حوار موسع مع أستاذ الأدب العربي في جامعة حيفا رؤوبين سنير

حاورته لإيلاف كاتارينا لاك: رؤوبين سنير أستاذ الأدب العربي في جامعة حيفا ويقيم حاليا في مدينة برلين في ألمانيا حيث يقوم بمشروع بحث عن أدب اليهود العرب تلبيةً لدعوة من معهد العلوم المتقدمة ببرلين (Wissenschaftskolleg zu Berlin ). رؤوبين سنير من أبوين عراقيين، وولد في حيفا عام ١٩٥٣. أصدر عدة كتب في النقد الأدبي منها ركعتان في العشق: دراسة في شعر عبد الوهاب البياتي صدرت عن "دار الساقي" (٢٠٠٢) كان البياتي يحلم أن يراها كتابا بعد أن قرأها مقالات متفرقة. لرؤوبين سنير عشرات المقالات النقدية في كبريات المجلات الأدبية العالمية، من بينها دراسة قيمة لقصيدة أدونيس "مرثية الحلاج" ألح أدونيس أن تترجم من الانجليزية إلى الفرنسية وأن تنشر في الكتالوغ الخاص بمناسبة معرض عنه في معهد العالم العربي في باريس عام ٢٠٠٠. كما قام الأستاذ سنير بترجمة عشرات القصائد من العربية إلى العبرية وبالعكس. أنجز لإيلاف أنطولوجيا مختارة من الشعر الإسرائيلي المعاصر وتم نشرها في "إيلاف" بتاريخ ٢٧ شباط ٢٠٠٤. التقيناه في حوار طويل هنا الجزء الأول منه:


*أثناء مدة طويلة بدا كأن اليهود من أصل عربي في إسرائيل قد تم إدماجهم في الحكاية الوطنية الصهيونية المسيطرة ولكن شهدنا في السنوات الأخيرة العديد من الدراسات العلمية والإنتاجات الفنية التي تقدّم تحديا للمفهوم الكلاسيكي للهوية الإسرائيلية الصهيونية وتسعى إلى الاعتراف بتجربة "اليهود العرب" كتجربة تاريخية أخرى وإشكالية هوية خاصة. فنستطيع أن نذكر الفيلم التسجيلي "اِنْسَ بغداد" للمخرج السويسري العراقي سمير عبد الرحمن الذي يقص حياة بعض الأدباء اليهود العراقيين ولدوا في بغداد وهاجروا إلى إسرائيل حيث واجهوا شَتَّى المشاكل. فلنبدأ بمصطلح "اليهود العرب" وبأهمية المناقشة العلمية الحاضرة حول اليهود العرب.

-أعتقد أن مصطلح "اليهود العرب" معقد وإشكالي بعض الشيء. أود أن أشرح هذا بواسطة بعض الأمثلة التي تبدو لي نمطية ودالة جدا: ذكرت وسائل الإعلام الإسرائيلية في الآونة الأخيرة أنه تم تشكيل فرقة موسيقية "يهودية-عربية" برعاية "يونيسكو" (منظمة الأمم المتحدة للعلم والثقافة). أعضاء هذه الفرقة الموسيقية هم شبان إسرائيليون من اليهود والمسلمين والمسيحيين، ويقودها الموسيقيان رونين شابيرا ووسام جبران. بالطبع هدف هذا المشروع هو تشجيع الشبان على التعايش السلمي من خلال الموسيقى. في هذا السياق معنى مصطلح "يهودي-عربي" أو "عربي-يهودي" هو جمع أناس من طرفي الصراع العربي الإسرائيلي لكي يتعلموا معًا التعايش السلمي وليمارسوه. ولكن قبل ٧٠ سنة تقريبا كان لهذا المصطلح معنى آخر تماما. على سبيل المثال عام ١٩٣٢ عقد في القاهرة المؤتمر الأول للموسيقى العربية ومثلت العراق في هذا المؤتمر فرقة موسيقية كانت مؤلفة من سبعة أعضاء، جميعهم عرب. كان اسم المطرب محمد القبانجي وأما الآخرون فهم يهودا شمّاش، خضوري شمّا، يوسف زعرور، عزرا هارون، صالح شميل ويوسف حوجي بتاو. حصل لي أن رويت هذه القصة أمام جمهور إسرائيلي أغلبيته من الإشكناز أي اليهود الأوربيين فعاتبني بعض الحضور قائلين "كيف تقول إن جميع أعضاء الفرقة من العرب – ألم نسمع أسماءً يهودية؟! يهودا وعزرا وهارون؟" وقلت لهم: " نعم! ستة أعضاء كانوا من اليهود ولكنهم في نفس الوقت كانوا عربا أيضا، إلى جانب مسلم واحد وهو محمد القبانجي." هذا يعني أنه خلال السبعين سنة الأخيرة تحولت دلالة مصطلح "عربي-يهودي" من هوية مقبولة ومنتشرة في الشرق الأوسط إلى مصطلح يشمل مفارقة إلا إذا قصدنا به طرفي الصراع العربي اليهودي. وسبب ذلك أن الهوية اليهودية الآن ليست دينا فقط بل هوية قومية ووطنية أيضا.
سأعطيك مثالا آخر من مجال الأدب: دعيني أقتبس مقطعا من نص لشاعر يهودي لا يجيد العربية بالرغم من كونه ينتمي إلى عائلة مغربية الأصل. اسم الشاعر سامي شالوم سيتريت وعنوان القصيدة "من هو يهودي وأي نوع من اليهودي؟" في حديث بين المتكلم في القصيدة وصديقة أمريكية تسأله ما إذا كان يهوديا أم عربيا. فأجابها: "أنا يهودي عربي." فاندهشت: "لم أسمع عن هذا أبدا!" ويحاول المتكلم أن يقنعها أننا نستطيع أن نتصور وجود هوية يهودية عربية مثل وجود الهوية اليهودية لأمريكية أو الألمانية. هكذا يتطور الحوار بينهما:

- لا تستطيع أن تقوم بهذه المقارنة؛ إن اليهودي الأوربي شيء آخر!
- لماذا؟
- لأن كلمة "يهودي" وكلمة "عربي" لا تتناسقان. هذا الجمع ليس ممكنا. إنه يبدو غريبا وناشزا لأذني.
- المشكلة إذاً هي مشكلة أذنيك!
- أنظر! ليس عندي أي مشكلة مع العرب. لدي حتى أصدقاء عرب. ولكن كيف تستطيع أن تتكلم عن "يهود عرب" في حين أن رغبة العرب الوحيدة هي إهلاك اليهود؟
- وكيف تستطيعين أن تتكلمي عن اليهودي الأوربي بعد أن تم إهلاك اليهود من قبل الأوربيين؟


وجدير بالذكر أن ما يسمّى hybrid identityأي هوية مزدوجة عربية-يهودية كادت تختفي من الدراسات العلمية والخطاب الثقافي خلال القرن العشرين قد عادت في السنوات الأخيرة وهي ممتزجة بنظريات ما بعد الحداثة post-modernism التي تركز على الأنواع المختلفة لما يسمى بسياسة الهوية.

ولكن للأسف الشديد مصطلح "يهودي-عربي" في أغلب الأحيان ليس إلا مصطلحا علميا أو نظرية يستخدمها دارسون أمريكان وأوربيون في المناقشات حول مستقبل إسرائيل في الشرق الأوسط واستوردها إلى إسرائيل نقاد وباحثون ينتمون إلى مذهب "ما بعد الصهيونية" post- Zionism. لمعظمهم ليست أي اهتمامات ثقافية وجميعهم تقريبا لا يجيدون العربية ولا ينوون أن يتعلموها.

* أود الآن أن أسألك عن تجربتك الشخصية: وُلدتَ في أسرة عراقية في إسرائيل. كيف كانت العلاقة بين الثقافة العراقية العربية في بيتك والثقافة الإسرائيلية العبرية؟ هل تستطيع أن تصف البيئة التي تربّيتَ فيها في سنوات الخمسينات؟
- بالفعل الثقافة المسيطرة كانت ثقافة عبرية صهيونية. كنا ندرس العبرية في المدرسة وندرس شعراء وكتّابًا كلهم "أشكيناز"، ليس واحد منهم من أصل عربي، على سبيل المثال حَايم نَحْمان بِيالِك وشاؤول تشيرنيكوفسكي. لم نعرف شيئاً عن الأدب العربي ولم يبذل أي جهد لتعريفنا عليه في تلك السنوات - الثقافة العربية كانت ثقافة مُعادية ولذلك كل شيء عربي كان يُعتَبَر بمثابة خطر يجب أن نقاومه. بالفعل عندما كان الوالد والوالدة يتكلمان إليّ بالعربي ولا مرة أجبت بالعربي. يعني أفهم العامّية العراقية، ولكن حتى الأن لديّ مشكلة التكلم بالعامية العراقية. كنت أجيب بالعبري دائما. بالطبع في الشارع كنت أصرّ على ألّا يتكلم الوالدان معي بالعربي. كنت أحاول أن أتجاهل وأخبئ الجذور العربية للعائلة وهذا كان نصيب جميع الأولاد في تلك الفترة المنحدرين من أصل عربي.

* الباحثة الإسرائيلية المقيمة في الولايات المتحدة، الّه شوحاط، تقول أنها كانت تشعر بنوع من الخجل عندما قارنت نفسها كشخص من خلفية عراقية عربية في البيت بالطلاب الآخرين الذين كانوا مُندمَجين في المجتمع الإسرائيلي بلا مشاكل، كما بدا.
- بالطبع كنا نعتبر أطفال الـ"أشكيناز" أطفالاً من طبقة أخرى راقية، نحن كنا من الطبقة الدُنيا، والمثل الأعلى في تلك الفترة كان أولئك الأطفال الذين تربوا في الـ"كيبوتسيم"، الـ"صَبْرا" الإسرائيلي الجميل الأشقر - وليس الأسود. وبالطبع كنا نحسدهم لأنهم لم يعانوا من مشكلة الجذور العربية المرفوضة في الثقافة الإسرائيلية. الجذور العربية بالنسبة لنا كانت تُعتبر وصمة عار كنا نريد أن ننفصل عنها. في تلك الفترة لم يترك أي مجال للثقافة العربية لتكون جزءا من الثقافة الإسرائيلية. اللغة العربية كانت تعتبر وما زالت من عدة نواح حتى الآن وسيلة لمعرفة العدو ليس إلا.

* كتقنية...
- كتقنية للتعرف على العدو في أجهزة الأمن المختلفة وفي الجيش. وليس كوسيلة للاستمتاع، كشيء له قِيَم جمالية. لذلك أغلبية اليهود العراقيين الذين كانوا يتقنون العربية الفصحى استخدمهم جهاز التعليم والجيش الإسرائيلي والأفرع المختلفة لأجهزة الأمن. كانت هذه ثروة بالنسبة للدولة اليهودية الجديدة. وأغلبية اليهود المهاجرين بالطبع وافقوا لأن الحالة الاقتصادية كانت صعبة للغاية و لذلك استطاع النظام في الدولة اليهودية الجديدة أن يفصل بين أغلبية القادمين الجدد وجذورهم بحيث أن اللغة أصبحت وسيلة لمعرفة العدو. وهذه كانت السياسة التعليمية إلى أواخر السبعينات وحتى بعد ذلك.

* ما كانت وجهة نظر والديك إزاء الثقافة العربية؟ أكانا يشجعانك على تعلم اللغة العبرية ومحو اللغة العربية من ذهنك؟
- محو اللعة العربية؟ بالطبع لا! كان اليهود العراقيون منغمسين في الثقافة العربية. فهي كانت لغتهم وثقافتهم: حتى أواخر أيامهما الوالد والوالدة كانا يستمعان إلى الأغاني العربية وكانا يستمتعان بها. لكنهما كانا يفهمان أنه في المجتمع الجديد يجب ان نعرف العبرية. بدون العبرية لا تستطيع أن تعيش وبالطبع كانا يشجعانني على معرفة العبرية. ولكن أعتقد أنهما كانا بعض الشيء حزينين أن الأولاد لم يقدّروا الثقافة العربية. أذكر أن والدي كان ينشد أمامي أبيات شعر عديدة لم يبق في ذاكرتي منها إلا بيت شعر واحد وتبين لي فيما بعد أنه منسوب للمعرّي مع أنه ليس موجودا في كتابات المعرّي، فقط عَجُز البيت موجود في "سقط الزند". البيت الذي كان والدي ينشده كان:

كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول

وأعتقد أن والدي من وراء هذا البيت كان يريد أن يقول إنك أنت كالعيس الظمأى في البيداء التي لا تعرف أن الماء موجود على ظهرها بحيث أنك أنت كولد يستنكف عن ثقافة والديه (كان والدي يستخدم كلمة "تستنكف")، أو تحاول أن تبتعد عن الثقافة العربية ولا تعرف أن ما يجب أن تفتّش عنه موجود بالقرب منك. لسوء الحظ فقط بعد وفاة الوالد ووفاة الوالدة اكتشفت أن ما قاله كان صحيحًا. لا أتهم الأولاد لأن الجهاز الحكومي جنّد كل الإمكانات لكي يهمّش الثقافة العربية ونجح. أنا دائما أقول إن الصهيونية حركة لها إنجازات عديدة. أولًا الإنجاز الكبير إقامة الدولة اليهودية؛ ثانيا من الممكن أن نقول إن الصهيونية استطاعت أن تفيق الفلسطينيين من سباتهم وتنشئ بوجه أو بآخر حركة وطنية فلسطينية؛ ولكن لها إنجاز كبير ثالث ومن الممكن أن يكون أكبر من هذين الأولين فاستطاعت الحركة الصهيونية أن تمحو بعد أكثر من ألف وخمسمئة عام الثقافة اليهودية العربية. ها نحن الآن نشهد نهاية هذه الثقافة بحيث بعد عشر سنوات أو عشرين سنة لن يكون هناك يهودي تكون لغته الأم العربية. على فكرة ليس هناك كاتب يهودي ولد بعد ١٩٤٨ ويؤلف بالعربية!

* عندما أستمع إلى هذه القصة أشعر بأنها كانت مفاجأة أن اكتشفت ثروة اللغة العربية والفائدة الكبيرة التي كان من الممكن أن تأخذ منها، فكيف ومتى اكتشفت هذه الثروة؟
- أعتقد أنني حتى بعد أن أكملت أطروحة الماجستير في بداية الثمانينات كنت ما زلت أعتقد أن العرب "أمة بائدة". "أمة بائدة" بمعنى أن العرب كانت لهم إنجازات عديدة في الماضي من الفترة ما قبل الإسلام حتى القرن الثالث عشر ولكن بعد ذلك حتى أيامنا العرب أمة لا قيمة لها ثقافيًا. هذا ما علّمونا، هذا ما أذكره في الجامعة العبرية في القدس: كان الأساتذة يحكمون على الثقافة العربية الحديثة بحيث لا قيمة للشعر العربي الحديث، القيمة الحقيقية لشعر المعلقات وأبي تمام والمتنبّي، ولذلك أدونيس مثلا اعتبر شيئا لا قيمة له، ولذلك عندما درست في اللقب الأول (الـ"BA") أغلبية ما درسته كان الحديث النبوي والقرآن والشعر العربي القديم. الأدب الحديث اعتبر شيئا لا قيمة له.


* ولكن أصبحت مهتما بصورة خاصة بالثقافة العربية المعاصرة واخترت موضوعا معاصرا لأطروحة الدكتوراه.
- هذا شيء متأخر. عندما درست الأدب العربي القديم شعرت بأن هناك شيئا غير صحيح في هذا الانهماك في الأدب القديم – وخصوصا في الحديث والتاريخ الإسلامي. لا قيمة لهذه الأشياء بالنسبة للحياة المعاصرة. لذلك حيثما كنت أدرس الأدب القديم دائما حاولت أن أجد طريقا إلى شيء له علاقة بالحياة المعاصرة ووجدت الأدب الصوفي. عندما كنت أقرأ الأدب الصوفي كنت أشعر بأنني أقرأ شيئا ليس مقيّدا بالزمن. لذلك أطروحة الماجستير التي قمت بها كانت عن مخطوطة قديمة للمعافى بن عِمران عنوانها "كتاب الزهد" من القرن الثامن الهجري. الزهد وقيمته شيء له بالطبع انعكاسات وأبعاد لكل شخص أينما وُجِد. عندما أردت أن أكتب دراسة الدكتوراه كان الأساس الأدب الصوفي القديم ولكن أردت أن أجد تأثير الأدب الصوفي القديم على الأدب الحديث. وهنا اكتشفت فجأةً الشعر الحديث. بسبب الانهماك بالأدب الصوفي انتقلت إلى تفتيش عناصر صوفية في الأدب الحديث وهنا بدأت محبّتي للشعر العربي الحديث وكانت مفاجأة كبيرة لأنني لم أفهم كيف لم أهتدِ لهذا الكنز قبل ذلك. قضيت تقريبا ست سنوات في الجامعة ولم أعرف أن هناك ثروة كبيرة في الأدب العربي الحديث وفقط في وسط الثمانينات بدأت أفهم أنه كان هناك محاولة في كل الأماكن لإعطاء الطلاب الشعور بأن العرب، كما قلت، "أمة بائدة" وعرفت في تلك الفترة أنه إذا أردت أن أعمل شيئا يجب أن أعمله بجهودي الذاتية لأني لن أتلقّى أي شيء من الأساتذة في الجامعة.

* هل يجذِبك التصوف أيضًا كشخص؟
- منذ فترة مبكِّرة في حياتي كنت أميل إلى النصوص الصوفية سواء إذا كانت بالعبرية أو بالعربية أو بأية لغة أخرى. أعتقد أن التصوف شيء يستطيع كل انسان أن يجد نفسه فيه. بالطبع هناك مستويات عديدة في فهم التصوف واختبار تجاربه الروحانية ولكن إذا كنت صادقا في محاولة الفهم فلا بد أن تجد في التصوف طاقات من شأنها أن تغير حياتك ونظرتك إلى العالم.

* لماذا؟ من ناحية السياق الأوربي الراهن، إنه من الغريب أن يقول شخص إن التصوف يوجد فيه أشياء نستطيع أن نأخذها لنجد أنفسنا فيها ونستفيد منها وهي من قرون بائدة ومن ثقافة مختلفة تماما.
- ما معنى التصوف؟ التصوف هو محاولة الانسان أن يقيم علاقة مع ماهية أو شيء خارج هذه الحياة. عندما يكبر الانسان بعض الشيء يفهم أن هذه الدنيا في الأساس لا قيمة لها: الانسان يولد ويموت، وكما أنت ترين، أغلبية الناس ما يهُمّهم هو المسائل المادّية فقط: أن يأكلوا ويستمتعوا في الحياة ولكن الانسان دائما يفتّش عن شيء ما هو فوق ذلك الاستمتاع المادّي. أنا أعتبر حتى تجميع المعلومات وحتى الدراسة شيئا مادّيا. أن تجمع المال أو تجمع المعلومات في أساسه هو نفس الشيء. تعرفين أن الصوفيين القدامى كانوا يقولون إنه يجب ألا تأخذ المعرفة من الكتب إن أردت أن تكون عارفا – عارفا بالمفهوم الصوفي – بل يجب أن تأخذ المعرفة من التأمّل، من محاولة خلق علاقة مع ماهية أعلى من الماهية الانسانية. بالطبع يجب أن تعرفي أن التصوف لا يعني أن يكون الانسان متديّنًا. من الممكن أن الواحد يكون متصوفا ويكون علمانيًا...

* ومُلحِدًا؟
- إذا قصدنا بكلمة إلحاد عدم التمسك بدين سماوي فبالطبع بإمكان الاتسان أن يكون صوفيا وملحدا في نفس الوقت. لا أعتبر نفسي متدينا ولكنني أعتقد أن التصوف يعطي بوجه أو آخر معنى للحياة. فمن خلال التصوف فهمت أن المادّيات لا يمكن أن تشكّل حلاً للانسان. بالطبع يجب أن تعيش وتأكل وأن تكون جزءا من المجتمع. ولكن نعرف أن كل من وضع الماديات كهدف وحيد في حياته كان مصيره مأساوياً. ما عدا ذلك إن التصوف شيء بينك وبين نفسك. وكان الصوفية القدامى يقولون إن الصمت أفضل وأرقى من الكلام. أبو قاسم القشيري في رسالته عن التصوف ينقل عن بِشر بن الحارث قوله: "إذا أعجبك الكلام فاصمت وإذا أعجبك الصمت فتكلم!"

الحلقة الثانية

الحلقة الثالثة