احتفاء بجواد سليم تحت النصب التذكاري

احتفل جمع من العراقيين بشكل غير مسبوق باليوبيل الذهبي لرحيل صاحب أشهر نصب في بغداد والشرق الأوسط quot;جواد سليمquot;، في ساحة التحرير في منطقة الباب الشرقي. الاحتفال أقامته مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون بالتعاون مع أمانة بغداد.


بغداد: في احتفال غير مسبوق، وفي ساعات مسروقة من الزمن العراقي البخيل بأضوائه ومتعته وطيب اللقاء والاجتماع، وفي ليلة ترش البرد، وترتعد منه ومن الريبة والحيرة في مكان خلا من المارة والعابرين والباعة المتجولين، احتفل جمع من العراقيين باليوبيل الذهبي لرحيل صاحب أشهر نصب في بغداد والشرق الأوسط.

تحت نصب الحرية، وفي ليلة من ليالي الأنس في بغداد، في ساحة التحرير في منطقة الباب الشرقي، التي هي الطريق المؤدي إلى كلواذا، توقف الزمن، توقف تمامًا، ولكنه كان يلوح بيديه إلى يوم شتائي من أيام كانون الثاني (يناير) من عام 1961، وسرعان ما اجتمع في تلك الساحة من تلك الساعة المسائية الشتائية أفراد كثيرون، كل واحد منهم كان يحمل بين يديه شيئًا، وفي روحه شيئًا، وفي ذاكرته شيئًا، حملوا آلات موسيقية، وحملوا وردًا، وحملوا أوراقًا، وحملوا صورًا وكاميرات وابتسامات، وكلمات كانت تتناثر تحت نصب الحرية، حيث كان هنالك يقف في مشهد واضح متألق الفنان (جواد سليم)، كأنه هناك يشير إلى تلك البصماتن التي تركها على ذلك البرونز، فيتحسسه بأصابعه، فيحسه لم يعد باردًا، بل إنه يتدفأ بحرارة اللقاء، فضاءت الليلة، تناثرت الأضواء في الأمكنة، وتصاعدت ألوانها، فيما كانت الموسيقى تتهادى بجمال أنغامها، لتحيي صاحب الذكرى، الذي اجتمع الناس هنا ليحيونه تحية الخلود والمحبة والتحدي لكل أشكال الظلام، التي تحاول أن تغلف منحوتات النصب المرتفع في الفضاء أفقيًا، مثل لافتة تريد أن تقول لكل الأزمنة ما في النفس العراقية الصميمية.

ما اتحدث عنه.. هو احتفال كبير في مساء بغداد لمناسبة مرور نصف قرن على رحيل جواد سليم، الرجل الذي نحت (نصب الحرية) ليظل أبرز رمز لبغداد. والذين احتفلوا هم نخبة من أهل الثقافة والسياسة والفن وعشاق الحياة والفن.

الاحتفال.. أقامته مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون بالتعاون مع أمانة بغداد، ووجد المحتفلون عيونهم تتطلع إلى منحوتات النصب، لتتكحل بتلك الوقائع، التي كادت تتحرك مع توهجات الأضواء والموسيقى والشعر، بالتزامن مع عرض سينمائي في الهواء الطلق لفيلم يحمل عنوان (جواد الحرية)، استعرض محطات ومسارات الفنان الراحل على الصعيدين الشخصي والفني.

أجواء الاحتفال بجواد سليم

كانت الموسيقى غير اعتيادية، قدمتها الفرقة السيمفونية العراقية الوطنية، بقيادة المايسترو محمد أمين عزت، واعتقد أنها للمرة الأولى في تاريخها تنزل إلى الباب الشرقي لتطربه وتسمعه ما لم يسمعه من قبل، واستطاعت أن تزيل كل بقايا الصخب اليومي، وتغسل بالعزف التعب المترامي على عواتق المكان.

فكانت الموسيقى تتعالى وتنادي باسم صاحب الذكرى، وتلامس منحوتاته، التي لامستها كفاه من قبل، وكانت الإشارة واضحة وطيبة من الفرقة وعازفيها الرائعين حينما عزفوا مقطوعة (فوك النا خل فوك)، والمعروفة شعبيًا باسم الأغنية، التي غناها ناظم الغزالي (فوك النخل فوك) !!.

لم يغب الشعر، بل كان حاضرًا وبقوة، تجلت في تلك القصيدة التي كتبها الشاعر العراقي الراحل عبد الأمير الحصيري (1942- 1978) بحق جواد سليم، قصيدة (يا باسل الحزن)، قام بإلقائها الفنانان سامي قفطان وعواطف نعيم، تلك القصيدة (البائية) التي تتألف من (مائة وخمسة وثلاثين) بيتاً من الشعر العمودي:

فضت نوافذها عن وجهك الحقب
غابا.. فواكهه الأشواق والعجب
غابا أزاهر بكر اللون سندسه
وخضر أشجاره الألواح والنصب
يا سروة الفن هذا بعض ما حفلت
به غصون على جبيك تنتصب
جواد من صفوة فيها أبيح لها
مما تشاء من الإلهام تنتهب
خلدّت شعبك تياهاً بملحمة
للنصر تحضن فيها رأسه الشهب
جواد ليس رثاء ما يفيض به
قلبي ولكنه الإجلال يحتسبُ
ياراهب الفن لم تصرفه مغرية
عنه ولم تغتصب حبه الرتبُ
يا باسل الحزن لو مسّت نفوسهم
الحمقاء ريشتك العصماء ما نكبوا
يا باسل الحزن قبر أنت تسكنه
قي قمة الدهر والتاريخ مرتهب

بين كل هذا، الموسيقى والشعر والجمال والأضواء، التي تمطر في المكان، كان الجميع يبتهجون، كأنهم ينظرون إلىليل بغداد للمرة الأولى، وهناك الكثيرون الذين لم يأتوا إلى المكان منذ أمد بعيد، ليس في الليل لا.. بل في النهار، إذ إن سطوة الخوف من مظاهر العنف، لا سيما في الأماكن المكتظة، هي ما يدفع الناس إلى الابتعاد.

فكان المحتفلون يشعرون بالابتهاج كأنهم في مكان ليس عراقيًا، إنهم يحتفلون بأنفسهم على مرأى من النصب الجميل، وعلى أرضية الشارع، الذي لا يخلو من السيارات والصخب، لكنه الآن مختلف.

يقول الناقد التشكيلي صلاح عباس، الذي قال إنه جاء من مدينة الحلة للاحتفال بجواد سليم: يا لها من ليلة تعبق براحة الفنون والوفاء، ولكن للأسف لا يوجد في العراق تقليد للاحتفاء بالفنانين والرموز الفنية، ولكن هذه الاحتفالية كانت شيئًا آخر، جاءت تعبيرًا خالصًا عن مكانة الفنان جواد سليم ودوره المؤثر في مسار الفن العراقي الحديث وما تركه من إرث فني وثقافي، وهذا نصب الحرية شاهد بروعته، وها أنت تشاهد الجميع يلتقي هنا تحت جدارية نصب الحرية في ساحة التحرير.

العراقيون توافدوا للاحتفال بجواد سليم

فيما قالت الناشطة في مجال حقوق الإنسان السيدة هناء أدور: هذا احتفاء يستحقه جواد سليم، جواد.. الذي لا يزال خالدًا وهو يمنحنا قيمة أكبر من أجل النضال ومن أجل الحرية، وهذا الاحتفال الجميل.. أفق واسع وأمل كبير، أفق لشعبنا.. فلا بد أن يتحرر وينال الحرية وهو يستحق الحرية.. وهناك شباب يدافعون من أجل ذلك، وهذه الأجيال، التي جاءت من بعد جواد سليم، متوالدة، ودافعها الأول هو الحرية، هذا النصب.. هو رمز من رموز بغداد الساحرة، ليس نضاليًا فقط، وإنما رمز جمالي وتاريخي، وهو يمثل الأمل لشعبنا ولبلدنا المليء بالحزن.

أما الإعلامي عماد جاسم فقال: بغداد ستكون أكثر إشراقًا بغيابهم وحضورنا بأرواحنا المحلقة في سموات جواد سليم وفائق حسن، جواد سليم رمز التمدن يرنو بفرح من خلال نصبه العملاق إلى الموسيقيين في أمسية بغدادية، فرفعنا أيادي التحية والانتصار لإرادة الفرح تحت نصب حريتنا المنشودة... إننا عشاق الحياة.

الراحل.. المحتفى بذكراه هو جواد بن محمد بن سليم بن علي بن عبدالقادر الخالدي الموصلي (1921 - 1961)، يعتبر من أشهر النحاتين في تاريخ العراق الحديث، ولد في أنقرة لأبوين عراقيين، واشتهرت عائلتة بالرسم، فقد كان والده الحاج سليم وأخوته سعاد ونزار ونزيهة فنانين تشكيليين، وكان في طفولته يصنع من الطين تماثيل تحاكي لعب الأطفال، وقد أكمل دراسته الابتدائية والثانوية في بغداد.

نال وهو في عمر 11 عامًا الجائزة الفضية في النحت في أول معرض للفنون في بغداد سنة 1931. وأرسل في بعثة إلى فرنسا، حيث درس النحت في باريس عام 1938-1939م، وكذلك في روما عام 1939-1940، وفي لندن عام 1946-1949، ورأس قسم النحت في معهد الفنون الجميلة في بغداد حتى وفاته.

وكان يجيد اللغة الإنكليزية والإيطالية والفرنسية والتركية، إضافة إلى لغته العربية، وكان يحب الموسيقى والشعر والمقام العراقي، أسس جماعة بغداد للفن الحديث مع الفنان شاكر حسن آل سعيد، والفنان محمد غني حكمت، كما إنّه أحد مؤسسي جمعية التشكيليين العراقيين.

وضع عبر بحثه الفني المتواصل أسس مدرسة عراقية في الفن الحديث، وفاز نصبه(السجين السياسي المجهول) بالجائزة الثانية في مسابقة نحت عالمية، وكان المشترك الوحيد من الشرق الأوسط، وتحتفظ الأمم المتحدة لنموذج مصغر من البرونز لهذا النصب، وفي 1959 شارك مع المعماري رفعت الجادرجي والنحات محمد غني حكمت في تحقيق نصب الحرية القائم في ساحة التحرير في بغداد، وهو من أهم النصب الفنية في الشرق الأوسط، ولجسامة المهمة ومشقة تنفيذ هذا العمل الهائل فقد تعرّض لنوبة قلبية شديدة أودت بحياته في 23 كانون الثاني (يناير) عام 1961م، الموافق فيه 6 شعبان 1380هـ، وشيّع في موكب مهيب، ودفن في مقبرة الخيزران في الأعظمية.