بمثل هذا اليوم قبل ثماني سنوات أطاحت طائرات يقودها إرهابيون من بلاد المسلمين برجي التجارة في نيويورك ومبنى البنتاغون في واشنطن. قتل الآلاف من الأبرياء،وأصيب الاقتصاد العالمي بضربة لم يشف منها حتى اليوم، ومنذ تلك اللحظة بدأت حرب عالمية معلنة وخفية يقتل فيها كل يوم عشرات ومئات الأبرياء وتدمر فيها الثروات، والمباني دون هدف أو نتيجة، بدا كأن الإنسان قد فقد صوابه ودخل مرحلة انتحار شامل وإفناء لذاته ولكل ما بناه الأسلاف من حضارة وحياة وآمال على هذا الكوكب!

وبقدر ما كانت الإدارة الأمريكية محقة وصائبة في أن ترد و تدافع عن وجودها وشعبها وحضارتها، لم تمتلك مع الأسف نفس الحق والصواب في طرائق وكيفية هذا الرد!
فهي ببساطة لاحقت الإرهابيين، ولم تلاحق الإرهاب وأسبابه!

وظلت لا تفرق بين من يبحث في أسباب الإرهاب ليجد مبررات لجرائم الإرهابيين الشنيعة، وبين من يرى أن أية قضية في الدنيا لا تستحق أن يقتل الناس الأبرياء من أجلها،ولكن لا ينبغي تجاهل أن لكل سبب أو عامل في الحياة نتيجة! وإن لكل فعل رد فعل،سيعطي مفعوله المدمر سواء كان صحيحاً أو خاطئاً!

ظلت الإدارة الأمريكية تتجاهل أن رحم وحاضنة الإرهاب والإرهابيين هي : الفقر والجهل وانعدام العدل وتفشي الظلم والفساد،خاصة في العالم الإسلامي الذي جاء منه الإرهابيون، فالبلدان الإسلامية والمسلمون والعرب ما زالوا يعيشون حياة متخلفةً تفتقر لأبسط المقومات الحضارية، ما جعل كثيرين منهم ينظرون بحسد وشك لحياة الأمريكيين والأوربيين،بل بعضهم يرى أن الأوربي والأمريكي يتمتع بحياة مرفهة تقوم على الثروات المنهوبة والمغتصبة من بلادهم، وهم ما برحوا يغطون في جهل مطبق، وكل ثقافتهم مفاهيم دينية أصولية تكفيرية بدائية، تعتمد أجزاء مبتسرة ومشوهة من القرآن أو السنة النبوية وأقوال أأئمة مساجد أو دعاة سطحيين ومحرضين، وما تزال نسبة الأمية لديهم عالية جداً،والمرأة مستلبة سجينة حجرات الحريم ،والنسبة الأعظم لا تعرف ما هو الكومبيوتر أو التلفون النقال أو الفضائيات،أو حنى الراديو!

والقضية الفلسطينية ما تزال منذ أكثر من نصف قرن ،دون حل عادل يضمن للفلسطينيين حقوقهم المشروعة في أرضهم،والإدارة الأمريكية منحازة لإسرائيل،وتمنحها مظلتها الاستراتيجية وتتستر على جرائمها بحق الفلسطينيين! وإسرائيل ليس فقط لا تساعد الولايات المتحدة أو العالم في مكافحة الإرهاب، بل هي في موقفها المتعنت والغامط لحق الشعب الفلسطيني تنتج الإرهاب وتشجع الفلسطينيين على أن يتحولوا إلى إرهابيين،وتمنح حزب نصر الله في لبنان مبررات وجوده وتخريبه للحياة السياسية في لبنان!

صحيح أن بن لادن كان وما زال مليونيراً لكنه لم يكن سوى الرأس الشرير الذي لعب على هذه القضايا الخطيرة، واستغل الفقراء والمعدمين والجهلة من الشباب لقضيته الشخصية،وهي جرح في كرامته صنعته أمريكا عندما استعملته في محاربة الشيوعية في أفغانستان وبعد أن حققت مهمتها ألقته كمنديل ورقي ملطخ بالدم، فما كان منه إلا أن يطعنها في قلبها ويمرغ كرامتها في الوحل! ولو عرفت أمريكا كيف تتعامل معه وتشبع عقده النفسية المستحكمة فيه منذ طفولته لكان اليوم أحد رجال أمريكا، وربما هو الآن يحتل موقع كرزاي في أفغانستان تحت العلم الأمريكي!

الإرهابيون ،لا مبادئ ولا قيم لديهم ،فهم برؤوس فارغة تماماً إنما بأعماق مليئة بالعقد المريضة والغدد السامة! التي تجعلهم في هوس دائم للقتل والتدمير،وما شعاراتهم الرنانة عن الإسلام والجهاد سوى قناع معنوى وكلامي كقناعهم من القماش الأسود المعروف!

وقد تستطيع أمريكا أن تجد المبررات القانونية والأخلاقية في حربها على بن لادن لكنها لا تستطيع أن تجد هذه المبررات لعدم بحثها بشكل جدي عن الأسباب التي كونت ظاهرة بن لادن ،وهذا الإرهاب الجنوني الذي انطلق من كهوفه البدائية البعيدة ووصل إلى معاقل الحضارة في أمريكا وأوربا!
وربما هذا يفسر لماذا أن هذه الحرب مازالت صعبة ومعقدة ومن المبكر الحديث عن إحراز نصر فيها!

وحدد بوش ما أسماه بمحور الشر،أي الأعداء الاستراتيجيين لأمريكا والعالم الغربي بثلاثة أنظمة : العراقي والإيراني والكوري الشمالي!
وبدأ بصدام في العراق وأسقطه في حرب ما تزال دائرة والجنود الأمريكان يقتلون كل يوم وآخر تصريح لقائد قواتها في العراق يقول : الوضع الأمني والسياسي ما يزالان هشين لكن القوات الأمريكية ستنسحب في موعدها ،أي قبل إحراز نصر!
ومرة أخرى يقوم بوش بخطوة قد يجد مسوغاً قانونياً لها في مبدأ الدفاع عن النفس أو الأمن العالمي لكنه لا يرفقها بإجراءات عميقة تتناول أصول الشر والطغيان لا مظهره الخارجي وممثليه فقط!
أنفقت الإدارة الأمريكية مليارات الدولارات في الجهد العسكري ضد الإرهاب،وقد أثبتت الوقائع أن الكثير من هذا الجهد كان تخبطاً وغير دقيق وقد رافقه الكثير من الفساد ،و لو أنفقت هذه الأموال الهائلة في مكافحة الفقر والجهل ونشر الوعي الإنساني في هذه البلدان،
كم كانت ستحقق في تصفية الإرهاب وسحب الأرض من تحت دعاته وقواعده؟

قتل مئات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال في أفغانستان،وقتل الكثيرون في شتى أنحاء العالم بجرائم الإرهابيين، لكن ما قتل في العراق من الرجال والنساء والأطفال وما دمر من البيئة وما حرق من ثروات كان أكثر من ذلك بكثير جدا ،لقد استبشر العراقيون بسقوط نظام حكم كان يضطهدهم ويدفع ببلادهم إلى الحروب والنزاعات ومعاداة العالم،لكن فرحتهم انكفأت أمام كوارث ومآس لا تنتهي حتى تبدأ! صار واضحاً لكل ذي بصيرة أن بن لادن شرب كأس الدم وانتشى به حتى الثمالة،والعراقيون دفعوا الفاتورة!

وسبب ذلك هي السياسة الخاطئة التي اعتمدها بوش لمكافحة الإرهاب :
فهو حين أدرج إيران ضمن ما أسماه محور الشر، وأسماها مستشاروه المحافظون ( بأم الإرهاب الحديث ) ،وتكلم عن سوريا كحليفة لإيران ومارقة في لبنان،فقد أخافهما واستنفرهما وجعلهما تعبئان نفسيهما لمنازلة أمريكا في أرض العراق قبل أن تصل إلى أراضيهما، بينما هو لم يرسم أية خطة لمواجهتهما سواء بالسياسة أو بالعمل العسكري! على العكس كانت سياسته إزاءهما مترددة متخبطة مرتبكة! مما جعلهما تستهينان به وبقواته في العراق وتنزلان بها أقسى الضربات عبر عملائها المعروفين بفيلق القدس وعصابات القاعدة وفلول البعثيين الذين كانوا ينسقون مع الإيرانيين بقوة منذ أن خبأوا طائراتهم عندهم أيام حرب الكويت!

وطرح دعوة لإعادة النظر في المناهج الدينية ،لكنه بدلاً من ذلك لعب على وتر الطائفية وأيقظ الفتنة القديمة وأجج الصراع الطائفي بين السنة والشيعة في العراق واليمن ولبنان والباكستان ، والبحرين في خطة غبية اعتمدت الانتقام من المسلمين وإضعافهم بدلاً من مساعدتهم للوصل إلى مفاهيم حضارية حول الدين والطائفة وفصلهما عن السياسة والدولة!

وطرح مشروع الشرق الأوسط الكبير ، ولم يحقق منه شيئاً وتراجع عنه ،فأطاح بهيبته ومصداقيته مما جعل أعداءه وخصومه وحلفاءه يستخفون به!

وتحدث عن مشروع ديمقراطي في العراق يجعل العراق نموذجاً يحتذى في الديمقراطية واللبرالية والعلمانية والحياة المرفهة وإذا بالعراق اليوم يعيش ذات الأجواء المأساوية من الخراب والفساد وانعدام الأمن والمشروع الديمقراطي فيه يتعرض للانكسار وربما الانهيار تحت وطأة التدخلات الخارجية والفتاوى الدينية والطائفية وينتج حكومات طائفية تقوم على المحاصصة ويتغلغل في مفاصلها وأحشائها النفوذ الإيراني كالسرطان!

كل ذلك شكل خيبة أمل كبرى لكل الأحرار والوطنيين العراقيين الذين أيدوا بوش في حربه لإسقاط صدام وآزروه بعد أن عجز العراقيون عن إزاحته! وأغلبهم ينتقل الآن إلى معارضة السياسة الأمريكية في العراق!

بعد انسحاب القوات الأمريكية من العراق ، ومضي أوباما في سياسته التراجعية الانهزامية سيحكم الإيرانيون قبضهم على العراق ، وسيكون في المنطقة نظام آخر للملالي، يتولى تصفية كافة الأحرار والشرفاء من الشيعة والسنة والكرد والتركمان والآشوريين والمندائيين وغيرهم وبذلك تكون إيران هي من قطف ثمرة الشجرة المسمومة التي سقاها بن لادن بدماء البشر ، وطعمها بوش بأخطائه وخطاياه، وسوقها أوباما للعالم على أنها شجرة عيد ميلاد عالم جديد!


[email protected]