عبد الله كرمون من باريس: كلما غادَرنا مفكر أو كاتب كبير، تساءلنا: هل من الضرورة كتابة شيء عنه؟ وهل يجدي ذلك؟ بصرف النظر عن نشر الخبر وإحاطة الناس به. وإذا كان ما تبقى من كبار فلاسفة فرنسا ومفكريها قد رحلوا واحدًا بعد الآخر، وما زالوا ينصرفون، فقد دفنا منهم في السنوات القليلة الأخيرة عددًا مهمًّا، مثل بيير بورديو وجاك ديريدا وغيرهما... أما اليوم فقد حان دور رحيل المفكر الكبير كلود ليفي ستراوس، فلقد استسلم لنداء الموت الذي طالما درسه، وفك طلاسمه المُشْكِلة على الإنسانية على مر العصور. واضح أنه بلغ مئة سنة من عمره، ومنعته الشيخوخة والوهن اللذان يصاحبهما من المشاركة في الحياة الثقافية الفرنسية منذ زمن. غير أن ذلك لم يحل دون أن يخفق حضوره الدائم في كل آن. كما تم الاحتفاء به في السنة الماضية، عقب ربيعه المئة، على الرغم من اعتذاره عن حضور تلك النشاطات. وخصصت كبريات المجلات ملفات عن حياته وأعماله وعن صدى آرائه الفكرية. في الوقت الذي صدر بعض من كتبه التي اختارها بنفسه عند دار لابلياد العتيقة، ويكون بذلك ، بعد جوليان غراك، ثاني من تخرج له تلك الدار أعماله وهو لا يزال على قيد الحياة.
ولد كلود ليفي ستراوس في اليوم الثامن والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر سنة 1908 ببروكسيل، من أب فنان ورسام اسمه رايمون ليفي ستراوس. وناضل في صفوف الحزب الاشتراكي ما بين سنتي 24 و1925. وبعدما حصل على دبلوم في القانون، أعد دبلوم دراساته العليا في الفلسفة حول موضوع quot;المسلمات الفلسفية للمادية التاريخيةquot;، قبل أن يصير مبرزًا في الفلسفة فيما بعد.
وقد وقع في يده، بداية ثلاثينيات القرن الماضي، كتاب مهم، وكان حينذاك مدرسًا في إحدى الثانويات، اسمه quot;المجتمع البدائيquot; لصاحبه روبير لووي، وخرج من قراءته باكتشاف سيقوم بدور مركزي في تكوينه وعطائه الفكريين فيما بعد: اكتشاف الإثنولوجيا!
غير أن سفره إلى البرازيل، بدعوة من سيليستان بوغليه مدير المدرسة العليا للأساتذة بساو بولو، ليدرس بها العلوم الاجتماعية هو ما أثر أكثر في مساره العلمي والعملي، كما ذكر ذلك في مداراته. لأنه سيتمكن فيما بعد من معاينة حياة هنود البورورو، وغيرهم من هنود الأمازون، الذين سوف يخصص لهم دراسات شاملة وكثيرة، سواء في quot;الأنثربولوجيا البنيويةquot; أو في quot;الفكر البدائي (البري؟)quot; (وليس المتوحش بالمعنى الحرفي، ما شجبه المفكر بنفسه عندما أعلن أن ما سماه بالفكر البدائي هو شكل من أشكال الفكر ويتواجد في ذات كل منا). مثلما عمد إلى دراسة اللغة والرموز والأساطير، وبنيات القرابة

هنا مقتطفات من تفكيره:


الفرق بين مجتمع متطور ومجتمع لا يزال متخلفًا

[
إن المجتمعات الغربية صُنعَت لكي تتغيّر. هذا هو مبدأ بنيتها وتنظيمها. في حين أن المجتمعات المسمّاة quot;بدائيةquot; تبدو لنا بدائية لأنها، على الأخص، قد صُنعت من قِبَل أعضائها لكي تدوم. فانفتاحها على الخارج محصور جدًا، وما نسمّيه عندنا بـquot;ذهنية الحنين إلى مسقط الرأسquot; يطغى عليها. أما الغريب فإنه يُعتبر وسخًا ومبتذلاً حتى ولو كان جارًا قريبًا. بل إنّ quot;البدائيينquot; يذهبون الى حد نزع الصفة البشرية عنه. لكن البنية الاجتماعية الداخلية لديهم تمتاز، على العكس، بلحمة أكثر تراصًّا وبديكور أغنى مما نجده في الحضارات المركّبة. فلا شيء متروك للصدفة في تلك المجتمعات. بحيث إن المبدأ المزدوج الذي يجعل لكل شيء موضعًا، ويحتّم على كل شيء أن يكون في موضعه، يهيمن على كل الحياة الأخلاقية والاجتماعية. وهو يفسر أيضًا كيف أن بعض المجتكمعات ذات المستوى التقني ndash; الاقتصادي المتدني جدًا تستطيع أن توفر لنفسها مشاعر الارتياح والغبطة، وكيف أن كلاً منها تعتقد أنها توفر لأعضائها الحياة الوحيدة التي تستحق عناء العيش. ولعلّها بذلك تقدم لأبنائها قسطًا أكبر من السعادة. ولكن بما أن هذه السعادة تزعم الكمال لنفسها، فإن كل شكل من أشكالها يظل معزولاً لا محالة عن الأشكال الأخرى، فيتثبّت ويتجمّد من حيث المبدأ، إن لم يكن دائما من حيث الواقع].

****

تظهر البنيوية اولا بمظهر النسق. انها تتألّف من عناصر يكفي ان يطرأ على أحدها أدنى تغيير حتى يتغير المجموع.

****

الانثروبولوجيا علم تتمثل غايته الاولى، بل غايته الوحيدة، في تحليل الفوارق وتأويلها.

****

إن ما يميز عمومًا بين الإنسانية والحيوانية هو أن الانسان باستخدامه الكوني للغة وللأدوات والمصنوعات، وبخضوعه للتقاليد والمعتقدات والمؤسسات ينتمي الى نظام يتجاوز نظام الطبيعة. إن عالم الإنسان هو عالم الثقافة. والثقافة منافية للطبيعة بالحدة نفسهادائمًا مهما كان مستوى الحضارة المعتبرة. فكل إنسان يتكلّم ويصنع الأدوات ويمتثل للقوانين.

****

لا توجد ولا يمكن ان توجد حضارة عالمية بالمعنى الدقيق للكلمة، لان الحضارة تفترض تواجد ثقافات متنوعة للغاية، بل هي تتمثل في هذا التواجد نفسه. ولا يمكن للحضارة العالمية أن تكون إلا تحالفًا، على الصعيد العالمي، بين ثقافات تحافظ كل واحدة منها على طابعها الخاص.

****
تقودنا دراسة الأساطير الى ملاحظات متناقضة: فكل شيء يمكن أن يحصل في الأسطورة، ويبدو أن تعاقب الأحداث فيها لا يخضع لأية قاعدة منطقية وأي تواصل. فكل صفة قد تقترن لكل موصوف، وكل علاقة تبقى جائزة. بيد ان هذه الأساطير التي تبدو اعتباطية تتكرّر بالخصائص نفسها وفي الغالب بالجزئيات نفسها في جهات مختلفة من العالم. ومن هنا جاز السؤال التالي: إذا كان محتوى الأسطورة طارئًا، فكيف نفسّر تشابه الأساطير التشابه الكبير وذلك على الرغم من وجودها في جهات متباعدة من الأرض؟
لعلنا نكتشف ذات يوم أن المنطق المؤسس للفكر الأسطوري هو عينه المنطق الذي يؤسس الفكر العلمي، وإن الإنسان ما أنفكّ يحسن التفكير.

الفقرات ترجمها شخصان وحقوق اعادة طبعها محفوظة، لاعادة نشرها يجب اخذ اذن.

ونكاح الأقرباء والبنيات الاجتماعية الأخرى من زواج وتبادل النساء، ومن عطاء وحضور المقدس والموت في حياة تلك الشعوب. مادام تعريفه المفضل للإثنولوجيا يتركز في كونها مبحثًا يسعى إلى فهم الإنسان، ويضيف كي لا يظل كل ما يمت بصلة إلى الإنسان مجهولاً لدينا وغريبًا عنا. ووضع من هذا المنطلق نظرية عامة عن تمفصلات الرمزي والجسد والاجتماعي.
وكان كلود ليفي ستراوس من مطوري البنيوية في فرنسا بأن وظفها في التحليل الإثنولوجي والأنثربولوجي، بل إنه من جعلها مبحثًا قائمًا بحدّ ذاته. منذ أن أخذ مبادءها عند اللغوي جاكوبسون عندما لاقتهما ظروف الحرب في الأربعينيات في أميركا، إذ فر إليها هربًا من حكم فيشي رفقة أندريه بروتون وفيكتور سيرج (الشيوعي المعروف).
وشغل لدى عودته إلى فرنسا بعد تقليده بمهام رسمية حول الثقافة والتي استقال منها سريعًا، كرسي الأديان المقارن للشعوب التي لا تعرف الكتابة في المدرسة العليا، والذي خلف فيه مارسيل موس. كما أنه أسس مجلة مهمة ما تزال تصدر حتى اليوم هي quot;مجلة الإنسانquot;.
سيعمد ستراوس إلى استحداث تحليل بنيوي لأساطير الهنود، موضحا بأن البنيوية تعلي من شأن الكل في العلاقة مع الأجزاء، ومن شأن الروابط في العلاقة مع العناصر. وإذا تعرض تفكير كلود ليفي ستراوس إلى سوء فهم أحيانا، فإن ذلك راجع إلى الضجة الكبيرة التي أحدثها الناس بخصوص البنيوية، بأن حولوها إلى شيء أسطوري، فإنه لم يرضَ حينها قط أن يربط اسمه، كلما ذكرت، إلا بإميل بينفنيست اللغوي وبالمؤرخ جورج ديموزيل. موضحًا، في سمته المعروف عنه وفي لغته المنتقاة بعناية بأنquot;البنيوية ليست فلسفة وإنما هي مجرد منهج في التحليل ليس إلاquot;. وأبان من خلال استعماله لتلك الأداة أن الإنسانية تشترك في خاصية بنيوية هي وحدة نفسية تصدر عنها الكثير من الدوافع لدى كل شعوب الأرض. عمد أيضا إلى استخلاص ذلك من خلال الحكايات الشفهية القصيرة التي جمعها وحللها تحليلاً بنيويًا، ما سمح له فيما بعد أن ينتقد الروسي فلاديمير بروب، القريب من الشكلانيين، والذي كانت له رؤية أخرى في تناول هذا التراث الحكائي. من هنا يتبين سعي كلود ليفي ستراوس إلى نبذ الفواصل بين الناس، إذ أسقطت بحوثه الجدار الفاصل بين ما يسمى بالحضارات البدائية والحضارة المتطورة. كما يعارض كذلك كثيرًا فكرة أن للمجتمعات البدائية علاقة بالطبيعة أكثر منه بالثقافة.
اعترف كثير من المثقفين بأنهم اكتشفوا كلود ليفي ستراوس من خلال كتابه الذي لا تؤدي مع ذلك quot;مدارات حزينةquot; ترجمة جيدة لعنوانه. وأكاد أجزم أن لا أحد يعرف ستراوس قبل 1955 تاريخ صدور المدارات، بالرغم من أنه سبق أن ناقش منذ 1949 أطروحة دكتوراه مهمة جدًا حول بنيات القرابة. لقد طلب منه جان مالوري إذن أن يكتب نصًّا حول سفره وإقامته بالبرازيل، لكي يدشن بنشره سلسلة quot;الأرض الإنسانيةquot; التي أحدثها حينها عند دار نشر بْلون. ما أجاب عنه كلود بالقبول، لأنه رأى في ذلك فرصة كي ينتشل من الضياع جزءًا من النص الذي بدأه لدى عودته مباشرة من البرازيل، والذي كان بالنسبة إليه مشروع رواية فاشلة، عاد إليه وواصل الكتابة حول الموضوع، لنحصل بعد أربعة أشهر فقط على الكتاب الجميل الذي ما يزال متألقا حتى الآن، وظل يطبع، إن أمكن القول، بلا هدنة. أبقى كلود ليفي ستراوس على العنوان بخصوص مشروع الرواية وبالفصل المسمى quot;غروب الشمسquot; الذي يقع ما بين ص65 و74 من طبعة quot;الأرض الإنسانيةquot;.
يتميز الكتاب بجمالية أسلوبية قل نظيرها، وبهم معرفي ظاهر، في الوقت الذي يتعلق فيه الأمر بكتابة ذاتية عن سفر حقيقي في الزمن والمكان، وإن قال كلود ليفي ستراوس بأنه يكره السفر والمسافرين بهذا المعنى. ألم يسبقه منذ القرن السادس عشر، إلى الرسو على ضفاف البرازيل رحالة فرنسي (مستكشف) يدعى جان دوليريه؟ بلى. لقد اعترف ستراوس بأنه قرأ الكتاب الذي أنجزه هذا الرجل عن سفره قبل أن يحط رجله على تلك الأرض الأمازونية.
تأسفتْ حينها لجنة غونكور عندما ظهر الكتاب، لأنه ليس رواية وإلا لمنحت له الجائزة بالإجماع. ليس لأنه مكتوب فقط بشكل جيد ومسبوك، لأن كل مؤلفاته تقريبًا كانت كذلك، ولكن لأنه نص ذاتي وحر لم تثقله المفاهيم والمناهج والجداول التي لا يستحملها من ليسوا مختصين. إنه نص سلس، يزخر بالتفاصيل والأوصاف الدقيقة، سواء بكل ما رآه في تنقلاته أو بما فكر به أو جال لحظة في خلده.
لم تكن المدارات هي التي ولجتُ بها عالم كلود ليفي ستراوس، ولكنني قرأته بعدما قرأت بعض كتبه الأخرى. ومازلت أشعر بأنه قد تهاوى نوعًا في الفصلين الأخيرين منه. فبالرغم من كون الحقيقة سليلة بعض فقراته، غير أنه ظل فيه نوعًا رهين النظرة الكولونيالية الضيقة. سواء تعلق الأمر بالإسلام والمسلمين، (فيها حديث عن البرقع!) (زيارته لكشمير، البنجاب والباكستان) أو بفرنسا، التي فرضت وصاية (بقوة الحديد والنار) على كثير من شعوب الأرض لزمن.
لقد رحل الرجل بعدما اخترق قرنا بأكمله، وأذكر أنه قال بمناسبة ميلاده التسعين، وهو غير متحمس إلى الاحتفال به، مادام نوعا من الاقتراب من القبر، بأنه يستحضر الكاتب الفرنسي أناتول فرانس الذي قال يوما بأنه كان من الأجدر أن يكون مجرى الحياة بالمقلوب، أن نولد شيوخا وأن ننحدر تدريجيا في العمر، ما قد يمنح له متعة وقيمة أكبر. وأذكر بهذه المناسبة حسين مروة في الحوار الذي خص به عباس بيضون quot;ولدت شيخا لأموت صبياquot; بالرغم من أن حسين مروة يحيل أكثر إلى سيرورته الفكرية.
لن نعرف كما يلزم في هذه العجالة بكل تفاصيل إرث الرجل. لذا يبقى القول بأن رحيل كلود ليفي ستراوس يعتبر مناسبة كبيرة للتمعن في منجزه الفكري المثير للجدل. قالت فرنسواز إيرتييه التي خلفته منذ سنة 1982 في إدارة مختبر الأنثربولوجيا الاجتماعية في كوليج دو فرانس، بعد إعلان موته من طرف ناشره والأكاديمية الفرنسية والمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية بأن نجوما كثيرة تلمع لأنها تحمل لنا بالتأكيد شيئا جديدا، ولكن كلود ليفي ستراوس، كما قالت، فقد جاءنا بطريقة هامة لفهم العالم وتحليله، وأضافت أنه إنسان متفرد. كما أشاد فيليب ديسكولا، من مختبر الأنثربولوجيا الاجتماعية أيضا، بأهمية عمل الرجل العلمي ومواقفه المدافعة عن الثقافات الأخرى وعن الأنواع (الطبيعية والحيوانية)، وأضاف بأنه كان يرى دائما في الأنثربولوجيا سلاحًا نقديًا مهمًّا ضد الأفكار المسبقة، وخاصة منها العنصرية والعرقية. في حين أعلنت دينا ريبار من المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية أن كلود ليفي ستراوس يعتبر أبًا لكل العاملين في هذا المجال في فرنسا، كما قد يعد بعض الأجانب من صلبه.
لم يمت الرجل لأن هناك باحثين كثر يواصلون رسالته العلمية، في الوقت الذي يحاصر فيه هذا التخصص، أمثال غودولييه، تيستار، سكيبلا (الذي أنجز عنه كتابًا مهمًا) وآخرين.
من أهم كتبه:
_البنيات الأساسية للقرابة.1949. (رسالة دكتوراه).
_العرق والتاريخ. 1952.
_مدارات حزينة. 1955.
_الأنثربولوجيا البنيوية. 1958.
_الطوطمية اليوم. 1962.
_الفكر البدائي (البري). 1962.
_الميثولوجيات في أربعة أجزاء. من 1964حتى 1971.
_الأنثربولوجيا البنيوية 2. 1973