بدأ الشاعر والكاتب محمد حربي حياته صحفيا في جريدة الأهرام في أوائل التسعينيات من القرن الماضي وأخذ شهرة واسعة بعد نشره لمجموعة من الحوارات المتخصصة مع مفكرين وباحثين جدد حققت جدلا واسعا في الحركة الفكرية والثقافية، لكن سرعان ما اختفت ويختفي معها صاحبها، لنفاجأ بسفره للخليج، ويعود مع ثورة يناير فيسند له في فترة حكم الإخوان المسلمين مسئولية الملحق الثقافي، فيصطدم مع رئيس التحرير بعد نشره صورة للصحفي الشهيد الحسيني أبوضيف الذي قتل في أحداث الاتحادية.
شغف حربي بالمسرح وعرف الشعر عبر مسرح صلاح عبد الصبور وتيم بتجربة الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر، فجاءت تجربته الشعرية جدلا عميقا واشتباكا فاعلا مع القضايا الانسانة الكبرى، وأثناء عمله في الخليج بدأ الكتابة الشعرية، وجاء أعماله الثلاثة المنشورة "سبعة عشر عاما لاصطياد غيمة" و"الرمل إذا غوى" و"يوميات شيطان متقاعد" وأعماله الخمسة تحت الطبع، فارقة ومتجاوزة وتحمل خصوصية صوته وفرادة رؤيته للعالم. وفي هذا الحوار معه، الذي اعتبره تفكيرا بصوت عال مع صديق كونه يكره الحوارات الصحفية، كان محمد حربي صريحا وجرئيا فكشف عن جوانب مهمة من تاريخه الصحفي في الاهرام وتجربته الشعرية ورؤيته للتجارب الشعرية والمشهدين الشعري والثقافي.

الأهرام وقصتي معه
كان من حسن حظي أن أعمل مع الأستاذ سامي خشبة رحمه الله في صفحة الفكر بجريدة الأهرام واقترحت ذات يوم أن أجري سلسلة حوارات مع المفكرين والباحثين الجدد تحت عنوان "مفكر مصري جديد"، وكانت جرأة على مستويين: الأول من هذا الشاب الذي يملك الجرأة – أو الوقاحة - ليدعي أن فلانا سيكون مفكرا أو يمتلك أدوات المفكر. والثانية أن الأهرام راهنت بموافقتها على الفكرة بتاريخها ورصانتها، ولم تتوقف أمام انتقادات من داخل الجريدة ومن خارجها للفكرة. وعندما قدمت في أول حلقة من السلسلة المفكر الراحل نصر حامد أبوزيد كتبت: تذكروا اسم هذا الرجل جيدا.. إنه رجل خطير لأنه يفكر.. وهي عبارة شكسبير الشهيرة. ويبدو أن المشهد الثقافي والديني في مصر صدق مقولتي حرفيا فتعامل معه الرجل بمنطق الخطر لا منطق التساؤل.
وعندما بدأت ازمة نصر مع الترقية قلت لرئيسي بالعمل لقد قدمنا الرجل للمشهد الثقافي ومن حقه علينا أن ندافع عنه، ومن حقنا أن ندافع عن رجل نعرف قيمته. فقال لي ساعتها: لا أريد "وجع دماغ". ولكن الأهرام أنقذتني من تأنيب ضمير عندما فتح الراحل الكبير لطفي الخولي صفحة الحوار القومي - وهي من أهم الصفحات الثقافية والسياسية التي قدمها الأهرام على مدى تاريخه - لقضية نصر مستكتبا المؤيدين والمختلفين مع نصر. و كان الخولي رحمة الله عليه أعلن انحيازه لحرية نصر في البحث الديني.
وبعد أن قدمت عدة أسماء فوجئت برئيسي في العمل يطلب مني أن اجري حوارات مع بعض المثقفين، فقلت له: لقد كنت كريما معي ورحبت بفكرة أن يقرأ شاب ملامح الثقافة الجديدة في مصر بحرية، فلماذا تحاول أن تفرض علي الآن هذه الأسماء، وأنت تعرف أنها بعيدة عن الفكرة التي طرحناها معا؟ واختلفنا وتوقفت.. لكنني عملت في موقع آخر بالأهرام وتصورت أنني سأقدم شيئا جديدا لكن المسئول فاجأني بنشر رسوم كاريكاتورية للوري الرسام الصهيوني الذي كان ضابطا في جيش الدفاع الإسرائيلي واعترضت أنا وصديقي الفنان على ذلك، فاتهمنا مدير التحرير بأننا "بتوع حنجوري".. فعرفت أن أيامي بالمؤسسة قليلة. وبالفعل سافرت إلى الخليج وهناك كدت أنسى الصحافة وتسلحت بالشعر، لكنني كنت أكتب وأحرق قصائدي لأنني أراها أقل قدرا مما يكتبه أصدقائي، وبالطبع مما يكتبه قطبي الأول محمد عفيفي مطر. لكنني كنت بين الحين والآخر أمارس لعبة الصورة الشعرية في تعليقات الصور في ملحق أسبوعي للمنوعات، وأعجبتني اللعبة وتطور التعليق إلى صورة شعرية، واكتسبت قدرا من التميز في صياغة العناوين بسبب الشعر . لكنني كنت أهرب من القصيدة وأحرقت ما يوازي ديوانين كاملين لأنني لم أكن مقتنعا بما أكتب.

الملحق الثقافي للأهرام
من في الأهرام لا يحلم بملحق ثقافي كالذي كان الراحل الكبير لويس عوض يقدمه ويساعده فيه الكاتب أحمد بهجت؟!. وعندما طلب مني رئيس التحرير الذي جاء في عهد الإخوان إصدار ملحق ثقافي خفت، وقلت: الأمر صعب خاصة وأن الظروف تغيرت والإخوان لا يحبون الثقافة المستقلة - وحتى لا أظلمهم الدولة المصرية لا تحب استقلالية الفكر عموما، ولنا في تاريخ لويس عوض نفسه نموذجا، عندما نقلته الدولة في الخمسينات والستينات إلى السجن وإلى وظائف أخرى لمجرد أنه فكر بحرية واستقلالية - لكني نفذت الأمر، وحاولت واجتهدت أن أقدم رؤى متنوعة تعكس الطيف الثقافي والفكري في مصر من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ولا أزعم أنني نجحت.. لكنني سعيت إلى النجاح واستكتب الأهرام ساعتها كتابا مهمين للكتابة بالملحق حتى جاء موعد الاستفتاء على أمر رئاسي، فخرج الملحق بنصف صفحة بها رسم للشهيد الحسيني أبو ضيف وعنوان لافت هو: "الحسيني قال لا..". في اليوم التالي لصدور الملحق أبلغني مدير التحرير أن رئيس التحرير قرر ألا أتولى الإشراف على الملحق، وأسند إدارته إلى أربعة من الزملاء، وانتهت علاقتي بالملحق الثقافي الذي كان حلما ولا يزال.

الواقع الثقافي بين الأمس واليوم
الواقع الثقافي بين 1991 والآن انه كان يمكنني في أوائل التسعينات رغم وجود دولة قمعية قاسية أن أكتب عن نصر حامد أبو زيد وفكره، والآن يرفض المسئولون بالأهرام نشر موضوع أو ملف عن نصر أبو زيد.. حدث هذا في العام الماضي - لأن الأزهر ربما يغضب، وهم لا يريدون إغضاب المؤسسة الدينية. فقلت ربما يكون الأهرام المسائي مستعدا لنشر الملف لأنه ليس الجريدة الرسمية، وقدمت المادة إلى الزميل رئيس تحرير الجريدة ولليوم لم ينشر ولم يصلني سبب واحد لرفض نشر ملف عن نصر أبو زيد.
ولا أحب أن أصدر أحكاما لكنني سأعود إلى مثال الأهرام الذي دشن فيها محمد حسنين هيكل فكرة التنوع - أيا كان السبب في جمع كوكبة من المثقفين المختلفين في جريدة واحدة، وسواء كان ذلك في إطار سياسة عبدالناصر لاحتواء المثقفين أو في إطار سياسة هيكل نفسه - فلا شك أن قارىء الأهرام استفاد من جرعات ثقافية يقدمها الماركسي والليبرالي والإسلامي بشكل جاد ورصين أكسب الجريدة رونقا خاصا وجعلها قبلة المثقفين العرب وأحد علامات قوة مصر الناعمة. فالقارىء كان يبحث عن توفيق الحكيم وحسين فوزي ولويس عوض ومحمد سيد أحمد ولطفي الخولي وبنت الشاطىء وزكي نجيب محمود ثم نجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس..
واليوم لا نجد في الأهرام أو الصحف القومية أو الإعلام إلا صوتا واحدا فقط. وهذه تكفي للخوف على المشهد الثقافي.. فعندما يختفي التنوع يصبح الصوت الواحد سطوة ثم نشازا ثم سرعان ما يصير محرضا على الكفر بما يدعو إليه.

&المسرح طريقي للشعر
لم يبدأ حبي للشعر عن طريق محمد عفيفي مطر. فقد كنت متيما بالمسرح، أقرأ سلسلة المسرح العالمي التي تصدرها الكويت بنهم، وعرفت الأساطير القديمة عبر المسرحيات الخالدة. وقرأت سير البلدان وقصص التاريخ في أوراق المسرح. ومن المسرح، وتحديدا مع الراحل الكبير صلاح عبد الصبور عرفت الشعر وأحببته، مع أني قرأت محمد عفيفي مطر قبله، لكني لم أفهم حرفا من عفيفي وقتها، وكذلك كنت أجد صعوبة في فهم أدونيس، فقرأت مسرحيات صلاح عبد الصبور: مأساة الحلاج ومسافر ليل وليلى والمجنون، ولا زلت أرى قصيدته في ليلى والمجنون، "يوميات نبي مهزوم يحمل قلما ينتظر نبيا يحمل سيفا"، من درر الشعر العربي، وذلك ليس انطلاقا من تقييم نقدي، ولكن انطلاقا من أنها جعلتني أحب الشعر وأحاول تقليده. ولما فشلت بالطبع كتبت قصصا قصيرة، وفشلت أيضا، مع إني نشرت بعد ذلك قصة بإحدى إصدرارت الأهرام، وحاولت كتابة شعر العامية.. وكتبت خرافات كالتي خلدها عفيفي مطر في ديوانه البديع يتحدث الطمي. لكن صلاح عبد الصبور وعفيفي مطر وقفا في طريقي.. فكل ما كنت أكتبه من هراء كنت أقيسه على صوتيهما فأجد البون شاسعا فأواصل الصمت.
لكن صوتا خفيا كان يندهني كالنداهة الأسطورية.. "اكتب ولا تخف"، وكنت أكتب وأخفي ما أكتبه عن أخي هشام، فهو شاعر مطبوع.. وبالطبع أخفيت كل ما كنت أكتب عن أبي الروحي عفيفي مطر لأنني خفت دائما من رأيه النقدي الحاد، وكنت ألعب مع الشعر لعبة غريبة. كنت أكتبه في ثنايا الموضوعات الصحفية وأكتبه كمقالات ثقافية، وأحرص على كسر الإيقاع حتى لا يتهمني أحد بكتابة الشعر .
وأذكر أني كتبت نصا عن عفيفي مطر ونشرته في جريدة الشرق الأوسط فقال لي الكاتب المعروف محيى الدين اللاذقاني إن هذا النص قصيدة نثر رائعة، لكني ادعيت أني لا أكتب الشعر، ولا أعرف للآن لماذا أخجل كلما قال عني أحد أنني شاعر، أو أن ما أكتبه يعد شعرا، ربما لأني ابن شاعر كبير يرى في الشعر نبوءة الأمة وتاريخها، وأنا أحب في الشعر همس صلاح عبد الصبور. وبين صرخة مطر وهمس عبد الصبور جاءت نصوصي مركبا جدليا بالمعنى الجمالي بين الهمس والضجة.. بين النهر والبحر.. بين الجوع والتصوف، لكنني بذلت جهدا كبيرا للإفلات من غنائية صلاح وعفيفي لأكتب أغنيتي أنا.

الحضور والغياب
الشعر كان حاضرا طوال الوقت وغائبا أيضا.. حاضرا في لعبة المقدمات التي كتبت فيها مرة قصيدة غير مكتملة، وكنت أجرب في مقدمات الموضوعات الصحفية والملفات الخاصة فكرة الكتابة الشعرية ربما يأسا من أن أصدع بما أحلم من شعر، وربما يأسا من فكرة امتلاك الموهبة. وكما قلت فقد كتبت تعليقات صور كثيرة في جريدة الخليج وللأسف لم أجمعها لإعادة صياغتها وكان عددها يكفي لكتابة ديوانين.
عندما عدت إلى مصر بعد غربة عاينت فيها مدائن الرمل زرت قرية في المنوفية اسمها "عرب أبو ذكري"، تقوم حياتها على مزاوجة بين الرمل والطمي، فأيقظت في ذاكرتي طمي قريتي ورملها. فقريتي رملة الأنجب في المنوفية بها تلك الظاهرة الغريبة التي تحدث عنها العلامة جمال حمدان في كتابه الشهير شخصية مصر وهي ظاهرة "ظهور السلحفاة"، التي يرفض فيها الرمل السماح للطمي القادم مع النهر منذ ملايين السنين باحتلاله، فتبقى جزر رملية في الطين تشكل علامات غريبة على خنوثة الجغرافيا..
وجدت ذلك في عرب أبو ذكري التي يسكنها آلالف الفلسطينيين وأبناء سيناء من القبائل العربية الذين هاجروا إليها منذ أوائل القرن الماضي، فعرفت سر التقاء الرمل والعرف بالطمي والقانون، وتذكرت رحلتي من الرمل قصير الطينة في قريتي والرمل الكاسح حتى مشارف الروح في الخليج العربي، وبدأت اكتب سيرة الطمي الذي يسكن جلدى فكان الديوان الأول الذي أكتبه ملتزما فيه مفرديتن كأني أعذب نفسي وأعاقبها لنسيان ذلك العناق منذ الأزل بين رمل قريتي وطينها.
&ولولا صديقي الشاعر والمترجم محمد عيد إبراهيم وصديقة العمر ورفيقة الدرب مها شهبة لما عدت للكتابه.. فقد سمياني شاعرا وأنا للآن أخجل من تلك التسمية، فكيف يمكن لي أن أتجرأ على مقام أدونيس والسياب ومطر ودرويش ومن قبلهم صلاح عبد الصبور ولوركا وفيرناندو بيسوا؟!.
كيف يمكن أن أسمي ما أكتبه قصائد وأنا اقرأ أسفارا من النور لدى شعراء الخمسينات والستينات والسبعينات في مصر والعالم العربي، وأقف بدهشة أمام قصائد سركون بولص وسعدي يوسف الذي قرأت له "الأخصر بن يوسف ومشاغله" عشر مرات، ثم وديع سعادة وصلاح فائق وحلمي سالم وعبد المنعم رمضان والأبنودي وفؤاد حداد، هل بعد هذه القائمة الطويلة يمكن أن أتواقح وأسمي نفسي شاعرا
لكن الكبير محمد عيد أقنعني بأن الشعر مملكة مترامية الأطراف تسمح بوجود الدراويش ومتسولي الحكمة فرضيت بمقامي متسولا نبيلا في ممالك النور وبدأت أكتب بكثافة وكأنني في سباق مع الزمن فكنت أكتب كل يوم تقريبا.
ولما رأيت أن فكرة الرمل والطين اكتملت أو هكذا ظننت قررت صديقة العمر ورفيقة الدرب وزوجتي مها شهبه أن أصدع بما أحلم، وكنت آليت على نفسي أن أكتب للمرايا فقط أو لحفنة أصدقاء، لكنها وبدعم من محمد عيد إبراهيم أرسلت الديوان للناشر الذي رفض طبعه، بحجة أن الديوان فيه جرأة على النص القرآني، وكدت أن أقرر عدم النشر، لكن مها أصرت وأرسلت الديوان من غير أن أعلم إلى ناشر آخر وصدر الديوان منذ أكثر من عام.. ولم يره أحد.
لأن النشر في مصر صار لعبة افتراضية حيث يتم نشر أو طبع 200 نسخة تقريبا ولو لم يكن لك أصدقاء أو شلة في الميديا يروجون للكتاب فلن يعرف أحد أنك شاعر، أو أنك أصدرت كتابا جديدا.
ولذلك عندما أصدرت ديواني الثاني – "سبعة عشر عاما لاصطياد غيمة" ـ وهو الجزء الثاني من سيرتي بعد العودة من مدائن الرمل أصدرته على نفقتي الخاصة ولم أرسله إلى دار نشر أو إلى الأصدقاء من الإعلاميين.
والآن الشعر حبيس مرة أخرى فقد كانت تجربتي مع النشر والإعلام غير مرضية لي ولذلك أرجأت الطبع، رغم أن لدي خمسة داوين جاهزة للطبع.
&هي دست ظلا فانتبهت ىاهديته الى وديع سعادة الذي علمتني قصيدته الكثير ، و"جنرال القمح المحروق" احاول فيه قراءة الواقع المرير في مصر الان على صدى ظل القرية وخرافات السطوة فيها ، وديوان "يوميات شيطان متقاعد" اقدم فيه قراءتي الجمالية لفكرة المقدس والمدنس وديوان "شرفةالغواية" وهو الجزءالثالث من سيرتي الشعرية اتلمس فيه طرق الآباء والأهل، وهناك ديوان عن الشعراء الذين احببتهم وقرأت لهم وهو أقرب إلى البورتريه الشعري اسميته "لم يعد يتبعهم أحد" وربما أكتفي بنشر هذه الدواوين على الإنترنت نشرا الكترونيا، فأنا أكتب حاليا لصفحتي في الفيس بو ك وأتبادل نخب القصيدة مع أصدقائي فقط ولا أعرف شيئا اسمه القارىء فلم أجربه.

محمد عفيفي مطر
لا أسير على درب عفيفي مطر وليتني أكون ظلا له، فهو شاعر كبير وأنا أتهجى ظله، وهو شاعر يؤمن بالإيقاع الهادر في البناء الشعري وأنا أكتب قصيدة النثر التي رفضها عفيفي، وهو يكتب قصيدة مركبة موغلة في التركيب، وأنا أحاول تفكيك التركيب وأن أكون واضحا.
هو يسيطر على قصيدته بعمدية منضبطة لا تظهر بالطبع لكونه شاعرا موهوبا، وأنا أستسلم أحيانا للقصيدة وأتركها تكتبني كما تشاء فأنا أعارض ما يقوله الناقد الإيطالي كيارومونتي من أن للقصيدة حياتها الخاصة، بعد رحيل الشاعر إذ أرى أن للقصيدة حياتها الخاصة منذ لحظة ولادتها وربما من قبلها وما نحن إلا قابلات أسهمن في طقس الولادة .
&القصيدة وخاصة قصيدة النثر هي ابنة الشاعر وابنة ظلها أيضا من دون أن تنكر أبوته، ولذلك أتعامل بحرص مع طبيعة الشعر والشاعر وأتخلص من كل الادعاءات لأن انقطاع زيارة ربة الشعر كفيل بإلغاء كل أكاذيبنا. وقد أعاني أياما وأسابيع من غياب الرغبة في التقاط الحصى الذي يأتي مع ريح القصيدة أو أفشل في التقاط النغمة الصحيحة للنوتة الجمالية التي تدندن بها السماوات والأرض فوقي وتحتي.

ضد فكرة المنطق
أنا ضد فكرة المنطق في الشعر بل مع الجنون، وأحب الاستسلام للصور وأعارض من يقول أن قصيدة النثر تخلصت من المجاز والصور الشعرية، وأرى أن قصيدة النثر هي قصيدة تتحرر من المقولات حتى تلك التي يدعيها البعض باسمها..
أنا أكتب كما ألعب أو كما يلعب الأطفال للمتعة، ليس لدي رسالة للعالم ولا إلى نفسي حتى وإن جاءت رسالة ما في القصيدة أو فكرة لمعت تحت سيل الصور أو عباءة المجاز وهو يتعرى عن جيفته المدعاه، فلتكن عمل القصيدة التي تكتبني كما أكتبها.
وإن ظهر المنطق كما يرى دائما صديقي محمد عيد إبراهيم في بنية نصوصي فإن ذلك مرده إلى التربية الجمالية لانضباط صور الحقول والغيطان في عيني. فقد تربيت على إيقاع أخضر يتشكل كل يوم بموسيقى خاصة وشكل منضبط تماما مع أنه يحيا بعشوائية حد الحمق والجنون، لكنها قصيدة الحياة في الريق التي تكتبها أجساد منهكة بالمرض والموت الملغوم لكنها تأتي عفية جميلة حمقاء وحكيمة، لاهية عابثة ورصينة، متدينة ولعوب في آن.. تلك كانت الحياة تكتب نفسها في عيون الفلاحين والبقر والدواب كل يوم شروقا وغروبا وحصادا وفرحا وحزنا، بطقوس خاصة تكاد من عشوائيتها تصبح قانونا منضبطا للفوضى..
علمني الفلاحون أن النظام والمنطق الذي لا يقود إلى خضرة لا يعول عليه. وعلموني أن القصيدة ابنة مائين: ترعة صغيرة وعرق نبيل.

قصيدة النثر
لا أعرف إن كانت إجاباتي تفيد قارى الشعر في أي شيء، لكنني واصلت اللعبة التي استهلكتها القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة.. ولكن الآن يحاول البعض وضع ضوابط وقيود لقصيدة النثر، مثل خرافة أن تلك القصيدة لا تقبل المجاز مع أنها قصيدة حرة تماما ترفض أن يفرض عليها أحد أي شيء.. بمن فيهم الشاعر.
قصيدة النثر خلصت الشعر من غنائيته التي تم ابتذالها أحيانا، وأنا لست ضد الغنائية بمفهومها الجمالي والفلسفي ولكني ضد أي ابتذال، كما خلصت الشعر من الصنعة المتكلفة. ولكن تبسيط قصيدة النثر إلى درجة قبول الكتابة الرديئة أو كتابة الخواطر جعلها قصيدة مرتبكة في عموم المشهد، كما أن هناك البعض يحاول كتابة الوصفة الجاهزة التي تتكىء فقط على بوح الذات للذات في غنائية تقترب من الميوعة العاطفية أو كتابة أيام المراهقة، ما جعل الكثير من المنتج الشعري أقل مما منحته قصيدة النثر من حرية للشاعر في توظيف كل أشكال الكتابة كالسرد القصصي والرسائل والأفكار الفلسفية. هذه القصيدة فيها فضاء مفتوح لكل أشكال الكتابة ولكن البعض يريد أن يجعل من النثر عمودا جديدا أو تفعيلة بلا تفعيلة.. سأظل مدينا لقصيدة النثر أنها منحتني حرية أن أكتب داخلها شعرا موزونا بتفعيلة فهي قصيدة رحبة لا تمارس الإقصاء الذي يمارسه بعض كتابها ضد الفن المختلف عنهم.

الكتابة فعل مركب
أكتب بخيال ريفي فرح بالحياة وليتني أستطيع أن أكون ترجمانا لمشاعر الفلاحين بأفراحهم وأحزانهم.. هذا دور نبيل لا أستطيعه لكنني أستعيد ذاكرة الطفل الريفي ذي الجلباب القصير لأكتب قصيدة تشبهني وتجعلني متوازنا في عالم يدفعنا للجنون وربما لو لم أكتب لانتحرت.
الكتابة فعل مركب لا يمكن أن نقيسه بالموازين أو المنطق.. الكتابة جنون عاقل تماما، وفوضى منتظمة لا تقلد العالم الخارجي ولا تخلق عالما بديلا، فليس هذا من مهمة الشاعر وهنا أرفض منح الشاعر قداسة زائفة كأن نجعله نبيا أو وسيطا بين الله والناس، كما قال هايدجر في دراسته الفذة عن هولدرلين .
أرفض أي دور للشاعر كالعرافة والكهانة والساحر الرجيم وأرفض أن يكون شيطانا يدمر البنى التقليدية للفكر السائد فهذه مهمة المفكر. المفروض أن يكون الشاعر شاعرا فقط وللأسف ليس هناك تعريف دقيق للشعر أو الشاعر أو وصفة جاهزة لكن لا يصح أن نعامل الشاعر كأنه إما نبي أو شيطان علينا أن نستمتع بما يكتب، نقبل منه ما نقبل ونرفض ما نرفض ولكن علينا أن نتوقف عن تكليفه مالا يطيق او محاكمته دائما.

المشهد الثقافي
المشهد الثقافي المصري لا يعنيني فأنا لا أطبع كتبي عند وزارة أو جهة رسمية وتوقفت عن طبع دواويني عند الناشرين في دور النشر الخاصة، فالكل يحول الشعر إلى سلعة ولست تاجرا ..
أريد أن أكتب لنفسي فقط في المرايا أو لنخبة منتقاة من الشعراء، أما الجمهور فلست أعرفه ولست خادما في مملكته. أنا خادم في مملكة القصيدة فقط ولذلك لا علم لدي بما في المشهد الثقافي من تناقضات المصالح.. والحمد لله أني أمارس ما يشبه العزلة عن الوسط الثقافي المصري.
لا أدين أحدا بشيء، ولا أتهم أحدا.. فقط أريد أن أكون نفسي لنفسي فقط بلا مزيد. لا يهمني رضا السلطة عني صحافيا أو شاعرا ولا يهمني رضا النقاد.. ولا ألوم أحدا لو مزق كتبي فلكل الحق في تلقي ما نكتب بالطريقة التي تناسبه ولا أدعو أحدا لقراءتي ولا للنشر عني أنا زاهد في كل شيء بعد أن رأيت خلال ثلاثين عاما كثيرا من الجرائم التي ارتكبت بحق مبدعين موهوبين قتلتهم الأوساط الادبية بوشاية أو بإقصاء صامت مريب..
لي قصيدتي وهذه تكفيني ولي قراء أحبهم على الفيس بوك ترضيني قراءتهم...