب الإختلاف الثقافي. ولكن ثمة دائما دعاةٌ وبرامج ومؤسسات تناضل بدأب وعناد لتشكل رأياً عاماً يتقبل الإختلاف ويتعايش في مجتمع يغتني بثقافات متعددة. وفي هولندا بخاصة يمثل التعايش بين الشعوب الوافدة إليها سمة المجتمع الهولندي.

لقد أثقلت كاهل الكثير من البلدان الأوربية، التي تضم أعداداً كثيرة من المهاجرين واللاجئين، الأزمة الإقتصادية التي عصفت بها بعد العملية الإرهابية في 11 سبتمبر. ومعظم هذه البلدان تسجل أرقاما قياسية في عدد العاطلين، وتبلغ مديونية الدولة ارقاما قياسية، بالإضافة الى سقوط الإقتصاد في مرحلة الكساد. وبسبب من البطالة و تدني مستوى المعيشة
يجري نقد لاذع للحكومات التي تقدم اموالا طائلة للمساعدات الإجتماعية لللاجئين ولمعظم المهاجرين. هذا بالإضافة الى التصاق تهمة الإرهاب بالعرب وبالمسلمين مما دفع المجتمع الأوربي الى الخوف وإلى اعتبار هؤلاء عنصر لا استقرار و" خلايا نائمة " تستيقظ للإرهاب. وقد عززت هذه المخاوف عمليات ارهابية فعلية وتهديدات بإشعال جهنم تحت أقدام امريكا والأوربيين. في هذا الجو أخذ اليمين المتطرف، كرد فعل لجو الإرهاب وتمخضاته، يكتسب تعاطفاً في المجتمع. وكلما زاد الإرهاب والتهديد بالإرهاب وكشف الخلايا الإرهابية كلما نشط اليمين المتطرف وتغلغل في نسيج المجتمع الأوربي.

إن الساعة في المرحلة الراهنة أخذت تدق بما هو في غير صالح الجالية العربية والإسلامية في البلدان الآوربية. لا جدل يصمد أمام التبرير بأن الإرهابين أعداد صغيرة ومعزولة. ولا يجدي الكثير إدانتم من قبل الجالية. فالأوربي الذي يستضيف الجالية بالملايين ويهيء لهم اسباب الحياة اللائقة بالبشر لا يريد أن يكافأ بالقتل ويعيش تحت تهديد الإرهاب.

إن ممارسة الإرهاب، مهما كانت الذرائع، ضد المجتمعات الغربية تنطلق في الواقع من سذاجة سياسية ومن عمى ايديولوجي لا تفيد المسلمين. بل هي تعبيء ضد الإسلام في عالم غير متكافئ النمو بحاجة الى التفاعل والى التضامن، لا الى عزلة الضعيف الذي مكث ضعيفاً لحقبة طويلة، غير قادر على اعالة نفسه وتسيير ذاته على نحو خليق بالرفاه وبحياة ترفل بالحرية..

إن العمليات الإرهابية والتهديد بها، كما يريد الأصوليون الأسلاميون، لا يؤدي قطعاً إلى هدم المجتمعات الغربية كما لا يعني الإنتصارعليها، كما لا يؤكد علىالإنتصار الأيديولوجي الإسلامي أو القومي العربي على من هم ليسوا عرباً ومسلمين. وأعتقد بأن حماقة وضيق الأفق ونار الكراهية العمياء هي المحفز والمحرك لكل هذه المعظلة والمحنة التي تلف المجتمع الآوربي والجالية العربية والإسلامية معاً.

ولكن هذه المحنة في نظر العقل الأوربي ينبغي أن تصار إلى الحل. والحل في العقل الأوربي وضمن قوانينه هو المزيد من الإجراءات للحفاض على أمن وسلامة المواطنين. وهذا يعني بالتالي المزيد من تقييد حرية وامتيارات الجالية العربية والإسلامية، وربما اتخاذ اجراءات طرد جماعية بموجب قوانين يمكن سنها.

ولكن في معادلة الإرهاب الذي لا يخدش إلا سطح الجلد الأوربي، من الذي سيتضرر؟ أعتقد أن الجالية الوافدة هي التي ستتضرر. وقد تضررت فعلاً؟. وبالتالي ستتضرر مئات الآلاف من العوائل التي تعيش على صدقات أبنائها وأهلها في المهجر. بينما يزداد في كل يوم التمييز والاضطهاد ضدهم من جراء عمليات إرهابية خرقاء لا هدف لها إلا الحقد الأعمى.

مقالات ذات صلة:

مازن الراوي
حرية الاختلاف ثمنه طلقة!

د. كامل النجار
الشهيد ثيو فان كوخ

جاسم المطير
عن مقتل ثيو فان كوخ

مايك كولت وايت
قلق بين كتاب ينتقدون الاسلام