بغداد :صدرت للفنان المسرحي والشاعر الراحل عزيز عبد الصاحب مجموعته الشعرية التي تحمل عنوان (صحبة ليل طويل) عن دار (ميزوبوتيميا) في بغداد، ضم بين غلافيه 51 قصيدة، ويقع في 112 صفحة من الحجم المتوسط، تضمن قصائد ذات اساليب مختلفة، وقد كتب الشاعر الراحل في تقديمه : (عندي ان الشعر واحد، سواء في قصيدة النثر، او الوزن الخليلي، او العمود ذي القافية الواحدة، القصيدة هي التي تفرض ايقاعها وتختار شكلها، هكذا تنوعت فيما ارسلته اليكم، ارجو ان يقع في نفوسكم موقعا طيبا واشكركم)، وعلى الرغم من ان العنوان ليس مأخوذا من عنوان قصيدة داخل المجموعة، بل من كلمة خالدة سبق له ان قالها عن شؤون حياته :( لست نادما على شيء ولكنها صحبة ليل طويل)، فالشاعر اراد العنوان معبرا بكل ما تحمله كلمات (الصحبة والليل الطويل) من بعد في المعنى وكأنه يرسم طرقات لا حدود لها في الحياة،في ليل طويل بكل ما يمتلك الليل من صفات، وكل ما كتبه عن تلك الصحبة التي يعيش لحظاتها بما في روحه من حنين دائم للاشياء الجميلة ومن تصوف تجذر في روحه ومن عناءات مترعة بها انتماءاته لهذا الوطن وهذه الارض وللناس الذين معه في الحياة،في المجموعة اهدى اكثر من نص الى : اصدقائه ومدنه الاثيرة وعائلته (عدنان عبد الصاحب اخوه الذى رآه ذات ليلة كطائر ابيض)،والى ذيب حماد،عبد الخالق كيطان،شريف الربيعى، حسين الخطاط، الى ابنه الفنان سعد، الى الفنان عبد الخالق المختار، بورخس، ابنته زينب، كاظم النصار، عبد الرحمن مجيد الربيعى، خالد، ام عدنان، الى مدينة العمارة، الى قرية السموع التي قصفتها الطائرات الاسرائيلية بوحشية 1966، والى اسماء بحروف واحدة فقط، كما اهدى احدى قصائده (الى الله)، منها هذا المقطع:
لاتصرف وجهك عنى
من يحفظنى
من ينجينى من نفسى
يأكل من رأسي الطير
يأتي جسدي بين الضفتين
جسرا محنيّ الطرفين)
قصائده الموزعة بين تواريخ عديدة وبعيدة تحمل العديد منها اشارات على انها سبق لها ان نشرت في صحف عراقية وعربية، وهناك ملاحظة على انه نشر قصائد النثر في عام 1969 وفيها اشارة منه الى ان هذا سبق زمني وثائقي لقصيدة النثر في العراق نسبيا،.
لكن المقدمة للمجموعة كتبها الناقد والشاعر علي حسن الفواز بعنوان (الشاعر الذي رأى) قال فيها : تضعنا نصوص الشاعر عزيز عبد الصاحب امام سوانح صاخبة للرؤيا، تلك التي تتقن لعبة استغراق الوجود، تجسّه، تتلمسه عبر هواجس الانا الرائية، الانا التي لاتنفيماحولها، بل تؤكدها، اذ هي تسحبها مثل نص الاعتراف من الاعماق الى البوح، ومن العبارة الى الرؤيا، حيث تتحول غواية الشاعر الى ممارسة في التطهير والكشف، يكتب فيها الشاعراسفاره، ويتقصى هجراته،يلملم خطواته، اوراقه، ويتوه في حمى النشيد، اذ يبادل فيها القصيدة بكتابة الاعتراف، الكتابة التي تتسع للرؤى دائما، تلك التي يتجلى من خلالها عبربوح الصوفي، وحدوس العراف، واقاصي المغامر مجازفة، او حلولا، حتى تبدو وكأنهاتلذذ في ما يشبه كتابة الوصايا، وصايا الكائن الذي يرى، ويستشعر روح الوجود من حوله.
واضاف : يقترح عزيز عبد الصاحب لنصه الشعري الممتد من بداية الستينيات اشتغالات توحي برؤياه التجديدية النفرة بصوته الخفيض، وحسه المسكون بجذوة التغاير والتجريب في فضاءات الكتابة الشعرية، تلك التي اشار اليها ذات مرة الشاعر سامي مهدي في حديثه عن صوت الشاعر في مجرى تحولات التجديد في القصيدة الستينية، سؤال التغاير الشعر عند الشاعر لم يكن عابرا، بل هو جزء من هم شعري وجودي، ورؤيا تستغرق هواجس الذات الباحثة عن سرائر شغفها في اللغة، وفي الصورة، وفي استحضار توهجات التمسرح الشعري، اذ تشتبك في هذا التمسرح رؤيا الشاعر مع سردية الحكواتي، لاختبار امكانية متعالية ومتحولة للكتابة من القصيدة الى المسرح، كما في قصيدة بشر الحافي، اذ تتوسم عبر رهافة الكشف الراصد، بنوع من التجلي التي تكاشفها الرؤيا في استغراقاتبشر الحافي، وفي يوميات عبد الخالق كيطان وكاظم النصار..
وتابع : النص تحت هذه السكنى يكتظ بحوار عميق بين المعنى/الفكرة، وبين الصوت/النداء الداخلي، اذ يسوح الشاعر الى ماورائهما بحثا عن معان غائبة، او رؤى اكثر تماهيا مع لذة الشاعر وهو يبادل وجوده الفيزيقي باللغة، اللغة التواصل، اللغة الوجود، واللغة اللذة، واللغة الحلول..هذا المركبالغوي/ الشعري قد يستدعي قارءه للتماهي مع سحر ماتتطلبهالكتابة المفتوحة، الكتابة التي تتسع بالرؤيا وتضيق بالعبارة على طريقة(النفرّي).
وقال ايضا : ينطلق عزيز عبد الصاحب في هذا الكتاب الشعري نحو استغوار شعرية المتلهف بتوتره العالي، واحساسه الغامر، تبصرا لما يصطنع عبر سحر محمولاته وكشوفاته، من تسام نحو حالة المثال، اذ يلقي بكليته الى وجوده الشعري، تعويضا عن وجوده اليومي، المتعالق بدروب و(مسالك ومهالك)الباحث عن الوجوه والسرائر والتفاصيل، عزيز عبد الصاحب يترك في قصائد هذا الكتاب الكثير من اثره، اثر الشاعر والحكواتي والمسرحي والصوفي، موحيا لقارئه او مريدهبالتقصي بحثا عن استشرافاتافقه الغامر، وبقاياه التي تركتها نصوصا كالوصايا، ونصوصا تشهد على انه الشاعر الذي رأى.
من قصائد المجموعة :
(نهار واحد اضر بك الى هذا الحد
فكيف اذا تخللتك النهارات
وحوصرت بهذه الوجوه الصفيقة
عد الى زاويتك
استتر )
* *
(نام الطفل تحت ظل الشجرة نوما عميقا
وصل البدوى الى المدينة واشترى حاجاته
تحدث البدوى مع نفسه قائلا
غزال صيد ثمين
ساعود به هدية لزوجتى واطفالى
سدد البدوى بندقيته واطلق الرصاص
ركض البدوي باتجاه الصيد.. وما ان اقترب، جثا على ركبتيه
واهال التراب فوق رأسه
اثر هذا الحادث..
حر البدوي صيد الغزلان في هذه المنطقة)
* *
(يابشر الحافي
هاك إنائي
ضع ملحا خبزا فيه
رد علي ردائي
فأنا بردان
وحدي يابشر الحافي
قدماي بلون الحناء
أدماها صوت السجان
) لا لون الورد على الكثبان
بقي علينا ان نذكر ان الشاعر الراحل عزيز عبد الصاحب من مواليد الناصرية عام 1938 وهو احد مؤسسي الفرقة القومية للتمثيل مع رائد المسرح العراقي حقي الشبلي وعمل مديرا للفرقة القومية للتمثيل ردحا من الزمن قدمت خلال ادارته الكثير من الاعمال المتميزة.. وكان عضوا في اتحاد الادباء وعضوا في رابطة نقاد المسرح، كما ان التجربة الفنية والجمالية له في مجالات التمثيل والاخراج والتأليف المسرحي والنقد طيلة نصف قرن من مسيرته الفنية، امتدت اول ما امتدت في معهد الفنون الجميلة في بغداد خلال أعوام (1959 ـ 1961) وتواصلت في الناصرية طيلة اعوام (1962 ـ 1968) وتجلت خير ما تجلت في ابحاره العذب في الفرقة القومية للتمثيل والفرق المسرحية البغدادية منذ اواخر عام 1968 حتى رحيله في صيف عام 2007.