لا شك أن البابا يوحنا بولس الثاني كان رجلاً فريداً في نوعية رجالات الأديان السماوية الذين عرفناهم حتى الآن. كان هذا الرجل داعيةً للسلام والمؤاخاة بين الناس على مختلف مشاربهم وآرائهم، لا يفرّق بين مسلم ومسيحي. وكان من نتائج هذا السلوك احترام الناس في كل القارات لهذا الرجل الداعي للسلام، وظهر هذا جلياً في تشييع جنازته التي حضرها الأمين العام للأمم المتحدة والملوك والرؤساء والساسة ورجالات الدين من جميع أنحاء العالم. ولم يحدث في التاريخ أن اجتمع مثل هذا العدد من الناس على احترام رجلِ دينٍ أو حتى رجلِ دولة. ومن بين الملايين الذين حضروا الجنازة في الفاتيكان والبلايين الذين شاهدوها على شاشات التلفاز، لفت انتباهي حضور بعض العمائم والعقالات العربية الإسلامية بين المشيعين. والغرابة ليست في العمائم ذاتها وإنما في ما تمثله تلك العمائم.
ويظهر التناقض جلياً بين البابا وما تمثله تلك العمائم في أن البابا كان يدعو للتقارب بين الأديان والمذاهب المختلفة، ورغم أن المسيحية، مثلها مثل الإسلام، قد تفرقت إلى عدة كنائس ومذاهب ساد بينها الشقاق والخلاف، إلا أن جنازة البابا جمعت أشتاتهم، كما حاول هو جمعهم في حياته، فحضر جنازته عدد كبير من مسؤولي الكنيسة الأورثوذكسية وترأس البطريرك المسكوني بارتلميوس الأول، بطريرك الإسكندرية، وفدا من الطائفة الاورثوذكسية، فيما أوفد بطريرك موسكو للروم الاورثوذكس ممثلا عنه رئيس قسم العلاقات الدولية في البطريركية المتروبوليت كيريلس. وأوفدت الكنيسة الارثوذكسية اليونانية وفدا برئاسة بطريرك أثينا وكل اليونان، كريستودولوس. كما كان هناك ممثلون من الكنائس الاورثوذكسية الأوكرانية والجورجية والصربية والرومانية والفنلندية والبلغارية والتشيكية والسلوفاكية والقبرصية والبولندية والألبانية والأميركية.
وشارك عدد كبير من ممثلي الكنائس الشرقية غير المرتبطة بسلطة الفاتيكان وبينها بطريرك الكنيسة الأرمنية الاورثوذكسية كراكين الثاني وممثل عن الكنيسة القبطية المصرية، ومثل الأنغليكان أسقف كانتربري روان وليامس، ومثل المجلس المسكوني للكنائس (الذي يتخذ من جنيف مقرا له ويضم الاورثوذكس والانغليكان والبروتستانت) أمينه العام القس سامويل كوبيا. ( الشرق الأوسط 9 أبريل 2005). ورغم الخلاف الأزلي بين الكنيسة الشرقة الأورثوذكسية والكنيسة الكاثوليكية الذي يرجع إلى أيام مؤتمر نيقا في عام 324 ميلادية، إلا أن البابا قد حاول تقريب الكنائس من بعضها البعض، فردوا الجميل بأن حضروا جنازته. وحتى اليهود الذين خذلتهم الكنيسة في أيام محنتهم في ألمانيا ورفضت الاعتذار لهم، واعتذر لهم البابا يوحنا بولس الثاني، أرسلوا وفودهم للتعزية، وكان بين أعضاء الوفد اليهودي الكبير، رئيس المؤتمر اليهودي العالمي إسرائيل سينغر وحاخام روما ريكاردو دي سينيي وسلفه اليو تواف الذي استقبل البابا في كنيس في 1986. ومثل الطائفة اليهودية الفرنسية رئيس المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا روجيه كوكرمان. وحضر كذلك رئيس دولة إسرائيل موشي كاستاف.
وعلى العكس تماماً من البابا يوحنا بولس الثاني نجد رجالات الدين الإسلامي يسعون للتفرقة، فيكفرون كلَ من خالفهم الرأي، فيكفر ابن تيمية وغيره الشيعة ويبيحوا قتلهم، ويرد الشيعة المعروف بأحسن منه. ويكفّر الاثنان المتصوفين والشيوعيين والعلمانيين ويخرجانهم من حظيرة الإسلام، كأنما الإسلام ملكٌ لهما فقط. ولا يجتمع الاثنان إلا على تكفير هؤلاء وعلى وجوب عدم موالاة الكفار الذين يمثلون 85% من سكان العالم اليوم.
وعلى عكس تسامح البابا كان تزمت رجالات الإسلام ضد موالاة الكفار لدرجة أن ابن تيمية قال إذا أضُطر المسلم إلى الإقامة في دار الحرب لتجارة أو لعلاج وجب عليه إضمار الكراهية لهم في قلبه. وألف ابن القيم كتابا كاملاً تفوق صفحاته ثلاثمائة عن " أحكام أهل الذمة " يذكر فيه: " سئل ابن عباس عن أمصار العرب أو دار العرب هل للعجم أن يحدثوا فيها شيئا فقال أيما مصر مصرته العرب لا يحق لهم فيه إظهار دينهم، قال وسمعت أبي يقول ليس لليهود والنصارى أن يحدثوا في مصر مصره المسلمون بيعة ولا كنيسة ولا يضربوا فيه بناقوس إلا فيما كان لهم صلحا وليس لهم أن يظهروا الخمر في أمصار المسلمين على حديث ابن عباس أيما مصر مصره المسلمون. أخبرنا حمزة بن القاسم وعبدالله بن حنبل وعصمة قالوا حدثنا حنبل قال أبو عبدالله وإذا كانت الكنائس صلحا تُركوا على ما صُولحوا عليه فأما العنوة فلا وليس لهم أن يحدثوا بيعة ولا كنيسة لم تكن ولا يضربوا ناقوسا ولا يرفعوا صليبا ولا يظهروا خنزيرا ولا يرفعوا نارا ولا شيئا مما يجوز لهم فعله في دينهم، يمنعون من ذلك ولا يتركون . قلت: للمسلمين أن يمنعوهم من ذلك؟ قال نعم على الإمام منعهم من ذلك، السلطان يمنعهم من الإحداث إذا كانت بلادهم فتحت عنوة . " ويشدد رجالات الدين على الآيات القرآنية التي تمنع موالاة غير المسلمين، مثل " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ( المائدة 51). وكانت النتيجة الحتمية لهذا التزمت انتشار الإرهاب في العالم الحديث على أيدي شباب المسلمين مما اضطر الحكومة الإيطالية إلى استنفار كل الجهات التي يمكن أن تساعد بما في ذلك الشرطة والدرك وسلاح البر وسلاح الجو وأجهزة الاستخبارات ورجال الإطفاء وحلف الأطلسي والدفاع المدني وعمال البلدية. وقالت بلدية روما إن أكثر من 20 ألف عامل سيساعدون في هذه التدابير بالإضافة إلى 10 آلاف متطوع في الدفاع المدني. هذا وسيتم نشر حوالي ألف قناص على الأسطح الاستراتيجية في العاصمة في ما أعد المسؤولون الإيطاليون تدابير عسكرية دفاعية. فقد نشرت بطاريات مضادة للصواريخ في محيط العاصمة. كما ترابط قبالة سواحل روما سفينة مجهزة ببطاريات مماثلة. وقدم حلف الأطلسي طائرة رادار من طراز إيواكس بينما ستقوم ثماني طائرات بدوريات مستمرة في سماء العاصمة على أن تزودها طائرة بوينغ 707 بالوقود. ( إيلاف عدد 8 أبريل 2005). كل هذه الاحتياطات لحماية جنازة رجل كان يدعو للسلام من الإرهاب الذي يقوم به الشباب المسلم في الغرب، رغم أن الجنازة قد حضرها الرئيس الإيراني محمد خاتمي والرئيس السوري حافظ الأسد والملك عبد الله الثاني كما شارك أيضا في الجنازة عدد من علماء الدين المسلمين الإيطاليين والبريطانيين والروس والأميركيين. وأوفد كل من جامع الأزهر في القاهرة والمنتدى الإسلامي الدولي للحوار في السعودية ممثلا عنهما ( الشرق الأوسط عدد 9 أبريل 2005).
وهذا الحضور من الأزهر والمنتدى الإسلامي يُظهر التناقض الذي يعيشه رجال الدين المسلمون، ففي الأزهر يُدرّسون الطلبة كُتب ابن تيمية وابن القيم الذي يقول في فصل حكم حضور أعياد أهل الكتاب: " وكما أنهم لا يجوز لهم إظهاره ( يقصد عيدهم) فلا يجوز للمسلمين ممالاتهم عليه ولا مساعدتهم ولا الحضور معهم باتفاق أهل العلم الذين هم أهله .وقد صرح به الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة في كتبهم فقال أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري الفقيه الشافعي ولا يجوز للمسلمين أن يحضروا أعيادهم لأنهم على منكر وزور وإذا خالط أهل المعروف أهل المنكر بغير الإنكار عليهم كانوا كالراضين به المؤثرين له فنخشى من نزول سخط الله على جماعتهم فيعم الجميع نعوذ بالله من سخطه. " ( أحكام أهل الذمة ).
ولا يكتفي فقهاء الأزهر بكراهية حضور أعياد الكفار، فيدرّسون طلبتهم آداب الجنائز التي تقول: " ولا يخفى أن الكلام في موتى المسلمين أما أهل الذمة فإنهم لا يُمّكنون من إخراج جنائزهم نهارا وعلى الإمام منعهم من ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الجزية . "( مغني المحتاج للخطيب الشربيني، كتاب الجنائز، الباب الأول: مسائل منثورة ). ولا يكفي هذا، فيستمرون: " ولا بأس باتباع المسلم ( بتشديد المثناة ) جنازة قريبه الكافر لأنه عليه الصلاة والسلام أمر عليا رضي الله تعالى عنه أن يواري أبا طالب كما رواه أبو داود. قال الإسنوي كذا استدل به المصنف وغيره وليس فيه دليل على مطلق القرابة لأن عليا كان يجب عليه ذلك كما يجب عليه القيام بمؤنته في حال الحياة . وقد يفهم من كلام المصنف تحريم اتباع المسلم جنازة الكافر غير القريب وبه صرح الشاشي." ( نفس المصدر).
وعليه يكون حضور الأزهر والمنتدى الإسلامي أما رياءً للناس لأنهم يخشونهم، وفي هذه الحالة نقول لهم: " أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين " ( التوبة 9). وأما أن يكون حضورهم بدافع التوبة الصادقة عن معاداة غير المسلم تيمناً بالبابا يوحنا بولس الثاني الذي زار المساجد والكنائس والمعابد اليهودية وحتى الدول الشيوعية مثل كوبا التي زارها في العام 1998، وقال عنه زعيمها فيدل كاسترو : " إنه صديق لا ينسى و مجاهد لا يتعب من اجل الفقراء " . و أعلنت كوبا الحداد الرسمي لثلاثة أيام وتعليق جميع الأنشطة الاحتفالية والرياضية خلال هذه الفترة. ( إيلاف عدد 8 أبريل 2005). فإذا كان الخيار الثاني هو دافعهم لحضور الجنازة رغم كراهية ذلك في الإسلام، فعليهم أن يتحلوا بالشجاعة الكافية ويتبرأوا من المفاهيم المعادية للغير على ساس أن تاريخ صلاحيتها قد مضى ولا يتوجب على المسلمين الآن معاداة غير المسلمين ولا جهادهم، بل يدعونهم بالتي هي أحسن إلى اعتناق الإسلام.