اصبح فن كتابة الرسائل والسجالات الأدبية بالمراسلة جنسا أدبيا مهددا بالانقراض في عصر التكنولوجيا الرقمية ، والمتضرر الأول هو القارئ والأدب عموما.
وكان سول بيلو كتب ذات مرة quot;ان الرواية ، مثل الرسالة ، ينبغي ان تكون فضفاضة ، تغطي مساحة واسعة ، تنساب مسرعة ، وتخاطر بالفَناء والانحطاطquot;. وكان صاحب رواية quot;مغامرات توغي مارشquot; وquot;هندرسون ملك المطرquot; كاتب رسائل من الطراز الأول ، مثله مثل العديد من الروائيين.
واعادت مجلة ذي نيويوركر مؤخرا نشر مختارات من رسائل بيلو تمثل اضاءة شيقة للتعريف بشخصية الكاتب. ونرى بيلو في هذه الرسائل مقاتلا ينازل وليام فوكنر بسبب دفاع الأخير عن الشاعر عزرا باوند ، quot;الرجل الذي دعا الى تدمير ابناء جلدتيquot; ، كما وصفه بيلو. وفي رسائل اخرى ينتحل بيلو شخصية كاتب مغمور لينصح فيليب روث الذي لم يكن نُشر له عمل بعد ، ويتحدث برقة مؤثرة مع جون تشيفر ويقول مخاطبا مارتن ايمس quot;أنت والدك ووالدك أنتquot;.
وصدرت مؤخرا عن دار بنغوين رسائل بيلو خلال الفترة الممتدة من 1932 الى 2005. ويضم الكتاب بين دفتيه حديقة غناء من الرسائل اللاذعة والطريفة والمختصرة في احيان كثيرة لكنها دائما ممتعة. ويأتي نشر رسائل بيلو تذكيرا صارخا بأن الرسائل المتبادلة بين الكتاب وسجالاتهم الأدبية بواسطة ساعي البريد تتمتع بشعبية واسعة بين القراء. إذ كانت رسائل اوسكار وايلد مصدر الهام لكثير من الطامحين في العيش حياة ترف واستمتاع. ولا يتعين ان تحب ايفلين ووغ لكن تُسحَر برسائله الاستطرادية ، كما قال الناقد نيكولاس ليزارد في صحيفة الغارديان لا سيما وان كثيرا من هذه الرسائل موجهة الى كاتبة رسائل أدبية لا تقل عنه براعة هي الروائية والمؤرخة نانسي ميتفورد. وصدرت رسائل ووغ مؤخرا في كتاب ، بكل روعتها سليطة اللسان.
والرسائل الأدبية التي كثيرا ما تُشذب وتُنشر بعد وفاة صاحبها تحوي لكل امرئ شيئا ، حين تكون متألقة. فالقارئ الاعتيادي يعرف منها كيف يكتب الأدباء حين يكونون متحررين من توقعات النقاد والجمهور بانتظار عمل متميز آخر منهم ، والباحث يحصل على مادة كافية لكتابة تل من الدراسات ، والورثة يجنون مكاسب مالية من إرث كاتب الرسائل.
ولكن هذه المنافع كلها لم تعد قائمة لأن لا أحد يكتب رسائل بعد الآن ، أو على الأقل ليست تلك الرسائل التي تنم عن سعة اطلاع كاتبها وفكاهته ، كما هو معروف عن الكتاب الكبار. فنحن ، كما يُقال لنا في احيان كثيرة ، نعيش في عصر الرقمنة. والكتاب يتراسلون الآن ، مثلهم مثل غيرهم ، عن طريق البريد الالكتروني وليس البريد السلحفاتي. ومن يصرون على الكتابة بالطريقة التقليدية ويذهبون الى دائرة البريد لشراء طابع يلصقونه على رسائلهم اصبحوا الآن فصيلا مهددا بالانقراض.
ولا مراء في ان البريد الالكتروني أداة عظيمة للتواصل بسرعة وسهولة ولكنه لا يصلح شكلا من اشكال التعبير الأدبي. فالرسائل الرقمية تميل الى التذبذب بين الكلام المقتضب والكتابة الشكلية والاختصار البعيد عن الابداع دون ان تُبقى فسحة بين هذا وذاك. وقد تكون الرسائل الخطية كاشفة ، صريحة ، عابثة في حين ان الرسائل الالكترونية لا تبدي في أحسن الأحوال إلا واحدة من هذه السمات. وغني عن القول ان كثيرا من الروائيين المعاصرين يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي مثل توتير وفايسبوك ، بفاعلية شديدة احيانا. وكما كتب بيتر جوجهيغان في صحيفة الغارديان فان من الصعب ان يتصور المرء مجيء جيل ذات يوم يفرغ quot;التغريدات الكاملةquot; لهذا المؤلف أو ذاك على قارئه الالكتروني، سواء أكانت هناك ثورة رقمية أو بدونها.
وسيحتاج مؤرخو الأدب الى مساعدة خبراء بالتكنولوجيا الرقمية لنبش الأقراص الصلبة وحسابات البريد الالكتروني والهواتف الخلوية في محاولة لتوثيق حياة الكتاب وافكارهم. ولكن مَنْ يحتفظ بكل المراسلات الالكترونية خلال السنوات الخمس الماضية ناهيكم عن زمن حياة كاملة؟ فالكومبيوترات تعتق وتُنسى والهواتف الخلوية تُستبدل. ولن يعود بمقدور الكتاب ان يخلفوا وراءهم صناديق مترعة بالرسائل الجاهزة لدراسة الباحثين وربما للنشر. ان عصر التكنولوجيا الرقمية حكم على نشر المجموعات المحرَّرة من الرسائل الأدبية بموت بطيء.