قراءة نقدية لمسرحية بستان الكرز في عدة عروض سويدية لكون مسرحيات تشيخوف أصبحت من الثراث العالمي والذي يقدم في كل مسارح العالم مثلآ مسرحية الشقيقات الثلاثة ومسرحية العم فانيا ومسرحية بستان الكرز تعرض سنويآ في مسارح السويد وفي مسرح مدينة ستوكهولم على مدى موسمين لازالت مسرحية بستان الكرز برؤيا معاصرة وتقدم المتعة الفكرية والجمالية وبطريقة عصرية تعيش الواقع اليومي لعصرنا والازمات الاقتصادية والبطالة وحالة الافلاس والقروض والديون وعدم القدرة على تسديد الديون. ناس يدخلون فضاء المسرح بملابس حديثة ولكن المتلقي يشعر بلغة وثراث تشيخوف وكل اللواعج الانسانية وأحيانآ الايقاع البطيئ والحركة في الحوار وحالة الصمت وشاعرية الحوار والابتعاد عن الملل من خلال الشخصيات المختارة من الممثلين والممثلات والجانب المبهر للسينوغرافيا وألوان بتلات الكرز تغطي فضاء وأرضية المسرح وتشكل حالة التناغم مع ألوان الازياء مع ألوان الضوء تعطي طابع خلاب ومبهر وساحر عشنا ساعات مع رؤية المخرج إريك ستوبو ومعالجة إخراجية حولت بستان الكرز الى قصيدة جميلة. مسرحية بستان الكرز فيها أبطال وليس بطل واحد والحوار جميل ومثير ويوحي للكثير هكذا هو مسرح تشيخوف ينساق مع الواقعية الاوروبية فكل الشخصيات تشكل المحور , وفي ستوكهولم شاهدنا السماور الروسي وأقداح الشاي وشرب الفودكا وشخصيات تعيش الحنين والتنهدات ولوم الذات ومناقشات حامية الوطيس لتجاوز أحزان الماضي والاحلام المكسورة وتجاوز حالة الحزن وسوداوية المستقبل المجهول في المسرح الكبير لمسرح مدينة ستوكهولم كانت مدام رانفيسكي الممثلة هيلينا برستروم تتحرك وكل الشخصيات في فضاء المسرح والكراسي والطاولة وابريق القهوة وألة عزف بيانوا وبتلات الكرز تتساقط مثل الثلج وبينما السماور يمثل رمز الفولكلور الروسي . عشنا إنهيار الهياكل القديمة والتحولات الجديدة ونهاية طبقة النبلاء . إستطاع المخرج إيريك سوبو تحويل مسرحية بستان الكرز وأن يحلق بها كقصيدة شعرية رائعة وملأ فضاء المسرح بالعاطفة وتجاوز حدود الحزن والشوق والفشل وخلق تفسير أخر للنص الذي كتبه تشيخوف من خلال الملابس المعاصرة ووجود الكلب وحركته على خشبة المسرح كنا نخشى من سرقة الكلب من متابعة المتلقي لكنه أصبح جزء من الاحداث وفي هذا العرض رغم الحزن ولكن الممثلة هيلينا برستروم بدور مدام رانفسكي تجاوزت حدود المنفى والحزن بسبب موت إبنها لكنها خلقت جو الحب والافتتان أما شارلوتا البنت كانت صاحبة مزاج جميل وإهتمامها بالموسيقى والغناء والرقص وخلقت علاقات حميمية وذات نهايات سعيدة . في عروض سابقة لنفس المسرحية شاهدنا شخصيات تشيخوف المعقدة والحالمة والحساسة وهي تخاف من المجهول وفي هذا العرض المودرن والمعاصر اختفت شجرة الكرز كما في العروض التقليدية هنا الفضاء مضاء بجو إحتفالي وبتلات الكرز تمطر بألوان مختلفة وشخصيات مختلفة وحوارات تلامس شغاف القلب وروعة المشهد الدراماتيكي لقاء الام هيلينا مع وتروفيموف ومشهد الحب وبراءة كايلا الجميلة الحالمة والبريئة وحبيبها ماغنوس المغرم بحبها رغم إنه يملك روح الانتقام لأسرة الاقنان السابقين , والمسرحية في غاية الروعة والمتعة تجد الرقص وألوان وروعة أداء الممثلين وروعة السينوغرافيا وخاصة في الختام تنزل هيرسات الاضاءة الى الاسفل ليوحي المخرج بنهاية موسم الفرح والبراءة والحلم وكل شيئ أصبح في حطام . الشيئ المبهر والمدهش في هذا العرض هو وجود الممثل السويدي الكبيرا إنكفار كايلسون وعمره ٩٠ سنة لكنه لايزال بحيويته ويرفض حالة التقاعد ومستمر في التمثيل على خشبة المسرح. مسرحية بستان الكرز والتي كتبها تشيخوف سنة 1904 وهي اخر مسرحياته التي كتبها قبل موته من نفس العام، وينظر لمسرحية بستان الكرز بصفة عامة على انها من أعظم مسرحياته ويتفق العديد من النقاد والمسرحيين على انها مسرحية ذاث ثراء من امكانية الكاتب الكبير انطوان تشيخوف . السيدة رانفسكايا هي صاحبة الملك لبستان الكرز والذي يمثل رمز لروسيا القديمة والتي سرعان ماستتوارى . وكثرت الديون على السيدة رانفسكايا ولكنها كانت ترفض بيعه لكي تسدد ديونها وهي ترفض مواجهة الحقائق المريرة وتؤجل قرار البيع الى أجل غير مسمى، والكل يناقش تأريخ المكان وماضي البستان والكل يتألم لما ألت اليه الامور والحنين الى ماضيه والاسف والحزن على ماالت اليه الاوضاع من ضعف ووهن ، الجميع يشعر برغبة الحفاظ على هذه التحفة ولكن لوباخين رجل الاعمال يرغب ويريد ان ينهي صفقة البيع باسرع وقت، ويعتبر الطالب تروفيموف رمز الامل والوطنية انه يحب روسيا جميعها بحجم حبه لهذا البستان تسكنه كل اصوات الماضي وهو يتنبأ بما سوف يحصل من ثورة وكل مايمكن قد يحدث قريبآ ، ولكن علينا ان نعمل من احل السعادة والرخاء، الارواح البشرية تسكن في اشجار هذا البستان، ولماذا نحن نتخلف عن حركة الزمن مائتي عام ولم نحقق شيئ على الاطلاق واتخاد موقف من الماضي، شعب يشكو الملل ويشرب الفودكا عليه ان يصلح ويصحح الماضي من خلال الحاضر وانهاء حالة الالم . ربما كانت نصورات تشيخوف السوفيتي لما سوف يحصل في المستقبل وهذا تفسير مثير للجدل وجدير بالاهتمام . فالشكل المأساوي في مسرحية بستان الكرز كان يوحي بالانهيار على مستوى الشخصيات اي انهيار اجتماعي. المسألة ليست بفعل خارجي ولكن بسبب فعل تحلل المجتمع وخراب نفوس افراده وفي النهاية تكون الهزيمة . مسرحية بستان الكرز هي بداية التنبؤ على التغيير القسري في روسيا والتي عرض لنا الاتحاد السوفيتي . الهدوء يسبق العاصفة , مكان ما والناس فيه تتعرض لهزات الظروف قاسية ، الناس تعيش في اعماق الحضيض . ومسرحية بستان الكرز مزيج مابين الكوميديا والحزن عندما يتحول البيت وهو رمز الوطن الذي يعرض للبيع في المزاد العلني بسبب افلاس العائلة وعدم قدرتها على تسديد ديونها وتتحول انانية وجشع لوباخين الى فأس لقلع وقطع اشجار الكرز وهذه نبوئة تشيخوف للواقع

خصوصية المنهج الواقعي في الاخراج
واخيرا ابتدأ الموسم المسرحي لمسرح مدينة ستوكهولم موسمه الاول يعرض مسرحية بستان الكرز للكاتب الروسي انطوان تشيخوف ومن اخراج إيريك سوبوا والذي يعمل مدير لفرقة مسرح مدينة ستوكهولم سبق له أن أخرج مسرحية العم فانيا لنفس الفرقة وقد عمل المخرج إريك سوبوا ثمانية سنوات مدير لفرقة المسرح الوطني في أوسلو النرويج وترجم العديد من مسرحيات جون فوسيه والكاتب هنريك أبسن مسرحيات تشيخوف اجتازت مرحلة التجريب واصبحت جزءا من التراث العالمي المعترف به في جميع انحاء العالم، فقد شاهدت عدة عروض مسرحية لنفس هذه المسرحية بستان الكرز في ستوكهولم ، كما قدمت المسرحية علي المسرح الكبير وبأمكانيات هائلة من حيث مساحة خشبة المسرح وكذلك التقنيات العالية وهندسة السينوغرافيا الراقية وبهرجة الالوان وسيادة اللون الوردي والذي يوحي للفرح وقصص الحب واستخدام الموسيقى المباشرة . حافظ المخرج علي الطابع الشعري واحساسه المرهف بمسرح تشيخوف وفهمه للنـص واعتماد الفهم والمنهج الواقعي في الاخراج كما هو مفهوم ستانسلافسكي وقد تطور في السنوات الاخيرة نحو الرحابة والاتساع الذي يسمح بتطعيم الاخراج الواقعي الصارم بعناصر من المذاهب الجديدة مثل التعبيرية الايحائية , ووفق المخرج في التنسيق بين الاتجاهين علي نحو بديع.
وكان اجتماع الام رانفيسكي صاحبة البستان وابنتها والفلاح الجلف العملي بوخانوف وبقية المساهمين في هذه المأساة وكانت الشرفة والبيت القديم والضيعة فيه توحي بحالة اصحاب بستان الكرز من حيث عجزهم وانهيار ارادتهم نتيجة لعاطفتهم البلهاء وتمسكهم الاعمي ببيتـهم العتيق والذي يــرمز الي التعلــق بما الفوه حتي ولو ادي ذلك التعلق لانهيار حياتهم كلـها وتقويضها وتشريدهـم، بينما عــرض عليهم الفلاح الجلف بوخانوف الوسيلة العــلمية للافــلات من الدمار الذي يتهددهـم، وتلك كـانت طبيعة الشعب الروسي قبل ثورته الاشتراكية حيث كان شعبا عاطفيا الي حد التصـوف وضبابية الرؤية وفقدان الحيلة والعزم علي مواجهة الازمات . فلولا هذه العاطفة المسرفة والتمسك بالقديم البالي لما رفضت السيدة رانفيسكي بيع بستانها ليتحول الي منطقة سكنية حتي تستطيع تسديد الديون التي بيع من اجلها البستان والبيت، مع انها كانت ستخرج من هذه الصفقة في النهاية بما يكفل لها ولبنتيها الاستمرار في حياتهن الرغدة والمطمئنة
وقد عمل تشيخوف علي تصوير الحالة النفسية والتي يسميـــــها النقاد بحالة اجهاض الارادة ثم محاولة تفسير هذه الحالة كأساس للتخلص منها وتمهيدا للثورة الاشتراكية. وفي مسرحية بستان الكرز وصل تشيخوف الي السيطرة علي اسلوبه المسرحي . وفي المنظر الاخير يطلعنا علي العجوز وحده في بيت مهدم ومظلم ينتظر ويسرد نهايته ويشيع في اثناء المسرحية جوا من الحزن والحنين المكتوم لتلك الاشياء الجميلة والتي يضحي بها الانسان اذ تتنهد لويوف وهي تغادر المسرح قائلة يا بستاني الجميل الرقيق، يا حياتي وشبابي وسعادتي .. الوداع وكان الطالب الموجود في المسرحية يخاطب شارلوتا قبل هذا قائلا لها ان روسيا كلها بستان . ارضها عظيمة جميلة فيها كثير من الاماكن الرائعة هنا يمكن رؤية كل الاشياء، روح البشر يطل عليك من كل ثمرة في هذا البستان في هذه المسرحية تختلط الدموع والضحكات والامل واليأس يستغل تشيخوف الي اقصي حد موهبته في الايحاء بشعور الوحدة الداخلية الذي ينتاب الشخصيات، كل منها يتحدث عما في نفسه دون ان يصغي اليه احد ويمضي الحديث وتتجدد الذكــريات، وبعد ذلـك لا اريد ان اظلم النخبـة الممتازة من الممثلين الذين يؤدون هذه المسرحية الكبيرة وانا اشاهدها لمدة ثلاث ساعات كانت هناك سـرعة في الايقاع في بعض المشاهد اضفي علي المسرحية طابع التلقائية الذي افتقرت اليه في الصورة التي شاهدتها في عروض سابقة

عصمان فارس مخرج وناقد مسرحي ستوكهولم
&