عبد الجبار العتابي من بغداد: كتب.. كتب.. كتب، على مدّ البصر.. تلك هي الصورة التي ترتسم على واجهة المشهد من يوم الجمعة البغدادي لاسيما في شارع الرشيد، في منطقته القريبة من شارع المتنبي، فهناك تزهر الارض بالكتب وتتراقص العناوين على الاغلفة الملونة الزاهية امام الناظرين، فيما ترى البعض منها يتمسك بكلاسيكيته ورصانته بالابيض والاسود !!، والاوراق السمر العابقة بسحر أخاذ يتحسسه الناظر الذي يرى سيماء قديمة تغفو على سطوح الاغلفة ويكاد يشاهد عليها ملامح رجال من ازمنة بعيدة جدا.

ما يثير انتباه العابرفي (شارع المتنبي) يوم الجمعة، ليس ما في الشارع ذاته، لانه اصبح امرًا عاديا واحتفالاته الثقافية في هذا اليوم طبيعية جدا، وان كانت مظاهره تتجدد على مدار اليوم او الاسبوع، وقد اصبح قبلة لكل الذين على علاقة ما بالكتاب، فهناك.. على طول الشارع لا ترى غير الكتب تتقاسم المشهد العام، هناك.. يمتلئ نهر الشارع بالكتب وتفيض على ارصفته، وليس غريبا ان ترى كل هذا والسبب ان هذا الشارع هو شارع الكتب والمكتبات منذ امد بعيد، وما يراه الناظر يستمتع به بدون عجب لانه يعرف ان المكان معروف بما يحمل ولا غرابة في اية عمليات يراها للبيع والشراء والتفرج، لكن المثير للدهشة واللافت للنظر هو ما يحدث بعد الشارع، وبالتحديد على امتداد شارع الرشيد وصولا الى ساحة (الميدان) وربما ابعد من ذلك، الى المسافة المؤدية الى الباب المعظم من جهة وزارة الدفاع والجهة المقابلة لمنطقة الفضل، فهناك تنتشر الكتب والمجلات والصحف القديمة بشكل مذهل، كتب.. كتب.. كتب، تشعر بها تقوم وتقعد، كأنها تزحف لتكون امامك، ولا تفارقك، تسير معك مثل ظلك، تجدها هنا.. وهناك، على يمينك وعلى شمالك، على هذا الطرف من الشارع وعلى ذلك الرصيف، اما الاسعار فلا مجال لذكرها فهي تتباهى برخصها وغلائها، واي رخص واي غلاء، فهناك كتب لا تحتاج الا الى ان تخرج من جيبك اصغر نقد لتقتني بها كتابا او كتيبا او مجلة، واعني بذلك النقد فئة (250) دينارا عراقيا التي تعادل (اقل من 20 سنتا) وهناك تتصاعد الاسعار الى 500 والى الف دينار وهكذا، ويمكن اقتناء كتب كثيرة متنوعة بمبلغ بسيط، يمكن ان تقرأ ما تشاء من هذه الكتب ذات طبعات قديمة وحديثة، كتب تبتعد تواريخها الى سنوات بعيدة جدا، واخرى خرجت توا من حرارة المطابع، كتب شتى من القصص والروايات والمجاميع الشعرية، كتب علمية وفكرية وفنية ودينية وسياسية، لكن هنالك كتب يمكن الاشارة اليها بالنادرة هي التي يرتفع سعرها.

هناك.. كتب.. كتب.. كتب، على مدّ البصر.. بل انك ان انتبهت اكثر ستجد هذه الكميات من الكتب ربما تعادل المعروض منه على شارع المتنبي، وربما تتساءل عن هذا العالم الذي اصبح يتوالد ويتكاثر، ويتحول الاهتمام به الى شغل شاغل، حيث تخرج هذه الاعداد من الكتب من بطون المكتبات التي على شكل دكاكين قديمة تبرز من ابنية منطقة (الحيدرخانة) المتهالكة او الطافحة بالرطوبة على جدرانها وسقوفها، وهناك الكثير من الكتب تصطف على الرفوف الخشبية في زحام لاتشكو منه، تخرج الكتب.. لتنتظر تحت اشعة الشمس او في الهواء الطلق او تحت ظلال الشرفات، او قل.. انها تسيل او تتمدد من اعماق الدكاكين الممتلئة بالكتب لترفع يديها شاهقة بعناوينها ورافعة أكف اغلفتها وهي تنادي المارين بها ان يقتنوها بأسعارها الجيدة، فيما هناك من يحملها على عربات خشبية تدفع باليدين لتصل الى المكان المعين، وهناك تفترش الارض لتكون على اشكال شتى، مرتبة او مكومة، وفي كل الاحوال يدفعك الفضول الى ان تقف وتتفرج وتتأمل وتمد يدك الى كتاب استهواك عنوانه او مؤلفه او شكله، وكلما تبتعد عن شارع المتنبي صعودا لا تنفك تمشي ببطء لان الكتب تمتد على طريقك.

قلت لماجد احمد سعيد، الرجل الخمسيني الذي يجلس امام كومة من الكتب: هنالك شارع المتنبي وهو على مقربة منك والناس تذهب اليه مباشرة، ما معنى وجودك ها هنا في شارع الرشيد؟، فقال اولا: الرزق على الله، ثم اضاف: نحن امتداد للشارع، الداخلون اليه يمرون بنا قبل الدخول اليه، والخارجون منه يتوقفون عندنا حين لا يجدون في شارع المتنبي ضالتهم او ربما يستهويهم الوقوف، نحن هنا ربما نختلف عما يباع هناك من ناحية السعر وقيمة الكتب، فكتبنا قديمة من امهات الكتب، وربما اقول لك ان الكتب ذات الاوراق السمر هي الاكثر بين كتبنا، وكل الدارسين يشترون مصادرهم منا، والاغلب يقول انه يجد لدينا ما لم يجد في شارع المتنبي.

وحين طلبت منه ان يحدثني عن اسعار الكتب، قال: من اصغر نقد.. الى ما لا تتوقعه وربما تسميه سعرا خياليا، والناس يشترون الكتب والرزق مكفول لنا، لكن اسعارنا البسيطة هي الاعم، هناك كتب نبيعها بربع سعرها !!، واضاف: الكتاب قيمته فيه، والناس ما زالت تقرأ، وكل من يقول لك عصر الكتاب الورقي انتهى قل له: (انت ما تفهم !!).

قبل ان اغادره لانشغاله مع احد الذين توقفوا عنده.. لفت انتباهي ما يحمله الرجل من كتب كثيرة في كيس نايلوني كبير، ومن ثم مساومته هذا البائع الذي اصر على ألا ينقص من قيمة الكتاب الا جزءا بسيطا، خمنت ان البائع شعر بقيمة الكتاب عند المشتري وحاجته اليه فتوقف عن تخفيض السعر، وبين التماسات وعواطف متبادلة ورجاءات مختلفة، لم يتفقا، وحين غادر الرجل سألت البائع عما حدث فقال ان سعر الكتاب اغلى بكثير من السعر الذي طلبه.

إلتفتّ.. الى بساط طويل من كتب ممدود، زخرفته الالوان والصور، توقفت اقرأ العناوين التي على صدور الكتب المرتمية على الارض، كانت تختلف بالعديد من الاشياء من سنوات الطبع الى الحجم الى الاغلفة الى المواضيع التي توزعت على مختلف المجالات المعرفية، ومددت يدي الى كتاب بورق اسمر هو كتاب (الخمائل) للشاعر ايليا ابو ماضي، ما اقدمه قلت وما أعتق اوراقه المطبوعة عام 1946 وحين سألته عن السعر قال: ثلاثة الاف دينار عراقي!!، اي نحو دولارين ونصف، لكنني سألته السؤال نفسه الذي سألته لبائع الكتب السابق، فقال: عملنا هو بيع الكتب سواء في يوم الجمعة او في الايام الاعتيادية، لكننا في يوم الجمعة نحتفل بشكل اكبر مع المحتفلين هناك (ابتسم لتعبيره)، ويوم الجمعة فرصة لكي تنزل كتبنا الى نهر الشارع،حين يكون الشارع اكثر هدوءًا من ناحية زحام السيارات، وهو اكثر الايام التي يأتي الينا بها المشترون لان اغلب من يأتي الى هنا في يوم الجمعة هم من عشاق الكتب والقراء، اي الذين يبحثون عن الكتب، اما في باقي الايام فالظاهرة عادية والناس على اختلاف مشاربهم يمرون من المكان.

قلت له: ألا تمل بيع الكتب والتعامل مع الكتب؟، فقال: كيف يصيبني الملل وانا بين احبائي واصدقائي وارباحي، هذه الكتب تؤنسني حين اشعر بالضجر ويرزقني الله من فضله حين تباع، كنت ابيعها مذ كنت صغيرا والى الان انا معها، الا يقال ان خير جليس في الزمان هو الكتاب.

قريب من هذا البساط.. كانت اكوام من كتب قبل ان اتحدث مع صاحبها انبرى لي صبي يعمل معه بالقول على ايقاع خاص به: (كتب.. كتب، كل ما تريد من الكتب.. هنا)، كان الصبي يرتب الكتب حسب وجهة نظره، فسألته: وانت.. هل تقرأ؟ فقال ):نعم.. انا احب الكتب واقرأها ولكن ليس كثيرا، احب القصص، ابي يقول عليّ انا واخوتي ان نقرأ الكتب لنتعلم منها الكثير) لكن والد الصبي سرعان ما تداخل معنا فقال: لانني اقرأ كثيرا وانا وسط هذه الكتب فلا بد لاولادي ان يقرأوا، فأنا اؤمن بما قاله الجاحظ من ان: (الكتاب نعم الذخر والعقدة ونعم الجليس والعدة ونعم المشتغل والحرفة ونعم الانيس لساعة الوحدة ونعم المعرفة ببلاد الغربة)، واضاف الرجل: الكتب ما شاء الله كثيرة والعراقيون يقرأون وعلاقتهم بالكتاب اكثر من جيدة ولا غنى لهم عنه، الناس يحبون القراءة، وانا احب القراءة ايضا، لذلك ابيع بأي سعر وخاصة للقارئ الذي اشعر أن لديه حرصا على القراءة فعلا، لا اربح كثيرا لانني اعتبر كل كتاب يباع ربحا.

كتب.. كتب.. كتب على مدّ البصر، وتشعر بالفرح ان هذه الكتب تبحث عن قرائها، وانها ما خرجت على هذا الشكل الا لان هناك قراء، وان هذه الاعداد الهائلة من الكتب القديمة قد مرت على صفحاتها انامل كثيرة لاشخاص تركت في نفوسهم بصمات من المعرفة والدراية والمتعة.