شاءت زوجتي جنيفر المعجبة للغاية بقدرتي على الإنتساب الى جدي السابع بدون عناء، أن تبدأ الأسرة اجازة هذا الصيف بتتبع أثر أمها التي هاجرت طفلة من ولاية "ايداهو" الى "كاليفورنيا". خلاف حب الإستطلاع، كان في التفاصيل المتوقعة مغريات اضافية تجعل عناء السفر ممتعاً خصوصاً وان رحلة من هذا النوع لا تستقيم جواً. أخذنا الطريق، زوجتي وبناتنا الثلاث جنان،نادين، وسحر، وانا عبر أخصب وادي في اميركا من "سكرمنتو " الى أعلى بحيرة تزنرها الجبال في "تاهو" التي شهدت في مطلع السبعينات آخر اولمبياد شتوي يرتفع فيه علم لبنان.
&& 7200 قدم ثم يبدأ الإنحدار نحو ولاية "نيفادا" التي تتصحر مع كل خطوة تبتعد عن كاليفورنيا، يحتفي الشجر تدريجاً، تتعرى الجبال وتنخفض لتتلاشى بعد مدينة "رينو" ولا يبقى منها الا هضاب اقرب الى الكثبان، ولولا اصرار نهر "تراكي" على الخوض في قلب الصحراء لأنعدمت مظاهر الحياة ولم تجد الطيور المتفرقة سبباً للبقاء هناك.
ترتفع درجات الحرارة مع ارتفاع السرعة القصوى على طرقات واسعة ليس عليها الا لوحات اعلانية تسلي السيل المتواصل من سائقي الشاحنات والسيارات. تتكاثر اللوحات والإشارات كلما اقتربت من ضيعة او بلدة تتصل بالطريق السريع وتعتاش منه.

"أوريغون"
المفرق الأول نحو "ايداهو" يتجه شمالاً كزاوية قائمة ترتفع عموديا نحو الحدود الشرقية لولاية "اوريغون" الحاضنة لآخر مرتفعات الـ"سييرا نيفادا".
تحرس الطريق السريع الجديد على الجانبين قرى السكان الأصليين لأميركا (الذين يسمون عرفاً الهنود الحمر). لا تختلف اللوحات على الطريق الا في اضافة اسم القبيلة التي تسكن كل قرية، تضاف اليها اعلانات عن تخفيضات في اسعار الكحول والسجائر في تلك المحميات التي لا يدفع سكانها بعض الضرائب فترتفع قدرتها التنافسية في سوق يقتصر عليها اساساً. تذهب محاولات الإلمام بمشاعر الناس في قراهم المعزولة ادراج الرياح. لو لم يكونوا في وضع مقبول لأرتحلوا! ولكن الى اين؟ كيف ينظرون الى محيطهم والى الزبائن الذين يتوقفون في متاجرهم ومحطات وقودهم على عجل؟ والأهم كيف ينظرون الى انفسهم اولاً، وبسرعة أطارد هذه الأفكار من رأسي. لا الوقت وقتها ولا ما انا في صدده يتحمل الغوص في قضايا مصيرية، وانا اصلاً لست بحاجة الى المزيد. انا في اجازة.
وادي الأردن، البلدة الأخيرة& في ما تبقى من "اوريغون". بعدها تنبسط الأرض الى ما لا نهاية. كأن عينيك اتسعتا بلا عائق، أخضرار يمتد ويمتد تحت سماء صافية لا يشوبها اكثر من بضع غيوم تتجمع وتتفرق على عجل. وعلى الأرض تتقاطع سواق وجداول وروافد وانهار& حفرت عبر مئات السنين اخاديد بالوان قوس قزح من صخور& تشهد بصمت تتالي دورات الحياة في فضاء يتسع لمزيد من الحياة.

"بويزي"
لم يكن قبل مدينة "بويزي" محطتنا الأولى فعلياً وتأريخياً ما يذكر في مهمتنا. فمن هذه المدينة ارتحل جد زوجتي الذي كان جمع في فتوته وشبابه مهنة الزراعة وتربية الأبقار مع اعمال البناء، قبل أن تدفعه حاجة أميركا الى الفحم الحجري والصلب والمعادن ايام الحرب العالمية الثانية الى العمل في المناجم. لم يكن هناك الكثير& للتعرف اليه عائلياً في تلك المدينة. ابنه البكر وابنته الأولى قررا البقاء هناك عندما قرر الرحيل. مات الإبن بعد عمر من العمل في تربية الأبقار والزراعة وترك بيتاً ومزرعة لا يزالان في عهدة أرملته التي تمضي ايامها على ذكريات كثيرة وزيارات قليلة من اولاد تفرقوا في ولايات عديدة، وصداقة لا تزول مع شقيقته التي اقعدها المرض وباتت تعد الأيام بالمفرق.
وعلى خطى "لويس وكلارك" معكوسة كاتفنا مجرى نهر الأفعى الذي يجسد اسمه تعرجاته اللينة وصولا الى حوضه الكبير في مدينة "هاغرمن" عاصمة انتاج سمك السلمون المرقط "تراوت" حيث عمل الجد لبعض الوقت قي بناء سدود لأحواض السمك وهو في طريقه الى "بويزي".& (وحيث نسيت زوجتي حقيبة يدها الضخمة في المطعم الذي تناولنا فيه غداءنا. فأضافت الى يوم طويل من السواقة، اربع ساعات ونصف من السواقة المنفردة،بعد ان افتقدنا الحقيبة ونحن ندخل الفندق في آخر مدينة في الرحلة).

"هايلي"
وعبر المدينة الصغيرة التي تحمل اسم اكبر قبيلة من السكان الأصليين (شوشون)، وتأوي عددا لا بأس به منهم ومن متاجرهم، صعدنا شمالاً في هذا المدى المفتوح للنظر وقد بدأ يضمر مفسحاً المجال لحضور ساحر من القمم العالية المتواصلة كإطار خرافي لهذه اللوحة الطبيعية الأخاذة.
مئة ميل من التضاريس البديعة والحقول البركانية والصخور السوداء، وصلنا الى المحطة المهمة، بلدة "هايلي" التي رأت فيها حماتي النور قبل سبعين عاماً الا قليل، وهناك كانت حماتي التي سبقتنا مع عمي (والد زوجتي) في انتظارنا لجولة من البيت الذي ولدت فيه الى المدرسة التي ذهب اليها شقيقاها وشقيقتها الأكبر، الى المكتبة العامة ومتحف البلدة الذي يضم الكثير من اثار السكان الأصليين ونتاج اختلاطهم بالمهاجرين الأوروبيين الذين لا يزالون حتى اليوم الأكثرية العددية الطاغية في كل المنطقة التي تغيرت تضاريسها بوتيرة سريعة، لتتحول مع كل مسافة الى ما يشبه عنق زجاجة متنها الفضاء الواسع وفمها بين سلاسل جبال شاهقة اسمها، وبجدارة، اسنان المنشار، لا تزال قممها مكللة بالثلوج.
سكنت العائلة في هذه البلدة لقربها من المدينة السياحية "كاتشم" المشهورة بوادي الشمس وهي منتجع للرياضات الشتوية فيها الكثير من خطوط التزلج وعدد معتبر من الفنادق الكبيرة والمتوسطة. باستثناء السياحة الشتوية، التي انشأها اثرياء السكك الحديد الذين راكموا ثرواتهم وهم يربطون الأطراف المترامية لأميركا مع الغرب المفتوح حديثاً للتجارة والإستثمار والهجرة، ليس في المدينة من قطاع آخر سوى المناجم التي اقفلت تباعاً بعد الحرب العالمية الثانية وانخفاض الطلب على المعادن الخام.

"ارنست"
لكن الأكثر شهرة في المدينة، من الرياضة ومن المزارع الضخمة والبيوت الأنيقة هو الأديب والقصاص ارنست همنغواي، الذي يقال انه كتب أشهر رواياته لمن تقرع الأجراس وهو في المدينة. حرصت زوجتي وحماتي على إخباري عن همنغواي، على افتراض ان شيئاً من الزمالة بينه وبيني. بطبيعة الحال، لا يمكن للزائر أن لا يكتشف علاقة همنغواي بالمدينة. محل الكتب الشهير وسط البلد يفرد له صورة ضخمة امامه. الحانات والمطاعم التي زارها تتباهى خطياً وبالصور بذكرياته، العمال والموظفون في اي مكان تدخله يتعمدون الحديث عنه على امل ان يحكوا احدى قصصه. حتى في المجمع السياحي الأكبر الذي يحمل اسم المدينة، والذي يقال أن صاحبه اشتراه هدية عيد ميلاد لزوجته لأنه اعجبها عندما نزلت فيه (كانت بطلة اولمبية في التزلج) لا يزال يحتفظ بالغرفة التي كان ينزل فيها همنغواي كما كانت في آخر ايامه.
أعترف أن لا شيء تغير عندي بعد هذه المعلومات. لم اشعر بالرغبة في معرفة الأكثر. لم تراودني فكرة أن أجلس مثلاً في مكان جلس فيه، أو أن اعرف نوع مشروبه المفضل حتى أني تعمدت أن لا ادخل الى محل الكتب الشهير. ولم احاول معرفة الغرفة التي نزل فيها مع اننا كنا ننزل في الفندق نفسه. لا اعرف سبباً واضحاً لذلك، ولكن لا اعرف سبباً ايضاً لعكس ذلك. اكتشفت ان همنغواي كان ماجناً، يتكل على شهرته ويستثمر فيها ليعيش مرفهاً في اجواء ليس يبينها وبين الواقع شيء. مجتمع من الميسورين القادرين على التزلج وقضاء اجازاتهم في احوال اقرب الى التمنيات بالنسبة للكثيرين من الناس، بما فيهم الناس الذين يعيشون في تلك المنطقة اصليين ومهاجرين على السواء.
لم أجد بيني وبين أرنست أي رابط على الإطلاق، لكن لم افسد حماس زوجتي بهذه الحقيقة. هي على الأرجح كانت تضمر خيراً حين احتفظت لي بهذه المفاجأة حتى وصولنا الى المدينة. ولا يمكنني أن اقول بضمير مرتاح اني صدمت من المفاجأة، وهذا موضع شكوى زوجتي واولادي والأصدقاء المقربين الذين يعترضون على برودة غير عادية لدي عندما أكون في موقف يتطلب الإندهاش. لكن ذلك موضوع آخر ليس محله الآن.

"مارك"
اخترنا لعودتنا طريقاً مختلفة ليس فقط لأن مسافتها أقصر من طريق الذهاب، بل لأن اسرة امها سلكت تلك الطريق في رحلتها. تركنا الجبال الشاهقة خلفنا ونزلنا الى الشلال التوأم وهو شلال اعلى من شلالات "نياغرا" وان لم يكن بغزارتها. عدنا الى "نيفادا" الصحراوية من شرقها الأقصى. كانت الشمس بدأت انحدارها نحو الغرب عندما قالت لي زوجتي وكأنها تكمل حديثاً: بعد بضعة أميال مفترق بلدة "يونيون سيتي" التي تحمل اسم المنجم الذي عمل فيه جدي. في ذلك المنجم كان يعمل "مارك توين" الأديب الأميركي المعروف ايضاً. سألتني أتريد أن نتوقف هناك قليلاً؟ أجبت وكأني كنت اتوقع السؤال، لا. شرحت لها مبررا رفضي القاطع بأن علينا أن نحث السير دون توقف اذا اردنا ان نصل الى البيت في وقت مقبول.
لم اعترف لزوجتي ان سبب رفضي لعرضها هو خوفي من اكتشاف تحوّل "توين" الذي كان عاملاً في المنجم ولم يكن مشهوراً أو نجماً خلال تلك السنوات الى وجه اعلاني لمطعم او كازينو، ربما لم يكن قادراً على ارتيادهما في حياته، ولن تعوضه الشهرة اللاحقة عن خيباته الأصلية. هو لم يكن ماجناً كزميله همنغواي لكن شهرته اللاحقة ادخلته رغماً عنه في لعبة التشويق والتسويق.
هل ذكرت لكم أن حماتي من آل ماكوي؟ فقط للعلم
&