&1
يفتح الشاعر والمترجم عبدالقادر الجنابي، في كتابه المعنون: (ما بعد الياء/أعمال شعرية وشقائق نثرية 1974 2014) الصادر حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر/2015، فوهة اللغة الشعرية على كل منحدراتها الفنية والزمنية، فتخرج الألفاظ والجمل والعبارات عن معانيها، وينحرف المعنى عن مألوفيته وتبدأ الدلالة بالانتقال من شكلٍ إلى آخر وكأنها مستوحاة من صياغتها الأسلوبية المتحررة من اشباح اللغة الساكنة ما يجعل القراءة النقدية تستدعي التجربة المتصلة بالكتابة الشعرية المتجددة نفسها، مثلما تؤكد التجربة عن صياغة جديدة للوعي الشعري أو لعلاقة الشاعر بلغة النص والإلتفات إلى النص الشعري لا بوصفه مجرد شكلٍ بل بوصفه شكلاً جديداً ودالاً، فاستعادة النص وصياغته في بنية شكلٍ لا ينفيان علاقته بمرجعٍ لغوي متجدد أو أسلوبي وجمالي جديد، من هنا يمكننا الإشارة لما كتبه الشاعر: (ما هو موجودٌ من شعر، ليس سوى شبح فوق الورقة ص 160).
إن الجنابي، وابتداءً من نصوصه الأولى، وعبر صياغته اللغوية المتجددة للنصوص (الأوائل والأواخر وبالعكس) لا يتوقف عن طرح الأسئلة: يطرحها على المعنى واللغة ومشقة الكتابة، على الفكرة الشعرية المتماهية مع المخيلة كما على أسلوب كتابتها، وكذلك على الكتابة الشعرية بالذات، أنه يجهد أن لا تنطلق النصوص من الجاهز الشعري، ولا من المتعارف عليه لغوياً ولا من اليقين، لأن الشاعر الذي يساوره اليقين سيتوهم المعرفة الشعرية، بل ينطلق من التساؤل المعرفي الذي يدفع باتجاه التعرف والمعرفة والوعي الشعري المتجدد أو اللفظة والصورة والعبارة الشعرية المتحركة في فضاء النص الشعري، لنقرأ هذه الجمل الشعرية: (الشعرُ لا يتمكّث، مجرةٌ من الأفكار تتلألأ فوق رأسي، كل الأفعال مُزينةٌ بالكلمات، المعاني تتحزم، ترتجف كغزلان، كأن ذئباً يختفي في البياض، رأيت واوات تنتظر ريثما يحفر شُعراء العطف آبار النوم ص 186).
في هذا الكتاب الشعري، الذي يضم مختارات من كتبه الشعرية السابقة ووزعت هنا فصولا عناوينها "في هواء اللغة الطلق"، "صور بغدادية بعدسة الذاكرة"، "مصرع الوضوح"، "السردُ بين الحلم والفلقة"، "في دفترك، العام الماضي"، "ثوبُ الماء"، إضافة إلى الشقائق النثرية التي كتبها ما بين 1974 و 2014: ضمها فصل "الجانب الآخر من مرآتي"، و"العنوان زمن القصيدة" خاتما الكتاب بإشارة إيضاحية متصلة بتجربته في الكتابة والترجمة نقتبس منها هذه العبارات: (كل شاعر لهو مسكون بما هو طاف في مياه ذاكرته ص 395). ثمة رغبة جمالية في تجديد الشكل الشعري وإغناء النصوص الأولى للشاعر، بمعنى تنظيم جديد للنصوص أو العودة إلى النصوص الأولى المرتبطة بذاكرة الشاعر ووضعها في سياق جديد أو في عراء الذاكرة: (احملْ ذاكرتك إلى العراء ص 38)، وهذا يعني، بالنسبة للقراءة النقدية، أن كل فكرة شعرية تقابلها أو تجاورها أو تتجدد معها فكرة أخرى وأن كل نص قديم، وأعني زمن كتابته، يخفي وراءه نصاً جديداً وأن التقابلات اللغوية وأن كانت فنية في صياغاتها الأسلوبية فإن تقابل النصوص ما بينها يخلق الشيء الجمالي الجديد الموازي للذاكرة لا المستعاد.
إن الجنابي، في كتابه، يؤنسن النص وينظر إليه بحميمية وإفراط في الاتصال والتواصل، وبذلك يكون أو يبدو النص الشعري وكأنه دعوة مختلفة إلى تجديد الإحساس بالمعنى وبالمفردة أو الجملة الشعرية المتحركة مع المخيلة، المتماهية مع الذاكرة، ومن خلال هذه الدعوة، أيضاً، يسعى إلى مراجعة الخصائص اللفظية والجمالية والرمزية وتبعاتها من العناصر اللغوية المتعلقة، أيضاً، بخصائص الإيحاء أو الخلق الشعري المتصل بأسلوبية شعرية خالصة ومجردة، لنقرأ هذه الجمل الشعرية الموجزة: (كل شيء، إلا هذا الفائر في ذكرياتك، تراهُ يتحرك أمامك وأنتَ نائم ص 44) (ماذا أصنعُ بذكرى لا تستطيع أن تكون سوى ذكرى؟ ص 93)

2
يتلمس القارئ، في كتابه، غواية اللغة وغموضها ما يجعل أسلوب الإيحاء اللغوي يكشف عن الطبيعة الجدلية لدلالات النص التي تجلو، بدورها، خاصية التواتر الداخلي في ظواهر اللغة والحياة والتجربة الأمر الذي تعجز معه وسائل اللغة الشعرية التقليدية وربما كان الناقد يوري لوتمان في كتابه: (تحليل النص ترجمة محمد فتوح أحمد) هو أول من أدرك (وضوح هذه الطبيعة الجدلية المتصلة بدلالات النص الشعري) وقد تتضح هذه الطبيعة الجدلية أكثر حين يدرك القارئ أن النص في الحياة واللغة والتجربة هو الذي يخلق هذه الحركة اللغوية الموازية للتناغم الجدلي الحاصل في النص الشعري، لنتأمل هذه المقتطفات: (اجلس معي يا أخ اللوح والحكمة فكل ما يتدفق إلينا ساعةٌ عقربَ ساعةٍ ص 18) (حِدْ عمّا لا يُذكي ناراً، الموت يسيرُ كفاصلة ظِمْءَ الكلمات، اجلس بتراخ خلف الضوء، لا تقف فوق القمة، لا تكن جرس القريةْ أو لساناً للأخرس ص 29) (ابكِ على الظلمة المتراكمة في فضاء السكون ص 31) إضافة إلى هذه الالتقاطة المغايرة من قصيدته التي ضمها كتابة الشعري في هواء اللغة الطلق/1978 والمعنونة سيرة طائر والمهداة إلى أنسي الحاج: (العالمُ لغة ص 34).
يصر النص الشعري، الذي يكتبه الجنابي، على التحصن بالمعنى الجمالي، فبعدما دحض قوانين النظم الشعري وقواعده التقليدية (اذهبْ عنّا أيها الشاعر، اترك أوزانك تنعم زمناً غيرَ زمنِنا ص 47) كان عليه أولاً أن يثبت هوية النص بوصفه نصاً مختلفاً يقترب من التنظير المتصل بالكتابة الشعرية أو انعكاس خفي لروح الكلمات أو رؤية جمالية للنص تخرجهُ، تالياً، من دائرة التصنيف والتكرار والتماثل، ومن الطبيعي أن يتمايز هذا الاصرار المتصل بالنصوص من تجربة شعرية إلى أخرى، قد تصل لدى الجنابي إلى درجة لا نهائية تتسرب بين شقوقها العبارات والجمل، (الشقائق) والشذرات في تحرك هيولي أيضاً، وليس للقارئ في هذه الحالة إلا أن يرقب التحرك بحدس جمالي ونقدي، ينقله من لحظة الإحساس بالمعنى الشعري إلى اللحظة المصحوبة بتموجات اللغة الشعرية والدلالات الخفية المتوارية والمتوافقة، أيضاً، مع المعنى، لنقرأ أيضاً: (ولا زواج بين الأفكار، فالفكرة تعيشُ في الظلال كالحظ السيئ، تنسج حولها الأوهام ص 48)
يسعى الجنابي، في نصوصه، إلى إضاءة ما هو متميّز وخاص في بعض البنى الفنية المتصلة بالنص، وتأثير البنى في هذا التميّز، مع سعي دائب في محاولات تمييز النص الشعري أيضاً، الموازي للتجربة الستينية وتداخلاتها وإشكالاتها، صخبها وبياناتها، ليس فقط انطلاقاً من موقف نقدي يدعو إلى ضرورة التمييز هذا، بل انطلاقاً من التميُّز الحقيقي للنص الشعري المغاير. كما تتميز أغلب النصوص الشعرية، في كتابه هذا، بأنها تغرق في التنظير الفني للشعر، بل تصل إلى التنظير عبر قراءته الفنية اللغوية للنص، كما تصل المعرفة بالنص عبر التنظير الفني، ومن خلال شغله النقدي على النصوص استطاع الجنابي أن يكشف جوانب كثيرة مما هو متميز في النص وأن يرسم معالم جديدة في مشروعه الشعري، وقد لمست القراءة هذا المسعى الموازي للتجربة في هذه الالتقاطات الشعرية: (فالتاريخ اغتصب ملحمتنا، عيوننا الزائغة زججها المثال، لم نعد نرى من خلفنا سوى الأمواج تُعير أذناً صماء لما ينبغي أنْ نكون ص 49) (أيها الماضي، إنك لم تمت، فكلما أبتغي الانطلاق في اللانهائي أجدك واقفاً أمام الباب ص 67) (التاريخ تسكنهُ اللغة ص 74) (المعرفة مطرٌ ينزل وسط الكلمات ص 181) (كان يافعاً، كان المستقبل يذوب أمامه في مستنقع الساعات ص 195).
وفي الواقع، فإن معرفة النص أو صياغته المتجددة، في خصوصياته، وأعني في العناصر المكّونة لبنية النص، ورصد تأثير البنى الفنية التداخلات اللغوية في بنية الشكل الشعري نفسه وتقنياته، وكشف المعنى والدلالة معاً، في داخل الصياغة المتجددة للنص، هذه العملية لم تكن سهلة، بل هي تطلّبت، كما ترى قراءتنا، ولا تزال تتطلب جهداً جمالياً في الممارسة والإغناء والتطوير لإنجازها، وهي تتطلب بالأخص تطويعاً لغوياً للمعنى الشعري أو تجديداً للمخيلة، وهذه عملية صعبة لا تتحقق على المستوى التنظيري للشعر، بل عبر البحث والتجريب أو الممارسة الدؤوبة المتصلة بالكتابة الشعرية نفسها، وعبر حركية النصوص الشعرية، وهذا ما تواصل الجنابي القيام به وصولاً إلى كتابه هذا، الذي يستدعي ولا شك الكثير من الأسئلة النقدية المتصلة بكتابة الشعر أو طبيعة التعاطي مع اللغة، لنقرأ: (لغةٌ تتململ في الداخل، تنزف الخارج، تلهجُ موتها البعيد ص 54). لقد أنصف الجنابي زمن النص في اعماله الشعرية وشقائقه النثرية، فنوّه بطريقة جمالية، للقارئ، مساهمة الزمن المتجدد في رفع درجة ادراكنا لطبيعة الجملة الشعرية المكتوبة وبما يتعلق بعملية الكتابة الشعرية وحركية الكلمات خلالها، كما وسعت صياغاته المتجددة للنص من مجال تطبيق أفكار النقد المغاير بحيث اذنت للقارئ بتجاوز الحدود المكانية أو الفواصل الزمنية المتصلة بالنص، لنقرأ: (من ضلع الأفعال تنبجس الأسماء، ومن عين الأسماء تتسامى الأفعال درجة في سلّم الخلق: فليكن... وها هي ولادة جديدة للكون ص 197).
قد يتعمد الجنابي، وهو يفكر بكتابة قصيدة، اخفاء المعنى الشعري، في بعض نصوصه، والتعبير عنه بطريقة تنوب عنه، وقد يفطن القارئ إلى ذلك وقد لا يفطن، وفي كلتا الحالتين يكون القارئ مدعواً إلى الحفر والتفكيك والنفاذ، من خلال النصوص، لاستبطان ما تخفيه العبارات والصور الشعرية والإشارات، ولأن الجنابي يستند في كتاباته الشعرية، كما يبدو للقراءة، إلى تجارب متنوعة ومشاكسات لفظية وإشكاليات نقدية متصلة بالتنظير أو تطبيقات لغوية مختلفة، وهذه الأخيرة لم تأبه إلا بالتنظير الفني المتصل بالشعر ولمرجعية الوعي المتجدد والتجربة، من هنا نتفق مع ما قاله الجنابي في حوار معه منشور في العدد 3825/8 تشرين الثاني/2010/جريدة المستقبل اللبنانية: (حتى عندما أكتب قصيدة أفكر على نحو تنظيري).

3
يقوم الجنابي في كتابه، على إبراز الامكانات اللغوية المختلفة والقائمة، في نفس الوقت، في معاني الكلمات والألفاظ، والتناسل الجمالي الذي يمكن أن تتفرع منه وإليه معاني المفردة الشعرية الواحدة، بما يؤكد أن النص، الذي يكتبه الجنابي، حمّال أوجه، وأن مكونات النص الشعري التي تواجه القارئ في قراءته النقدية للنصوص هي التطابق بين أساليب الإدراك الحدسية والعقلية أو بين المستوى الفني الظاهر من النص والمعنى الضمني المتصل باستعارات الشاعر اللفظية وإشاراته الرمزية والفكرية، ويمكن أن نضيف لكلامنا هذا، أن الشاعر لا يرجئ المعنى في نهاية نصه أو بدايته بل نراه، بعد استعراض مختلف الأساليب اللغوية أو بعد الإضافات اللفظية للنص، يميل إلى كتابة المعنى ضمن السياق الفني الذي يحكم النص الشعري بتؤدة وتمهل.
يبدو لي أن الشاعر يراهن، في كتابه، على الوصول إلى ترجيح المعنى الأجمل أو الصورة الشعرية الأنسب، في النهاية وذلك لأن التباس المعنى اللغوي عنده، أحياناً، ينشأ لا من عدم التمحيص في اكتشاف السياق اللغوي الشعري الأقدر على كشف دلالة المفردة والعبارة أو الجملة الصورة الشعرية بل من الاستراتيجية الفنية المتماهية مع سيرورة لغوية متجددة ومشاكسة، ولأن السياقات اللغوية، التي يمارسها الجنابي في نصوصه ومشاكساته، متعددة ولا يمكن ان يتم حصرها في زاوية نقدية ضيقة، وهذه الإشارة التي سقناها فيما تقدم تبدي لنا من إعادة صياغة الجنابي لحدسه المتصل بمعنى النص الشعري أو المفردة الشعرية، هذه هي المقاربة التي تصور لنا الجنابي لا بوصفه شاعراً أو مترجماً للكثير من النصوص والأنطولوجيا الشعرية وحسب بل قارئاً نقدياً أيضاً (يبصر الحدس في منطقة العمى) على حد تعبير بول دي مان في كتابه المعنون: (العمى والبصيرة، ترجمة سعيد الغانمي).
ثمة مسار أو توق إلى التجدد والمغايرة، وقد تبدى هذا التوق في شكل النصوص المختارات التي يراد لها أن تكون متحركة في الزمن المتجدد، ولعل في ذلك ما يمثل بعض وجوه التطابق بين الشاعر ونصه من جهة والرؤية المغايرة لزمن النص من جهة أخرى، إن المسار التوق الذي اتخذه الجنابي في كتابه يشي بأن نصوصه الأولى تتماهى مع دلالاتها المتصلة بنصوصه الأخيرة، والحق أن الشاعر، في مساره أو توقه هذا، لم يُخَيّب تصوراتنا النقدية، إن هذه المحاولة المتصلة باعماله الشعرية وشقائقه النثرية هي بمثابة لمحة جديدة، وقد تتأدى بنا إلى مزيد من اللمحات النقدية المغايرة والموازية، فالجنابي الذي يكتب بأسلوب شعري فيه الكثير من التجديد الذي يواجهه القارئ أو (مخصباً قارئه بقهر اليأس ولعب الخيال وحدس الوحدة حسب ما جاء في كلمة أنسي الحاج في الغلاف الأخير من الكتاب) ولا يمل من تذكيرنا بإشارات لغوية متحركة يتخذها قاعدة لمقارباته اللفظية والصورية والزمنية، وهي إشارات ترد في نصوص (الأوائل والأواخر) وليست إشارات تنتهي إليها الكتابة الشعرية نفسها، والشاعر ينطلق منها، أعني الإشارات، كحقائق جمالية ملموسة دون أن يفكر أبداً في عرضها للقارئ النقدي، وفي أُس ذلك يقع التصور النقدي بأنه من شبه المتعذر نزع نص شعري من تربته اللغوية الأولى التي ظهر فيها وطبيعة التجربة الأولى، أو المعنى الذي نما بداخله واستنباته في أرضية لغوية أخرى وأساليب لغوية مغايرة متصلة بتجربة متجددة، إن هذه الفكرة جديدة وتأتي بأكثر من شكل من أشكال التعبير الشعري الجديد أيضاً، لنتأمل هذه الالتقاطة: (عشرات من الديدان تنخرُ النص، تأكلُ شفير الكلمات ص 214).
إن مجمل النصوص التي يقدمها الكتاب هي لتأكيد تأثير الزمن الشعري الموازي للنص، ولبيان العلاقة النقدية بين تصورات الفكر الشعري من ناحية والإشارات الجمالية من ناحية أخرى، إن هذه النصوص بأهم مشمولاتها الفنية أو حمولاتها اللغوية إنما تجد مرجعياتها في تضاريس التتبع الزمني الذي يضع الجنابي يده عليه، ويأتي المعنى، موازياً، ليسير في إثره القارئ دون ما يشي النص بأن معاينته، نقدياً، قد عدّلت، بطريقة جمالية محسوسة أو بأسلوب هندسي، من زاوية النظر والتصور أو منطق الرصد النقدي المتمادي مع زمن النص الذي يأخذ، كما يبدو للقراءة، باقتراح الشاعر في إعادة الصياغة الثنائية المتصلة بالمعنى واللغة من جهة أو بالحياة والتجربة من جهة أخرى وقد نقتبس من كلمة الشاعر أنسي الحاج في الغلاف الأخير أيضاً هذه الجملة المقاربة لما ذهبنا إليه من تفسير الزمن المتصل بالنص: (الزمن معه لا يمر: إنه يحفر في داخل كهف الحلم، منبجساً من تحت ماء نبع لا ينضب، هو نبع اللاوعي الأبعد غوراً من فجر الحياة).

4
يستدعي الجنابي تجربته الذاتية مع الكتابة الشعرية، التي حاقت بمفهوم اللغة الشعرية واستخداماتها منذ البدايات الأولى، وفي إشارة أخرى يتبنى الشاعر أسلوباً جديداً في صياغة أو إعادة تقييم النص داخل السياقات اللغوية، ولتمييز الأسلوب الشعري الذي مارسه الجنابي كحلقة اتصال وتواصل تأريخية متشربة بروح تجريبية مغامرة دعت إلى هيمنة المعاني المتجددة والاتكاء على قراءة الدلالات واستعادة صياغة الجمل وفقاً لمقترحات التجريب الشعري، من هنا يبرز الشكل اللغوي الجديد للنص، كما اختاره الشاعر بوصفه أساساً للمقاربة الجمالية والفنية للنصوص الشقائق الشعرية، وهو هنا أيضاً لا يلوذ بنصه القديم، تأريخياً، بل يستدعيه لمقابلة الجديد، تجريبياً، الذي لا يشطر المعنى، المتصل باللغة، إلى معنيين، بل يستضئ بالمعنى الأول لتفسير المعنى الجديد أو المتجدد، لنقرأ: (آتٍ يقوم غداً، ينطقُ بوجه ماضينا، يُدبّس لنا الأفقَ، يُنجب ما لمْ يُنجب ص 219).
يتلمس القارئ مخرجاً نقدياً للتطابق الفني بين هذه المختارات الشعرية التي بنى عليها الشاعر فكرته في إنجاز هذا الكتاب من جهة، وميله الجمالي لصياغة هذه المختارات من جهة أخرى، كما حقق هذا الكتاب، خلافاً للأساليب التقليدية الاكاديمية في جمع المختارات، تغلغله الجمالي اللغوي الذي اخترق تأثيرات القراءة النقدية العابرة، ولا أظن، كقارئ، أن الشاعر، بأسلوبه هذا، لم ينتبّه للمعنى اللغوي الجديد المتصل بالنصوص، وإن الشاعر لا يجد مناصاً هنا من استحداث تجريب شعري لا يرتهن لفترة زمنية ما أو لمخيلة ساكنة ولا يحشر المعنى في تأريخية الكتابة بل يدعم صدقيتّها اللغوية والفكرية والرمزية ويرمم معايير الألفاظ والجمل ومحددات الدلالة، وبهذا يقدم للقارئ نص شعري لا يحكمه التأريخ والزمن أو اللغة الساكنة بل موجبات التنظير الفني والجمالي، لنتامل هذه العبارات: (لكنْ في القاموس، في قعر المكتوب، كانت ثمة ألفاظ تليدة، أوابد متقطعة من جسد اللسان، تسبح عريانة بين كُتل الطّمي ص 230) إذن، عنصر التجديد أو الإضافة، في هذا الكتاب، هو الذي حرر ملفوظات النص الشعري من إحالاتها اللغوية الساكنة لتغدو قادرة على إحالتنا إلى ما هو أبعد من المعنى، أو أبعد من حدود الدلالة وإلى ما خارج الحياة وداخل التجربة، ويمكن أن نشير إلى أن عنصر الإضافة هذا يجعل مثل هذه المختارات نصوصاً متحركة أو كصورة جديدة عن التجربة المتصلة بالنصوص والتي تميّز زمن كتابتها بكونه زمن النص وذاكرة الشاعر، وفي المقابل ثمة نصوص لم يكن زمن كتابتها زمن النص وإنما زمن الذاكرة الشعرية المتماهية مع ذاكرة الشاعر.

5
لا يرتبط هذا النص أو ذاك، في أعمال الجنابي الشعرية وشقائقه النثرية، بسابقه المكرس لحركية المخيلة وطبيعة التنظيم المتصل بالالفاظ أو الجمل الشعرية وحسب، إنما يشمل شكلي الكتابة (كتابة النص وكتابة المخيلة المتجددة) وبالتالي كل أساليب الكتابة وأشكال تنظيم النصوص وترتيبها واستعادتها وتبويبها ولا سيما بعض الإضافات، جزءاً لا يتجزأ من أسلوب الشاعر وقلقه اللغوي المتصل بهذه اللفظة الشعرية أو تلك، ومن هنا، كما يبدو للقراءة، تمّت صياغة النصوص والتوسع بالمعنى وتحقيق الترابط الجمالي الفني، إلى جانب ذلك التخلص من بعض الزوائد اللغوية للحفاظ على شكل النص. وفي هذا السياق يتصاعد فضول القارئ ولا سيما من حيث الفاعلية الموازية لحركية المخيلة، وعلى ضوء مؤشرات هذه الحركية، فقد تعامل الجنابي بقدر لا يُستهان به من المراجعة الجمالية مع محاولة تزيين صورة النص وعلاقاته اللغوية ومستوى طبيعة الدلالة المتماثلة بشكل قريب مع المعنى. وكان من مبررات هذا التزيين الجمالي، أيضاً، الإيمان المطلق بحركية المخيلة وبالتالي تعظيم ميزات وفضائل أسلوب كتابة المخيلة المتجددة كما أسلفنا، ومن حيث المراهنة، المتصلة بالقراءة النقدية، في قدرة المخيلة وتفوقها الصوري واللغوي والرمزي، ومن حيث الابتسار اللغوي أيضاً والذي يفتح، بدوره، شكلاً جديداً إلى الحرية الفكرية المتصلة بالنصوص المختارة التي لا تربكها أو تؤرقها البداهات ولا تختصر خصوصية الكتابة الشعرية ومعادلاتها الجمالية والفنية.
ليس صدفة أن يكتب الجنابي، في الفصل المعنون: الجانب الآخر من مرآتي، عن هذا الأفق الجمالي الشذري بالتأسيس لأفق لفظي شعري حديث، لغوياً وفنياً. فالشذرة، إذن، بمواصفاتها المعروفة، جزء أساسي وتأسيسي في الكتابة الشعرية الشذرية، كما هي إسهام أساس في التأسيس الريادي للكتابة الشعرية الحديثة، إذا كان هذا القول ينسجم مع طبيعة الشذرة التي يكتبها الجنابي، فهو في صياغته المفهومية هذه يعود إلى المعنى، على ان هذا لا يعني أبداً أن شذراته هي الصورة الشعرية المرتبطة بالمخيلة وحسب بل هي الصياغة الجمالية التي تعيد كتابة المعنى الجمالي بإيجاز وابتسار، وقد نجد في شذراته أيضاً ما يتطابق مع منطق الجمال اللغوي وما يتوافق مع الدلالة ويُحدث تغيراً جديداً في الرؤية النقدية للقراءة المتصلة بالشذرات، لنقرأ بعض من شذراته: (الصحافة سوق لرقيق الكلمات الأبيض ص 339) (التأريخ مؤذن بلا مئذنة/الاحتراز من الخطأ خوفٌ من فكرة طارقة ص 340) (ليس الشاعر أحد مكونات القصيدة، وإنما طباخها/النافذة عين الشاعر ص 342) (اخرس أصابعهُ تتكلم بصوت عالٍ ص 344) (الكتابث يكفي أن نلمسه حتى يتهيج ص 347) (إذا الكلمات تنام فعلا، إذن من شان الشاعر أن يدون أحلامها/الحلم ألقى من نافذة الكابوس القبض على نائم يسير ص 348) (امن شاعر يجيب سائله: إني أُخلّف بدلاً من: إني اكتب ص 350).

خاتمة:
وأخيراً، فلأغراض المفاضلة بين كتابة المخيلة، كنظام، والنص ولاستكمال الصورة الشعرية وأسلوب استعادتها وتجددها، يحيلنا الجنابي إلى ملحق إضافي في خاتمة الكتاب (إشارة إيضاحية) لا ستكمال معالم التجربة الموازية للكتابة الشعرية، ومن هنا سننتقل إلى المحور الذي تسميه القراءة حرية اللغة التي تقودنا بدورها إلى حرية النص المكتوب مثلما تقودنا إلى حرية القارئ من باب يدعوه رولان بارت: (حرية القارئ في إنتاج المعنى) ومن هنا، أيضاً، بدا لي الجنابي في مجمل نصوص الكتاب وإشاراته، مثل فاحص لغوي، إذ ما تزال لغته الشعرية تلامس المعنى المتجدد دون انفصام، وفي الوقت نفسه يكون قادراً على ملء نصوصه بمعانٍ أكثر نقاء وحرية، ما يساعد على التجديد المتصل بالمخيلة، ومع هذا يبقى القارئ تبقى القراءة تسير إلى المعنى ولا تصل، وهذه هي المفارقة النقدية بين قارئ مخلص للنص وشاعر يبحث عن لغة متجددة ومخيلة متحركة، وربما قد ينتصر القارئ للنص والمعنى معاً مثلما يثأر الشاعر من اللغة الساكنة ومن استبداد البداهة الشعرية وأعراف الكتابة التقليدية الطاغية، لنتأمل هذه الإشارات الشعرية المتصلة بالقارئ والشاعر معاً: (ما أنفذ حرْفَهُ إلى قلب المتلقي وخيالهُ سهوب من النسل ص 78) (إنا نقرأ حتى تكون الريحُ في مهبنا ص 80) (ماذا أفعل، أيةُ كتابة، حتى لا يَحُل السراب؟).

ملاحظة: جزء من هذا المقال نُشر في "الصباح الجديد" العراقية