يبدو أن السياسة في الشرق الأوسط لا تستمر أو تعيش بعيدا عن صيغ النفاق الكبرى التاريخية، و بعيدا أيضا عن كل مستلزمات صناعة الطغاة و الآلهة البشرية و الطواطم السياسية، وللنفاق في عالمنا العربي السعيد بتخلفه و تهاويه صولات و جولات تاريخية كبرى نراها متدفقة منذ أكثر من نصف قرن حتى أجهزت نتائجها على الحياة العربية برمتها بعد أن تحول العالم العربي لأكبر مصدر طارد للقوة البشرية في العالم!!،

و في العراق المبتلي بمليون هم و هم و كارثة فإن للنفاق قواعد آيديولوجية بل جينية كامنة و متوارثة لا تمحوها عوادي الأيام و لا يتجاوزها الزمان، و حزب المنافقين العراقي هو واحد من أكبر الأحزاب التاريخية حضورا و تجردا و فاعلية، و لعل خير من يعبر عن هذه الصورة الفضائحية الفاقعة هو ذلك النبأ الغريب و المثير للحيرة و التعجب من خلال بيان نسب لمجلس الوزراء العراقي أنه قد قام بترشيح رئيس الوزراء نوري المالكي لنيل جائزة نوبل الدولية المعروفة للسلام!!

والخبر غريب كل الغرابة لأنه يدخل ضمن إطار عملية الترف و التلميع السياسي و مسح الجوخ الشخصي و التضخيم الإعلامي المصحوب بأطنان من النفاق لخلق قيادة عراقية صنمية جديدة وفق مواصفات المرحلة الراهنة!! فالسيد المالكي لم ينجز حتى اليوم لا هو و لا حكومته فعلا إستثنائيا يخرج العراق من حالة الإستثناء أو يبعد عنه شبح الإرهاب المخيم و الذي إزدادت ضراوته هذه الأيام!! و هذه الحقيقة يعترف بها المالكي نفسه الذي يواجه ملفات في غاية الخطورة سواء من خلال الصراع على تطبيق مفاهيم الفيدرالية التي أضحت بابا من أبواب الفتنة!! أو من خلال شد الحبال مع الجبهة الكردستانية التي ترفض أي تعديلات دستورية و التي تأخذ كثيرا من الإمتيازات و تطالب بالكثير الآخر!!

و لا أدري السبب الذي يجعل ترشيح المالكي لجائزة نوبل واقعيا خصوصا و إن الصراع اليوم حول إتفاقية سحب القوات الدولية من العراق ( الإتفاقية الأمنية ) قد دخلت في منعطف حاسم و حساس بات العراق و مصيره بأكمله في مفترق طرق تاريخية صعبة و خيارات متعددة أحلاها مر، فالرافضون للإتفاقية يمتلكون أدوات و أوراق مهمة داخل العراق من شأنها التعجيل برحيل المالكي و حكومته التي أضحى وجودها مرتبط بتوقيع أو عدم توقيع تلك الإتفاقية في ظل الإرادة الإيرانية و السورية المعلنة في محاربة هذه الإتفاقية حتى آخر رصيد إرهابي لمخابرات فيلق القدس الإيراني أو لجهاز الأمن العسكري أو القوات الجوية السورية!! و تصريحات القيادة الإيرانية واضحة كما أن خطابات بشار الأسد لا تعوزها الصراحة و لا الدقة!!

الأمر الذي يجعل المالكي و حكومته في مهب الرياح العاصفة مع بروز البصمات الإقليمية الواضحة و الرسائل الدموية المجسمة يوميا في أعمال القتل و التفجيرات الإنتحارية في شوارع بغداد و المدن العراقية الأخرى حتى تحول الهدوء الأمني المزعوم لإستنفار و مجازر بشرية يومية كبرى يعانيها الشارع العراقي !!، عن أي سلام يتحدث الذين يرشحون ما شاء أو طاب لهم من الأسماء لنيل الجوائز الدولية التي لا تقررها بطبيعة الحال جماعة في أوساط الحكومة العراقية بل تقررها الإنجازات الميدانية!!

و يبدو أن من رشح المالكي لنيل جائزة نوبل للسلام لا يعرف من يعطي تلك الجائزة و لا كيفية التقويم أو إدارة الملفات المتعلقة بذلك الترشيح إن صحت أنبائه؟ فتلك الجائزة الدولية الرفيعة لا تمنحها اللجنة السويدية كسائر فروع جائزة نوبل في مختلف التخصصات، بل أن من يمنح جائزة السلام هي ( اللجنة النرويجية ) فقط لا غير!!، وهذه اللجنة لا تعرف المداهنة أو المجاملة و لا تتعامل بالأمور من خلال رؤيتنا التعبانة بل من خلال زوايا و أبعاد و مقاييس مختلفة بالمرة عن تفكيرنا و سذاجة عقول جماعتنا!!

و النرويج وفقا لخبرتنا الميدانية الطويلة هي واحدة من أصعب دول العالم في إعتماد مقاييس الأشياء أو حتى في إصدار الأحكام السياسية أو غيرها و يكفي القول و التأكيد على إنفراد النرويج بالعزلة عن الإتحاد الأوروبي و رفض شعبها و بعض من نخبها السياسية الإنضمام لذلك الإتحاد وفقا لشروطه!! بل فضلوا التعاون و الإنفتاح على أوروبا وفقا لشروطهم و مصالحهم فقط لا غير! أي أن يأخذون ما يناسبهم و يناسب شركاتهم من القوانين الأوروبية و لا يلتزمون نصا أو حرفا بكل شيء!! و شعارهم ( لا للإنضمام للإتحاد الأوروبي ) لم يزل هو السائد حتى اللحظة!!

أما هوية من ينال تلك الجائزة و مواصفات الحصول عليها فهي مرتبطة أساسا بأجندات سياسية معلومة أولها الموقف من إسرائيل و أمنها وووجودها!!!، و ثانيها الإلتزام بمواقف ليبرالية متطرفة لا تنسجم أصلا و أساسا مع مفاهيم العالم الإسلامي أو العربي و لو تتبعنا ملفات من نالو الجائزة من العرب فهي لا تمتد لأكثر من ثلاثة شخصيات أغلبها مرتبط بقضية الصراع العربي / الإسرائيلي، فمن نال جائزة نوبل للسلام من العرب هم أولا الرئيس المصري الراحل أنور السادات مناصفة مع الإسرائيلي مناحيم بيغن بسبب كامب ديفيد!!، و ثانيهما الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بالمشاركة مع الإسرائيلي إسحق رابين و الإسرائيلي الآخر شيمون بيريز!! و ثالثهما اللجنة الدولية للطاقة الذرية ممثلة بشخص رئيسها الدكتور محمد البرادعي!! هذه هي كل الحصيلة العربية من الجائزة و أعتقد أن الحر تكفيه الإشارة و ترشيح المالكي غريب للغاية و لا يتناسب إطلاقا مع المقاييس المعتمدة! فضلا عن عدم تحقيق المالكي لأي معجزة في العراق يمكنها أن تنتشله من حالة الموت السريري القائمة حاليا!!، و الطريف أن بقية الوزارات العراقية قد أعلنت أيضا أنها بصدد ترشيح مرشحيها للجائزة!! متصورين أن اللجنة النرويجية للجائزة مقيمة في المنطقة البغدادية الخضراء!! و بالتالي يمكن رشوتها بالعقود التجارية و النفطية و إنجاز المهمة!!

و يبدو أيضا أن وزارة المالية سترشح السيد الوزير الرفيق باقر صولاغ للجائزة لإنجازاته المتميزة وزارة الداخلية أو لإنجازاته في وزارة الإسكان بحيث أصبحت الأبراج السكنية العراقية تنافس مثيلاتها في نيويورك أو في ( بوركينا فاسو )!!

أما إنجازاته الكبرى في وزارة المالية فستظل من روائع الإنجازات الحضارية التي بدأت بحريق ( البنك المركزي العراقي ) و أنتهت بجعل قيمة الدينار العراقي أرخص من الحبر المطبوع به..!، و كذلك سترشح وزارة الصحة وزيرها للجائزة بسبب إنجازاته العظيمة في نشر الكوليرا و التيفوئيد و السرطان!!، أما وزير الكهرباء فسيرشح لنيل الجائزة الدولية للإقتصاد في الطاقة و تدبير الموارد!!

هذا غير وزارات الثقافة و النفط و الخارجية و البقية...!

المهزلة العراقية قد فرضت بكل تأكيد مناظر كاريكاتيرية مثيرة للدهشة، و لعل خير من يستحق جائزة نوبل هم أولئك ( المؤمنون ) الذين يريدون خلق أصنام قيادية بشرية جديدة في زمن تهدمت فيه الأصنام للأبد... و لله في خلقه شؤون و شجون...! فالطريق من ( طويريج ) إلى ( أوسلو ).. ما زال طويلا.

داود البصري

[email protected]