في خضم التنافس القائم بين الدول المتقدمة لتحقيق الانجازات العلمية والتفاخر بتحقيق السبق العلمي الأهم في تاريخ البشرية، بادرت أوروبا قبل نحو عشرين عاماً ببناء أضخم صرح علمي على الحدود الفرنسية السويسرية يعرف بمجمع سيرن CERN للبحوث النووية (الفضائية والكونية والفيزيائية) وخاصة فيزياء الجزيئات اللامتناهية في الصغر وتم تشييد مصادم الجسيمات أو مسرع الجزيئات العملاق الذي بدأ العمل رسمياً في 10 أيلول 2008 ويعرف باسم LHC وهو مختصر لمصادم الهدرون الكبير Large Hadron Collider ويعتبر أكبر وأضخم آلة علمية صنعت لحد الآن.


ففي بداية سنوات الستينات أعلن البروفيسور البريطاني الشاب آنذاك بيتر هيغزPeter Higgs أستاذ فيزياء الجسيمات في جامعة إيديمبورغ فرضية بوجود جسيمات غير مرئية أسماها البوزونات والتي حملت إسمه علمياً وعرفت ببوزونات هيغز وسماها بعض زملائه تندراً بجسيمات الله نظراً لاستحالة العثور عليها أو إثبات وجودها مختبرياً في ذلك الوقت. ومهمة تلك الجسيمات أو الجزيئات أنها تفسر لماذا تحتوي كافة الجزئيات المكونة للمادة كتلة خاصة بها. وبقيت الفرضية لمدة تزيد على الأربعة عقود على الورق فقط حيث لم يستطع أي مسرع لجسيمات أو مصادم للجزئيات إثبات وجودها عملياً إلى يوم الناس هذا. وهذا ما حدا بالهيئات العلمية الأوروبية قبل عقدين من الزمن إلى بناء أو صنع هذا الجهاز من قبل المنظمة الأوروبية للبحوث النووية الذي من شأنه أن يتيح لنا إمكانية العثور على تلك الجزئيات ورؤيتها بعد الطفرة العلمية الهائلة التي تحققت في مجال الحاسوب والكومبيوترات العملاقة التي تقوم بمليارات العمليات الحسابية في جزء من الثانية. وفي نفس الوقت بمقدور هذا الجهاز أن يشرح لنا كيف يعمل الكون ويمضي في مساره. ركز العلماء على أهمية فيزياء الجسيمات ومعرفة لماذا تحتوي كل جسيمة أو جزيئة مهما كبرت أو صغرت على كتلة. وقد تتمخض هذه التجربة العلمية عن اكتشاف أسرار أخرى للمادة المرئية ونوع آخر من الجسيمات المركبة وليس الأحادية التكوين وستكون عند ذاك ثورة حقيقية في عالم الرياضيات والفيزياء الكوانتية أو فيزياء الكم. ومن شأن هذه التجربة أن تتيح للعلماء أن يثبتوا نظرية التناظر القصوى Supersymeacute;trie والتي تقول أن لكل جزيئة في الكون، حتى لو كانت لامتناهية في الصغر، مقابل أو نظير لها في الشكل لكنه أثقل. وترنو هذه النظرية إلى توحيد كافة القوى الجوهرية الموجودة في الكون والتي تتحكم بوجوده وطريقة عمله. وقد باشر علماء الكونيات، حتى قبل ظهور نتائج هذه التجربة، بافتراض صحة وجود بوزونات هيغز ويستخدمونها في أبحاثهم لكنهم يصطدمون بغموض ماهية المادة السوداء والطاقة الداكنة التي تشكل نسبة 96 % من الكون والتي لايعرف عنها الإنسان الشيء الكثير بل يجهلها تماماً. والحال أن اكتشاف الجسيمات المتناظرة هندسياً في الكون سوف يدفع إلى الأمام البحث العلمي في هذا المجال وقد يقودنا ذلك إلى اكتشافات أخرى غير متوقعة واقتحام مجاهل لغز الوجود. فكلما فتحنا باباً في العلم يفتح لنا مليون باب جانبي ويخلق لنا المتاهة الكونية التي نعيش فيها مما يخلق مايشبه الأزمة التي يستحيل حلها في إطار المستوى الذي وصلت إليه البنى النظرية والنظريات القائمة حالياً في مجال الفيزياء الكونية أو الكوزمولوجي والمشكلة تكمن في الشرخ القائم بين النظريات وإمكانية التأكد من صحتها والتدقيق فيها تجريبياً ومختبرياً.


عكف على تحقيق هذه المهمة الجبارة ما يزيد على العشرة آلاف عالم من مختلف الاختصاصات وبميزانية وصلت إلى 6 مليار يورو وضعت تحت تصرفهم من أجل إطلاق تخصص علمي مايزال في المهد هو فيزياء الجسيمات اللامتناهية في الصغر. ففيما عدا ديناميك فيزياء النوتريونات la dynamique physique des neutrinos، تعتبر فيزياء الجزئيات بمثابة سباق المائة متر بالنسبة للعلم فهي تجذب الأضواء وتستقطب الاهتمامات والمنافسة الشديدة لكن تقدمها بطيء على صعيد الانجازات والتطبيقات العملية. الفيزياء الجوهرية la physique fondamentale، التي انتعشت في النصف الأول من القرن العشرين، طرحت من الأسئلة النظرية أكثر مما قدمت من الإجابات الناجعة والمقنعة والمثبتة مختبرياً حتى أن هناك هوة عميقة صارت تفصل بين الحقلين النظري والمختبري لايمكن جسرها. فلم يتمكن العلماء سوى التعرف على 5% فقط من المادة في الكون ولابد من العثور على المفتاح السحري المتمثل ببوزونات هيغز وإلا سينهار الصرح العلمي للفيزياء المعاصرة. فقبل اقتحام المجهول للبحث عن النسبة المجهولة للمكون الكوني وهي 95% تقريباً، ينبغي أولاً السيطرة التامة والكاملة على الخمسة بالمائة المتكشفة حالياً وشرحها وتفسيرها.


النموذج المتعارف عليه للكون نظرياً في الوقت الحاضر يلخص الكون بإثني عشر نوعاً من الجزئيات الليبتونات والكواركات Les leptons et les quarks، والقوى الأربعة الجوهرية التي تسير الكون وهي الكهربائية ـ المغناطيسية eacute;leacute;ctromagneacute;tique الالكترومغناطيسية الضعيفة، وقوة الثقالة أو الجاذبية gravitationnelle والقوة النووية الكبرى. فالكواركات هي المكون الأساسي الأصغر المكتشف لحد الآن للمادة وإن القوى الأربعة المشار إليها تتفاعل وتعمل من خلال أو عبر جسيمات المادة. وقد حظيت هذه النظرية بالقبول الواسع من قبل المجتمع العلمي وثقة الفيزيائيين لأنها تضمنت فرضيات تم التحقق من صحتها في المختبرات والمسرعات أو مصادمات الجزئيات الأقل تقدماً الموجود قبل مسرع أو مصادم LHC. فحقل هيغز وبوزوناته مايزالان في المجال النظري حالياً، وبفضل فرضية هيغز تمكن العلماء من تفسير ظاهرة الجاذبية أو الثقالة في سنوات الستينات ولكن لم يعرفوا لماذا تحتوي بعض الجسيمات على كتلة masse والبعض الآخر يفتقد لها كالفوتونات photons بيد أن إثبات ذلك يستدعي العثور على البوزونات المفترضة حيث أن فيزياء الجسيمات علم تجريبي تحت المراقبة والنظرية فيه تبقى نظرية، وإن العثور على تلك البوزونات ليس سوى خطوة أو مرحلة ضرورية لابد منها للوثوب إلى ميادين أكثر طموحاً وتعقيداً، فنظرية النموذج القياسي theacute;orie du modegrave;le standard صحيحة وصالحة للاستعمال في نطاق مقياس الطاقة المحصور بين GeV 500 وGeV 1000 أو واحد Tev وفيما يتعدى ذلك تصبح النظرية ناقصة وغير كاملة. وهناك ثلاث أو أربع نظريات منافسة لها لتحل محلها من المؤمل أن يسمح جهاز LHC بالكشف عن الأكثر صواباً من بينها. ومن المؤمل أيضاً أن يساعدنا في اقتحام مجاهل الطاقة الداكنة أو السوداء التي تشكل ثلثي الكون ويفترض أنها مسؤولة عن إتساع الكون. يتنافس علماء الفيزياء بمخيلتهم الغنية على تقديم النماذج والفرضيات للربط بين النموذج القياسي والنموذج الآينشتيني المستند إلى النظرية النسبية العامة، والذي يصف الكون بمقياس الطاقة الهائلة وعلى نطاق لامحدود. ويتبارى بعض العلماء اليوم بتقديم تصورات مختلفة عن الأكوان المتوازية وليس الكون الواحد وهي نظرية اقترحها العالم السوفياتي زاخاروف وتبين فيما بعد أنها ليست من بنات أفكاره بل أرسلت له سراً جاهزة ومكتوبة من جهة غير معلومة بتوقيع الأوميين Les Ummittes،ويعرفون أنفسهم بأنهم كائنات من الفضاء يشبهون البشر تماماً قدموا من كوكب بعيد متطورون أكثر منا وحضارتهم أقدم من حضاراتنا بخمسة وعشرون ألف سنة، وسربوا لنا بعض الفتات من تقدمهم التكنولوجي عبر أسلوب الرسائل المجهولة المصدر، والتي تصل إلى العلماء في الأرض. ويبقى كل شيء ما يزال في طي المجهول، ولكن لايجب أن نيأس من التوصل إلى الحقيقة يوما ما وما علينا سوى الاستمرار بالبحث بذكاء وصبر. وقد ساهمت مثل هذه التجارب التي لاتعني أبحاثها شيئاً للانسان العادي، بتحقيق اكتشافات علمية وعملية خدمت الإنسانية كالانترنيت والهاتف الجوال والكومبيوتر الشخصي المكتبي والمحمول وكانت كلفة هذا الجهاز قد تجاوزت 3،9 مليار يورو وسوف يساعد في تقدم البحوث الطبية والمجهرية وتخصص العلاج الهادروني hadrontheacute;rapie الذي يمكن أن يقهر الكثير من الأورام السرطانية بقصفها ببروتونات أو إيونات الكاربون. وسيستمر في غبر أسوار المادة الملموسة والمادة المضادة والمادة السوداء والطاقة الملموسة والطاقة الداكنة التي قد تكون وراء سر تكون النجوم والمجرات. وبذلك سوف تنافس أوروبا بهذا الإنجاز العلمي القيادة الأميركية للبحوث العلمية والتكنولوجيا الثقيلة والمتطورة جداً والحساسة منها بالذات. ومع مرور الوقت سوف يعتاد الناس على سماع وترديد مصطلحات ومفاهيم هي الآن بمثابة الطلاسم من قبيل الميونات والغليونات والليبتونات والبورتونات والبوزونات والالكترونات Les: muons، gluons، leptons، protons، bozons،eacute;lectrons، مثلما هي مفاهيم ومصطلحات مثل صواريخ وطائرات ومركبات فضائية وسيارات وانترنيت وكومبيوترات وفيديوهات وتلفزيونات وسينمات الخ التي تبدو كطلاسم بالنسبة لأناس يعيشون في القرون الوسطى أو قبائل الآمازون البدائية بينما هي عادية ومألوفة بالنسبة لنا اليوم.

د. جواد بشارة

باريس
[email protected]