بيروت ndash; خاص:

يُمَنِّي الشاعر المصري شريف الشافعي نفسه بسلامة الوصول، لأن quot;جرحه سبقه ووصل سليمًا، إلى الضفة الأخرى من المتاهةquot;. ففي ديوانه الجديد quot;كأنه قمري يحاصرنيquot;، الصادر عن دار الغاوون في بيروت، يطارد الشاعر خيط الحقيقة في ظلام خلفه ظلام، ولا يصل إلا إلى عطش.
الديوان هو السادس في مسيرة الشافعي، وفيه يعود الشاعر إلى ذاته، التي ينقل عنها نبضها المباشر هذه المرة، بعد تجربته الشعرية السابقة quot;الأعمال الكاملة لإنسان آليquot;، متعددة الأجزاء، التي اتخذ فيها quot;الروبوتquot; وسيطًا فنيًّا يتحدث نيابة عنه.
quot;كأنه قمري يحاصرنيquot;، نص واحد، مكوّن من ثلاثين مقطعًا مكثفًا، أهداه الشاعر إلى سلوى عمار quot;حيثُ تُدَّخَرُ الرؤيةُquot;، بما يوحي بادئ ذي بدء بتعثر الإبصار على النحو النمطي، إذ تحل محله بصيرة أعمق، تسعى إلى ترصّد العالم من خلال استبطان عناصره الخفية. يقول السطران الشعريان على ظهر الغلاف: quot; النورُ: عالَمٌ يَسْكُنُنَا/ والعالَمُ الذي نَسْكُنُهُ: الظَّلامُquot;.
وفي لوحة الغلاف، وهي للتشكيلية سوسانا بوبيدا سولورسانو (فنانة من كوستا ريكا)، تبدو امرأة معصوبة العينين بشريطة سوداء عليها اسم الشاعر، فيما تنطلق من المرأة، وتحوم حولها، عيون، وأفئدة، وشموع، ومفاتيح، كآليات بديلة، لإزالة الحصار القائم، ومحاولة إيجاد مخرج. يقول الشاعر، مجردًا quot;قصيدة النثرquot; من حليها وزخرفها الإيقاعي واللفظي: quot;الحقيقةُ سجَّادةُ صلاةٍ/ تمتصُّ أنسجتُها الظَّمْأَى دموعَنا/ لكنْ لا يزولُ عطشُها تمامًا/ لأنها متشوِّقةٌ/ إلى ما لا تستطيعُ عيوننا أن تسكبهquot;.
العالم كله، في تجربة quot;كأنه قمري يحاصرنيquot; للشافعي، في مرحلة خلخلة انتقالية، يسير على غير هدىً، فلا يقين ولا مطلق. بل هناك إنسان، وشعوب بأكملها، بحكامها ومحكوميها، في مفترق طرق، يبدد خطواتها الضباب، وينتابها اغتراب بعد اغتراب: quot;الغريبُ/ الذي يعبرُ الطريقَ/ ليس بحاجةٍ إلى عصا بيضاء/ ولا كلبٍ مدرَّبٍ/ هو بحاجةٍ/ إلى أن تصيرَ للطريقِ عيونٌ/ تتسعُ لغرباءquot;.
بدوره، يقيم القمر حصارًا استثنائيًّا خاصًّا، كما لو أنه يحاصر الأرض بسواده في حالة كسوف الشمس الكلي من جهة، وكما لو أنه يحاصر الأرض ببياضه وهو بدر تمام من جهة أخرى، وهنا: يستوي البياض والسواد، فالأبيض الباهر والأسود المطلق كلاهما يحتلان الرؤية، ويحتكران حقيقة غائبة عن العيون: quot; كمْ أنتَ قاسٍ وَأَسْوَدُ/ أيها الأبْيَضُquot;.
وتتسع دائرة التساؤلات في النص المفتوح على لحظة الحيرة التي يكابدها الشاعر، ويعيشها عالم لم يعد فيه معنى للمستقر أو الثابت، وتتعاظم قيمة الاستبصار الداخلي quot;الخلايا المشعة بذاتهاquot; كحل وحيد لما عجزت عنه الحواس المعطلة، والمصابيح المزيفة quot;الراضعة من كهرباءquot;. يقول في أحد المقاطع:
الأرضُ للشمسِ:
quot;متى ينقضي كُسُوفُكِ؟quot;/
الأرضُ للقمرِ:
quot;مَنْ أنتَ؟
متى تخلعُ قناعَكَ؟quot;/
الشمسُ والقمرُ للأرضِ:
quot;تساؤلاتُكِ فصوصُ العتمةِquot;
الإبصار الحقيقي في تجربة quot;كأنه قمري يحاصرنيquot; مرهون دائمًا بتجاوز كل ما يحول دون صفاء الرؤية وعمقها، حتى وإن كان ذلك الحائل قمرًا يخال لأصحاب الرؤى الأحادية والسطحية أنه منير. على أن الأمل لا ينعدم طالما بقيت هناك خلايا إنسانية وروحية بإمكانها اختزان الضوء، وإعادة إنتاجه من جديد أمام خطوات وجلة، محقونة بالكذب منذ لامست تراب هذه الأرض: quot;أما الكذبُ، فلمْ يقلْ شيئًا/ ورغم ذلكَ، هو الصَّادقُ الوحيدُ هذا الصباحquot;.
والوصول، الحقيقي أيضًا، لا يتم في النص بغير إزاحة تامة للقشور، وصيد جوهر لم يتأثر بعد بأي عوامل خارجية. يقول: quot;بحثًا عن مطرٍ أنقَى/ عن قطرةٍ عذراءَ/ أتجاوَزُ السحابَ الهشَّ/ صاعدًا/ إلى حيث الماء فكرة في السَّماءquot;.
يُذكر أن الشاعر شريف الشافعي من مواليد مدينة منوف بدلتا مصر عام 1972، صدرت له في الشعر دواوين: quot;بينهما يصدأ الوقتquot; (1994)، quot;وحده يستمع إلى كونشرتو الكيمياءquot; (1996)، quot;الألوان ترتعد بشراهةquot; (1999)، quot;الأعمال الكاملة لإنسان آلي1/ البحث عن نيرمانا بأصابع ذكيةquot; (ثلاث طبعات: 2008، 2009، 2010)، quot;الأعمال الكاملة لإنسان آلي2/ غازات ضاحكةquot; (2012)، وهو يعمل صحافيًّا في مؤسسة الأهرام بمصر. ومن أجواء ديوان quot;كأنه قمري يحاصرنيquot;، نقرأ:
quot;سأمشي على قدمٍ واحدةٍ
وأؤجِّلُ الأخرى للرُّجوعِ
يالَبُؤْسِي
حتى الحذاء أخْطَأَتْهُ قدمي
** ** **
حائرٌ أنا
فيما لا حيرة فيه
لَمْسَةُ كَفِّكِ
أبْرَعُ تفسيرٍ لكفِّي
** ** **
التحياتُ للعناصرِ المشعَّةِ بذاتِها
لا لفوانيسَ راضعةٍ من كهرباء
** ** **
العبيرُ
حيثُ تَعْبُرينَ
والنَّدَى
فطيرةٌ جيِّدةٌ
ليس لها سوى أن تُؤكَلَ جيِّدًا
أما الكذبُ،
فلمْ يقلْ شيئًا
ورغم ذلكَ،
هو الصَّادقُ الوحيدُ
هذا الصباح
** ** **
ليسَ بالنَّفيرِ وحده
تُقادُ الحافلةُ
جنَّ جنوني
إذْ رأيتُهمْ
يتقاتلونَ بجنونٍ
على المقعدِ الأماميِّ الخالي
لا أحد منهم يدركُ
أن النومَ مركبةٌ لم تعد صالحةً
للسَّيْرِ على طريقِ الحُلْمِ
** ** **
حاولي أن تُبصري بشفتيْكِ
حاولي مرةً واحدةً من أجلي
أنتِ لا تتصوَّرينَ كم قاسَيْتُ
كي أذيبَ صُورَتي في كأسِكِ
** ** **
هم مجانينُ فعلاً
أولئك الذين يُطالبونَ المجانينَ
بالتوقُّفِ عن جنونهمْ
لو أن رُمَّاناتِكِ ملغومةٌ
لانفجرتْ عندما ارتميتُ عليكِ كطفلٍ
ولطار رأسي في الهواء
وهو يضحكُ
لا يشتهي الرِّيشُ المتناثرُ
أنْ ينعمَ بالطمأنينةِ في وسادةٍ ناعمةٍ
ولا أن يعودَ مَرَّةً أخرى
إلى الطيور المحبوسةِ في قفصِ السَّماء
لا يعرفُ القنَّاصةُ أين أنتِ
والمفتِّشونَ إذا فَتَّشوني، سأبكي
** ** **
الغريبُ
الذي يعبرُ الطريقَ
ليس بحاجةٍ إلى عصا بيضاء
ولا كلبٍ مدرَّبٍ
هو بحاجةٍ
إلى أن تصيرَ للطريقِ عيونٌ
تتسعُ لغرباء
** ** **
النورُ: عالمٌ يسكننا
والعالمُ الذي نسكنه: الظلامُ
** ** **
غارةٌ تلو أخرى
طيّاراتٌ بلا طيّارينَ
موتٌ لا يخصُّ أحدًا بِعَيْنِهِ
خنادقُ كاملةُ العددِ
أغلقتْ عيونَها
كلُّ ما حولنا قابلٌ للإزاحةِ
بمزيدٍ من الحظِّ
إلا كشَّافات الإضاءةِ القويَّة
كمْ أنتَ قاسٍ وَأَسْوَدُ
أيها الأبْيَضُ
** ** **
كَمَنْ يُصفِّقُ لنفسهِ على طولِ الخطِّ
أُحَيِّي الذينَ يركلونَ الكُرَةَ
غيرَ مَعْنِيٍّ بأهدافِهمْ
التوابيتُ ليس فيها أشرافٌ، ولا شرفاءُ
وملابسُ الحدادِ أنيقةُ السَّوادِ دائمًا
السماءُ نفسها قاتمةٌ
كأنَّ القبورَ نُقلتْ إليها
لِتَسْتَرِدَّ الأرضُ كُرَوِيَّتَهاquot;