"علينا أن نقوم بعمل يشبه وخز الشرايين بالأبـر" (برووك إلى ممثليه)

&الشكـل مـرآة الحـدث
الموضوعة الثانية والجوهرية، تلك التي تسهم في صياغة بنية العرض المسرحي هي: الشكل. والشكل عند بروك، هو بمثابة مـرآة الحدث، أو بكلمة أخرى، هو الضوء الذي ينير عتمة الحدث. في ستينات القرن الماضي كان يهيمن نفوذ كل من "أنتونين آرتو" و "برتولد بريشت"، على جل تجارب برووك، وقد تجسد ذلك في عروض عديدة مثل (الملك لير) مع الممثل بول سكوفيلد، وكذلك في عمله التجريبي (مارا ـ صاد) لبيتر فايس، وعمله الشهير US أو (نحن وأمريكا) الذي تجري حوادثه حول الحرب في فيتنام، وفي تجاربه الشكسبيرية المتأخرة (هملت) و (حلم منتصف ليلة صيف) تلك التي قدمها من على أحد الملاعب الرياضية، والتي طبق فيهما رؤاه المبتكرة بشأن فكرة "المساحة الفارغة"، وفي عروض وتجارب مبتكرة أخرى، استطاع برووك من خلالها أن يكشف التضاد بين نظريتي آرتو وبريشت، أي التضاد ما بين وسائل الصدمة والسكون التحليلي، وأن يتوصل إلى أسلوب ثالث يجمع ما بين هذين الاتجاهين المتطرفين، والذي أطلق عليه حينها تسمية "العرض البصري"، وكان يومها، هو الاتجاه السائد لعروض فرقة شكسبير الملكية التي عمل معها برووك آنذاك.

وفي ستينات القرن الماضي حدثت أيضاً ثورة ضد استبداد ما كان يسمى حينها بـ "السرد الطولي" الكلاسيكي، كشكل من اشكال التعبير، ليس في المسرح فحسب، إنما في ميادين فنية وأدبية أخرى كالسينما والرواية..إلخ.. ففي ميدان الدراما أهمل الكثير من المخرجين هذا العنصر، بل واستخفوا به كثيراً، على الرغم من أنه كان يشكل عنصراً رئيساً لمركزة الحدث، وبرووك، كان واحداً من أولئك المخرجين الذين ساروا في ذلك الاتجاه. إلا أنه وعبر تجربته الإبداعية المشتركة مع زميله المخرج والممثل "تشارلس مورافتس" في العمل على مسرحية هملت، اكتشف أن أسلوب السرد الطولي، هو من أكثر الأساليب فعالية، مقارنة بالأساليب الفنية الأخرى!. حيث قام الإثنان برووك ومورافتس، وبتصميم سابق، في التخلي تماماً عن الأسلوب البنائي، وذلك بتفكيك النص الشكسبيري عنصراً عنصراً، سعياً منهما في إعادة بناءه من جديد، وبطرائق مختلفة تبتعد قدر الإمكان عن التنظيم البنيوي المركزي.
كان الإثنان يبحثان عن شكل مباشر للتعبير، شكل لا يتغذى على عنصر السرد الطولي. وكانت النتيجة التي توصلا إليها، ليس أن السرد الطولي هو من أكثر الأساليب الفنية فعالية بالمقارنة مع أساليب التعبير الأخرى فحسب، إنما إكتشفا أيضاً، أن الحكاية الفانتازية، إذا ما رويت بشكل متقن، يمكن لها أن تخلق قوة استثنائية لعنصر "الترقب" بمحتوى المضامين السردية لتلك الحكاية.

&أعطني أية مساحة فارغة وسأصنع منها مسرحاً
يشبّه برووك المكان أو المساحة بالمثلث الهندسي، قاعدته أو ضلعه الأساسي مخصص لوعي ومشاعر المتفرجين، أما ضلعاه الآخرين، فهما مخصصان إلى الحياة الداخلية للممثلين وعلاقتهم بالمشاركين معهم من الممثلين الآخرين.
إن فكرة "المساحة الفارغة" تلك التي ابتكرها برووك، هي دراسة معمقة لموضوع الشكل، وهي اختبار لجميع الأساليب والأدوات، لغرض تطويعها لمستلزمات العرض
المسرحي. فهذا الأسلوب يشترط إقصاء كل الأشياء الزائدة وغير الضرورية عن خشبة المسرح، كالأسراف والافراط في استخدام الأشياء في الحياة اليومية، إلخ.. وقد ارتبطت فكرة المساحة الفارغة بفكرة "الزمن المسرحي". فالزمن عند برووك، هو ليس الزمن الآلي الكرونولوجي الذي يجري ويتكرر في دورة الحياة، بل هو زمن المخيلة، إنه الزمن المختزل، زمن الفكرة، الزمن السردي، زمن سرد الحكاية!..
المسرح حسب برووك، لا يعيد أو ينسخ أو يحاكي المكان والزمان، كما في الحياة اليومية، وهو لا يسعى إلى نسخ الحياة أو محاكاتها، بل يقترحها ويوحي بها عبر طرق ووسائل بصرية واضحة، محرراً الزمان والمكان من شكلهما وإيقاعهما التقليديين، جاعلاً منهما إطاراً يسبح فيه الفعل المسرحي.

في المكان المسرحي، في هذه المساحة الفارغة، في هذا الفضاء المكثف والمغلق، يجري الزمن بصورة حلزونية، وليس بشكل مستقيم. إنه الزمن المكثف، الذي لا يخضع لعقارب الساعة الزمنية اليومية. إنه زمن المخيلة، زمن الحلم، الزمن الذي أقصيت عنه كل الأشياء الزائدة وغبر الضرورية، الزمن الذي يمكن في إطاره خلق أزمنة عديدة ومتنوعة.
إن الزمن السردي للحكاية يمكنه وفي وقت واحد، أن يتقاطع بشكل منشوري خلال الأبعاد الأخرى للزمن. وهو بالنسبة لبرووك أشبه بلعبة الترجيعات الحرة أو تلك المرايا والانعكاسات التي نعثر عليها في مسرح شكسبير.
بكلمة أخرى، إنه زمن الحياة الداخلية، زمن الذكريات والمخاوف بشأن ما سيحدث في المستقبل. وأخيراً، هو الزمن السيكولوجي. الكثير من الحقائق تظل محجوبة في الحياة اليومية، لكنها في المساحة الفارغة، تستطيع أن تتمركز وتتجسد وتدرك وأن تكون مرئية.
إن مظاهر الزمن الداخلي تتمفصل وتترابط باتساق وانتظام حول البنية الأساسية للمسرحية. وهكذا، فالزمن المسرحي، زمن الحكاية، هو من أغنى العناصر التي تفعم المتفرج بالحيوية وتشد من انتباهه، لمواصلة ومتابعة سير الحدث المسرحي.
في الوقت الذي ينصح برووك المخرجين، بعدم إهمال هذه الطريقة في بناء الشكل، يحّذر في نفس الوقت، من تقييد المخرج لنفسه وعلى نحو صارم بتلك الطريقة. ذلك إن المسرح يمتلك إمكانات كبيرة وغنية للتعبير، تلك التي تسهم في تنشيط وإقامة المستويات المتباينة لبعث الحياة في الحكاية، بإعتبارها أولاً، أسطورة لها جذورها وترجيعاتها في اللاوعي، وثانياً، بإعتبارها عرضاً مسرحياً مجسّد مادياً ضمن فريق متحّد بذاته عبر الهرمونية والبناء والبناء السمفوني.

&العبور من المجرد إلى المحسوس
لقد تناولنا المكان والزمان لنخلي الطريق إلى عمل الممثل والمخرج للبدء في ممارسة تمريناتهماعلى خلق الشكل المسرحي للعرض. الشكل يبدء وينتهي، بالنسبة لبيتر بروك، بانتهاء التمارين المسرحية "البروفات". إنه ينبثق في البدء، من إحساس داخلي هلامي شبيه بالطيف أو اللون أو الرائحة.
ان العنصر الرئيس بالنسبة لبروك أولاً وأخيراً، هو تجسيد الفكرة، في مكان وزمان محددين. لذا نراه يبدء شوطه التجريبي مع جميع عناصر العمل، من ممثلين وديكور وإضاءة وألوان، بإحساس يخلو تماماً من الشكل والبلورة، محاولاً نسيان جميع التقنيات وأساليب البناء، تلك التي كان استخدمها في عروضه السابقة، أو تلك التي اكتسبها بطريقة التجربة والخبرة، مولياً اهتمامه في هذه المرحلة من الاستعداد، في التحرك صوب الفكرة!.
الشيء الهام والجوهري بالنسبه له، هو البحث عن المفردات والوسائل، من أجل تحويل ذلك الإحساس البدئي الهلامي الداخلي، إلى شكل شبه مادي. فهو على سبيل المثال، يبدأ في بناء الديكور، ثم يقوم بعدها بهدمه، ثم يشّيد ديكوراً جديداً، ويعود فيهدمه. عملية الهدم والبناء هذه، تتخللها بالطبع تمرينات وتدريبات متواصلة، وهي، في النهاية، هي من يحسم ويقرر بنية ذلك الديكور وبقاءه.
وهكذا وبالتدريج، يأت دور اختيار الملابس والألوان وبقية العناصر الأخرى، بذات الطريقة. تلك العناصر التي تشكل في الآخر "لغـة" تسهم في ترجمة ذلك الإحساس الهلامي الداخلي إلى شيء ملموس!.
بمعنى آخر، إن الشكل يظل خاضعاً على الدوام إلى جميع هذه الاعتبارات والاختبارات.. ومع ذلك، وحين ينبثق ذلك الشكل، فإنه يظل، عند بروك، مفتوحـاً وغير نهائي. وفي هذه الحالة، يمثل هذا الشكل مجرد منظر أو ديكور أو مكان. والمكان هو أحد العناصر الرئيسة عند برووك، فهو يشبه الرسم البياني، الذي سيكتسب وجوده وحرارته، في المرحلة اللاحقة، التي هي بدء التمرينات مع الممثلين.
في هذه المرحلة يسعى برووك، وقبل كل شيء، إلى خلق المزاج والمناخ الملائمين لممثليه ومنحهم أقصى درجات الحرية لإنتاج شيء ما من ذواتهم، بغضّ النظر عن الأشياء التي يمنحها النص..
لهذا السبب ينصح بضرورة أن يكون كل شيء في المراحل الأولى للتمرينات على المسرحية، مكشوفاً ومنفتحاً الى أقصى الدرجات دون فرض أي شيء محدد. و(هذا بالضبط ..) يقول برووك ".. هو ما يضع العمل في طريقه إلى خلق الأسلوب الذي يتجه صوبه عمل المخرج منذ الأيام الأولى للتمرينات مع الممثلين. وأنا كنت بدأت هذه الطريقة منذ فترة طويلة، وأستطيع الآن الجزم، إنها الطريقة الأكثر أصالة وديمومة باستمرار، للبدء في التمرينات مع الممثلين.."
إن الطريقة التي يحبذها برووك للمباشرة في التمرينات مع ممثليه، هي البدء بأي شيء، باستثناء الأفكار!. والذي يلعب الدور الرئيس في هذه المرحلة هو عنصر الارتجال، بغض النظر عن اشتراطات النص، أوالزمن التقليدي للبروفة. ففي عمله على رائعة بيتر فايس "مارا ـ صاد" مثلاً، أنفق برووك ما يقرب ثلاثة أرباع مدة التمرينات على المسرحية في حّث وتشجيع فريقه التمثيلي وحث نفسه هو الآخر وبشكل متبادل مع ممثليه، على إنتاج أشياء مبتكرة تكمن خلف النص أو تحته!. ليس أي نص بالطبع، ولكن النص الذي يمتلك تلك القدرة على تفجير مخيلة القارىء أو الممثل. وفي هذا الصدد، كتب قائلاً: "... يوجد في مارا- صاد الكثير من الإسراف الباروكي والفانتازي للأفكار. وهكذا، فاالذي يرقب عملنا في التمرينات ونحن مستغرقون في إقصاء الزيادات والزخارف، تلك التي شغلت ثلاثة أرباع زمن تمريناتنا على المسرحية، سوف تنتابه حالة من التفكير، في أننا نسعى إلى إلغاء وحجب فكرة المؤلف، عبر ابتكاراتنا وارتجالاتنا التمثيلية والإخراجية. لكن، لو أن هذا المراقب منح نفسه القليل من الصبر لمواصلة العمل معنا إلى الآخر، لخرج بنتيجة معاكسة تماماً.."


النص بالنسبة لبرووك هو منطلق العملية كلها، فهو الذي يثير كل تلك الدوافع التي تحّفز المخيلة. إن ما حدث لمارا- صاد، حدث أيضاً مع عرضه الشكسبيري الشهير "تيتوس أندرونيكوس" فقد اعتبره النقاد أفضل بكثير من النص الشكسبيري نفسه!. لكن برووك، الفنان الصادق والخلاق، يلفت نظر أولئك النقاد إلى حقيقة أهّم، بقوله: "... هل تستطيع أن تعطيني نصاً مسرحياً بوليسياً مثيراً، وتقول لي إعمله مثل ما عملت تيتوس أندونيكوس، سأقول لك حالاً.. لا أستطيع .. لأن نصاً كهذا لا يخبىء أسراراً، تلك التي أستطيع أن أنهل منها، لتفجير مخيلتي...!"
يؤكد برووك في مرحلة التمرينات على أهمية عنصر الابتـكار. إبتكار أي شيء، رديئاً كان أم سيئاً!. إنه لا يخضع ممثليه ولا حتى نفسه إلى أي نوع من الرقابة، لأنه لو فعل ذلك فإنه سيوقف السيل الدينامي المتدفق للمخيلة. أي يصبح بمثابة سد منيع إزاء حرية تلك الأشياء المتدفقة، وعندها ستفقد الأحاسيس والمشاعر نبضها وتصبح كتلة صماء. في هذه الفترة، والتي تكاد تشبه فترة المخاض لابد أن تتوج بولادة!. ولادة طبيعية، بالطبع، وليس ولادة مشوهة، ولادة كائن حي حقيقي ينبض بالحياة. عندذاك، وبشكل تدريجي، تبدء الكثير من المفردات بالتشكل..
برووك يصّر على إنجاز هذه المرحلة بشكل خـّلاق لغرض تشكيل وصياغة نوع من الصلة بين ممثليه وبين ذلك الإحساس الهلامي الداخلي البدئي. ولأجل وضع تلك البدايات فإن التمّاس بين تلك الابتكارات الشخصية سيسهم حتماً في بروز العنصر المؤثر من الانطباعات الشخصية للممثلين ضمن معادلة (الدور ـ النص) ككل، والتي تبدأ في التدفق بشكل حر وتلقائي.
مهمة المخرج هنا، هو الحفر عميقاً وعميقاً في ذاكرة الممثل، في خزائن وعيه ولاوعيه، بشكل متواصل. وفي حالة إنجازه هذه المهمة بنجاح، يكون هو وفريقه التمثيلي قد فكروا وتأملوا وجربوا وأخيراً قلبوا كل بنية المسرحية.
في التمارين الأخيرة من فترة التدريبات على المسرحية، يتخذ عمل الممثل موقعاً معتماً!. وهذا مايطلق عليه بروك بـ "الحياة السرية للمسرحية". وهكذا، وبشكل تدريجي، يبدأ الممثل ممارسة وظيفته في إضاءة هذه المنطقة المعتمة، حينها يتفجر الضوء!. عند ذاك، على المخرج أن يتموضع في تلك المنطقة المضيئة، لغرض رؤية الفرق بين أفكار الممثل وأفكار المسرحية ذاتها. هنا، ينبثق دور المخرج بشكله الخلاق.
&بمعنى، إن عليه مهمة شاقة وعسيرة وهي اقصاء كل تلك الأشياء الزائدة وغير الضرورية والدخيلة والمرتبطة إلى حد كبير بشخص الممثل فقط، والإبقاء على الأشياء التي تنتمي إلى حدسه وإدراكه المرتبطين بالدور والمسرحية. وهكذا وبسبب من أولوية عمل المخرج وجوهر وظيفته، مضافاً إليهما حسه الداخلي البدئي، يستطيع هو أن يميز بين ما ينتمي إلى المسرحية، وبين ذلك الذي جلبه الممثل وأياه إلى العمل من حشد هائل وفائض وغير ضروري. هذه المهمة، حسب برووك، هي المهمة الأساسية والجوهرية للمخرج في المراحل الأخيرة من التمرينات على المسرحية. ولأجل أن ينجز المخرج هذه المهمة بشكل خـّلاق، عليه أن يكون صارماً حتى مع نفسه، لأن أي ابتكار يخلقه يحتوي بالضرورة على نكهة أو نفحة من نفحاته.
المخرج يقوم بابتكار جزء بسيط من العمل، شيء ما، غرضه توضيح شيء آخر. إلا أن جميع تلك الأشياء تتلاشى ولايبق منها سوى الشكل العضوي، لأن الشكل هو ليس فكرة أو مجموعة أفكار تقحم بالقسر على المسرحية. الشكل، هو العنصر الذي يضيء المسرحية، والمسرحية المضاءة في المحصلة، هي الشكل!.
حين تظهر نتائج العمل عضوية وموحدة، فهو ليس بسبب من الرؤية المتماهية والموحدة بين المخرج وفريقه التمثيلي، بل، وحسب برووك، هي بسبب من مشاركة جميع تلك الرؤى المتباينة لفريق التمثيل في الفترة الأولى للتمرينات على المسرحية.
هكذا يشيّد بروك عالمه التخييلي، بهذا الحضور الملموس للمخيلة الجماعية، وشحنه لتلك الأخيلة التي سوف تتدفق على خشبة المسرح لتتجه صوب القاعة برفق ورشاقة عابرة الجسور والسلالم والخيوط الفاصلة لتصب في نهر الحياة اليومي الواقعي الملموس..

مراجع:
(1)The Empty Space, The Shifting Point,There Are No Secrets, Peter Brook.
(2) Peter Brook and The Mahabharata by Yoshi Oida. (3) Peter Brook and Tradition Thought b Basarab Nicolescu.
(4) Peter Brook and The Mahabharata by Yoshi Oida.
(5) On the Art of NO Drama by J. Thomas Rimer Yamazaki Masakazu.&
&
&