تراث فلسطين وحضارتها في المنزل المهجور
ميرفت أبو جامع من غزة: quot;متحفquot; العقاد الثقافي للتراث والآثارquot; يافطة صغيرة وضعت على باب منزل كبير يعود إلى مزارع فلسطيني، ما ان يفتتح الباب حتى، تستقبلك أعمدة رخامية تعود إلى عصور برونزية، بيزنطية، رومانية و إسلامية وهيلينة.
تتراص الأعمدة الرخامية على جانبي الطريق المؤدي لما اصطلح عليه quot;متحفquot;, وقد وضعت القطع الأثرية داخله بشكل لا يليق بأهميتها وقيمتها الأثرية، كون التراث جزءا كبيرا من معركة الفلسطينيين الوجودية مع إسرائيل، إلا أنهم لم يعيروه اهتماما كافيا، يقول وليد العقاد مدير المتحف: quot; المكان لم يعد يتسع لكل هذه الآثار، كثيرون زاروا المتحف، ووعدوا، وزارة الثقافة الفلسطينية وافقت عام 2007،على بناء المتحف على قطعة الأرض التي تبرعت بها لصالح إقامته، ولكن الوعود تبخرت والأوضاع تبدلت ولم يعد لي من أمل سوى النظر في قصاصات الأخبار هذه quot;.
عاشق الآثار
ويعمل العقاد في الخمسينات من العمر من مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة مزارعا، شغف بالتراث منذ صغره حتى لقب بquot;عاشق الآثارquot; واحتفظ بقطع أثرية من قرون، ورث بعضها عن والده الذي أوصاه بالمحافظة عليها.
وتعد تجربته فريدة من نوعها، إذ خصص بيت ريفي صغير مبني على قطعة أرض يملكها للاحتفاظ بأدوات تراثية وقطع أثرية، تختزل ذاكرة الشعب الفلسطيني, وكانت هذه القطع ترحل كالأجساد البشرية من مكان لأخر يحتبس عبقها خوفاً من سرقته ونهبه من قبل الاحتلال الإسرائيلي. حتى رأت النور بعد مجيء السلطة الفلسطينية في التسعينات، وإقامة متحف باسمه quot;العقاد الثقافي للتراث والآثار. وأصبح وجهة للوفود المدرسية والشخصيات الاعتبارية وطلبة الجامعات للتعرف على تراثهم.
و يحتفظ العقاد بأول عدد من صحيفة الأهرام المصرية الصادر في 5 آب عام 1876، من والده الذي كان يعمل بالتجارة من مصر إلى غزة آنذاك، وبآثار من مدينة أريحا أقدم مدينة في التاريخ حفظها في موتور ثلاجة خوفا من الإسرائيليين وقد عثر عليها في أريحا أثناء عمليات حفر في زيارة له هناك...
اهتمام مبكر بالآثار
ويقول العقاد إن اهتمامه بالآثار بدأ منذ صغره بعد زيارته في السبعينات للمواقع الأثرية في رحلة مدرسية لجمهورية مصر العربية، ويضيف quot; هذا ولد لدي الرغبة في اقتناء قطع أثرية من وطني والحفاظ عليها (أسوة بما رأيت) quot;، وتحول من عاشق إلى مقاوم حين رأى بأم عينه في العشرينيات من عمره وزير (الدفاع) الإسرائيلي السابق (موشيه ديان) وهو يلتهم باطن أرض منطقة quot;تل ريدانquot; وتل قطيف quot; بحثاً عن الآثار بالقرب من بحر خان يونس.
يرفع العقاد بعض الأخشاب عن مدفع روسي قديم يتوسط حديقته، ويعود إلى عام 1956 ويقول: quot; أخفيت هذا خوفا من الزنانة الإسرائيلية، إن شاهدته ظنته منصة صواريخ وقتلت حلمي واغتالت القطع التراثية التي املكها، ويتابعquot; هي بمثابة الهواء الذي أتنفس منه، كل قطعة فيها بمنزلة احد أبنائيquot;..
اعتقال الآثار
ويواصل العقاد: quot; زاد تمسكي بالتراث بعد أن جاء جنود الاحتلال لاعتقال شقيقي في الثمانينات عند مداهمتهم للبيت وقع نظر الضابط الإسرائيلي على حجر لقصر يعود للعصر الأموي، توجد عليه نقوش وزخارف هندسية، كان المرحوم والدي قد نقله من وسط فلسطين على ظهر الجمل إلى خان يونس، فنسي الضابط أمر اعتقال شقيقي ليأمر بأسر الحجر ونقله فوراً إلى الجيب العسكري ومن ثم اعتقلوا شقيقي.
العقاد له من اسمه نصيب، فثمة تشابه بينه وبين الأديب والمفكر العربي عباس العقاد في بدايات كلا منها غير التقليدية والخارجة عن المألوف، وقد عرض للأخير صورة في منتصف quot; متحفهquot;. وكان عباس العقاد قد بدأ حياته شغوفا بالقراءة، وصرف من قوت يومه في سبيل شراء الكتب، أما وليد العقاد فيصرف من قوت أبنائه على نقل الآثار التي يعثر عليها او شراء القطع من المواطنين مهما كلفه ذلك.
ويقضي العقاد جل وقته في البحث والتنقيب عن الآثار بأي ثمن حتى لو كلفه ذلك حياته، ويشير أنه تعرض لإطلاق النار مرات عديدة أثناء بحثه وتنقيبه في مواقع أثرية بالقرب من المناطق الحدودية في قطاع غزة وخاصة بعد عمليات هدم البيوت وتجريف الأراضي التي تقوم بها إسرائيل، كان آخرها تعرضه لإطلاق نار مباشر، بعد الحرب على غزة في منطقة الشيخ حمودة المملوءة بالآثار والقريبة من الحدود مع إسرائيل خلال تنقيبه.
أمام باب المتحف ينتصب بيت من الشعر الفلسطيني لحياة البداوة فيها، فيتوسط الكانون الخيمة، وحوله البكارج ومحمصة ودلة القهوة النحاسية وأداة خض اللبن وتفترش أرضه بفرش من شعر الأغنام، الجاعد ومفارش من النول،فيما يقف على جانبه الأخر تاج لقصر الملكة هيلانه قبل 1700 سنة ميلادية وقد عثر عليها العقاد خلال العام 2005.
أقسام المتحف
وينقسم المتحف إلى قسمين أحدهما للتراث والأخر للآثار،فيتضمن الأخيرمجموعة من الآثار الرومانية التي تعود إلى ما قبل الميلاد منها جزء من بلاطة يبلغ طولها 90سم تعود إلى قبر روماني مع حجر شاهد للقبر عليه نقوش وزخارف هندسة مع بقايا لمومياء موجدة في القبر، وكمية من النقود القديمة التي تعود إلى عهود مختلفة رومانية وبيزنطية وإسلامية وعثمانية (فلسطينية ) تعود للعام 1927م ومطحنة زيتون مصنوعة من صخور البازلت ترجع إلى ما قبل ألفي عام، ويوجد مجموعة أثار تعود للعهد البيزنطي منها تاج وأعمدة رخامية كانت تستخدم في بناء القصور وبعضاً من الجرار والأباريق والسراج من العهد الروماني.وتابوت عثر عليه عام 2007 يعود الى العصر البيزنطي عام 1650بعد الميلا ويزن 105 كجم وداخله قطعتين من النقود القديمة.
وتوجد نماذج لوسائل قتالية قديمة وأسلحة قديمة متنوعة التي تعود إلى ما قبل عام 1948م. وفترة العدوان الثلاثي عام 1956 وذخائر يعود تاريخ تصنيعها إلى عام 1901 (كما ورد على نقوشها) وقطعة سلاح من جده ووالده تعود إلى ثورة عام 1936م.
بينما يحتوي قسم التراث على ألآت خشبية كانت تستخدم قديماً للعزف الموسيقي في السوامر والأفراح كاليرغول والشبابة والربابة وأيضاً أدوات زراعية تعود إلى ما قبل مائتي عام كالمحراث القديم والمنجل والقدوم والمذراة.
وأدوات الفروسية منها حدوة فرس يرجع تاريخها إلى العهد التركي قبل 600عام وسيف هنداوني يرجع تاريخه إلى ما قبل 500سنة.
أزياء شعبية فلسطينية
وعدة نماذج لأثواب نسائية فلسطينية من قرى ومدن فلسطينية مختلفة قبل العام 1948م وأدوات منزلية كانت تستخدمها المرأة في الأعمال المنزلية كالرحى والكانون وفرن الطابون وأواني نحاسية وفخارية والغربال والمرجونة وخزانة (البورية) تعود إلى ما قبل 130سنة. وهودج كان يوضع على ظهر الجمل تحمل فيه العروس إلى بيت عريسها ونماذج لزي الرجل الفلسطيني الذي يتمثل بالعباءة والقمباز والكوفية والعقال والعصا المصنوعة من أشجار اللوز.
ذاكرة مقاومة
وكان للانتفاضة الأولى عام 1987م وانتفاضة عام 2000م نصيب من المتحف حيث يوجد ركن خاص بالتوثيق للانتفاضة يحتوي على مجموعة من قنابل الغاز والعيارات المطاطية والنارية التي كان يستخدمها جنود الاحتلال في الانتفاضة الأولى وبعض الأدوات التي كان يستخدمها الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال في الانتفاضة الأولى منها المقلاع والنيطة والشدادة والأحجار وسكاكين، وصور فوتوغرافية لأحداث الانتفاضة، أما انتفاضة 2000 احتوى ركن خاص بها على صور للشهداء وعلى رأسهم صورة للشهيدة الطفلة إيمان حجو وصور شهداء محافظة خانيونس وصور لقادة الأحزاب من الأسرى والشهداء وقطع صواريخ استخدمتها قوات الاحتلال في مقاومة الانتفاضة وعجلة الكرسي الشيخ الجليل أحمد ياسين الذي قتلته قذيفة إسرائيلية، وبقايا صورايخ وقنابل فسفورية استخدمتها إسرائيل في الحرب على قطاع غزة.
حلم هل يرى النور؟
ورغم تواضع المتحف وضيق مساحته ومحدودية إمكانياته إلى أنه يعد تجربة رائدة وفريدة للمتاحف الشخصية على مستوى محافظات قطاع غزة خاصة ومحافظات الوطن عامة،، حيث تقوم رحلات مدرسية فلسطينية محلية ووفود عربية ودولية منها وفود من أمريكا وهولنديه.
ويأمل العقاد أن يرى حلمه النور في بناء متحف متخصص للمقتنيات الأثرية على قطعة الأرض التي تبرع بها لصالح المتحف لحماية الآثار الفلسطينية من الضياع وطالب الجهات المعنية بالآثار التعاون والمساعدة من أجل بناء المتحف على أسس علمية سليمة للمحافظة على التراث من السرقة والضياع والارتقاء بواقع التراث والثقافة لإحياء الذاكرة الفلسطينية.