تشهد الصين والهند والبرازيل تقدمًا بارزًا على صعيد الاقتصاد العالمي، ما يجعلها أكثر ثقة على الساحة السياسية. لكن على الرغم من أنها تشكل جبهة ضد الغرب، فهي تواجه عراقيل داخلية رئيسة لم يعد باستطاعة مواطنيها تجاهلها.


بيروت: ما هي مدن العالم الأكثر أهمية في المستقبل؟ للإجابة على هذا السؤال، درست مجلة فورين بوليسي ومعهد ماكينزي العالمي معايير رئيسية مثل النمو الاقتصادي وتقبل التكنولوجيا، وكانت النتيجة شنغهاي وتيانجين وساو باولو. الأكثر اثارة للاهتمام في هذه النتيجة هو غياب أي مدينة أوروبية غربية عن المراتب العشر الأولى لـ quot;المدن الأكثر ديناميكيةquot;، كما أنه لم يرد ذكر برلين ولا فرانكفورت أو ميونيخ حتى بين أفضل 50 مدينة، فيما احتلت غيرها من المدن في الصين والهند والبرازيل مواقع متقدمة في اللائحة.
تبدل في الهرم
أشارت شركة الاستشارات quot;ديلويت توش توهماتسوquot; إلى أن الصين تتقدم الآن على ألمانيا والولايات المتحدة والهند. لكن وفقًا للإسقاط الذي يعتمد على آراء 550 من كبار المسؤولين التنفيذيين من الشركات الرائدة، فإن التسلسل الهرمي سيتغيّر بحلول عام 2017. فألمانيا والولايات المتحدة ستنزلان من أعلى الرتب ولن يعود بإمكان القوى القديمة أن تقود العالم، وذلك بعد أن تحل محلها الصين، تليها الهند والبرازيل.
ما هو أكثر من ذلك وفقًا لتقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة 2013، هو صعود الجنوب غير المسبوق في السرعة والحجم. فللمرة الاولىفي 150 عامًا، يكون الناتج المشترك لثلاثة اقتصادات في العالم النامي الرائدة - البرازيل والصين والهند - مساويًا لمجموع الناتج المحلي الإجمالي للدول الصناعية منذ فترة طويلة، أي كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. إلى ذلك، يبدو أن بكين هذا العام استوردت كمية من النفط من أوبك تفوق ما استوردته الولايات المتحدة، وذلك للمرة الأولى على الإطلاق.
جعة برازيلية
أشارت مجلة در شبيغل الألمانية إلى أن الصين والهند والبرازيل ليست مجرد كتلة من الأراضي والأعداد الضخمة من المستهلكين في هذه البلدان الثلاثة، التي تشكل ما يقرب من 40 بالمئة من سكان العالم. انها دول أذهلت العالم بأدائها المثير للإعجاب في العديد من المجالات، بما في ذلك البحوث والتكنولوجيا.
صاحب أكبر مصنع للجعة في العالم هو البرازيلي الملياردير خورخي باولو يمان، الذي استحوذ أخيرًا على شركة انهيزر بوش ومقرها الولايات المتحدة. وتعتبر الدولة الواقعة في أميركا الجنوبية أيضًا واحدة من رواد العالم في مجال البحوث الغذائية.
ساو باولو، جنبًا إلى جنب مع المنطقة المحيطة بها، هي الموقع الأكبر في العالم للأعمال التجارية الألمانية، مع حوالي 800 فرع للشركات الألمانية. وحازت البرازيل أيضًا على امبراير، ثالث أكبر مصنع للطائرات في العالم بعد بوينغ وايرباص. أما ريو دي جانيرو فهي عاصمة الاحتفال بلا منازع، لا سيما الآن بعد أن تم اختيار المدينة لاستضافة كأس العالم 2014 ودورة الالعاب الاولمبية الصيفية عام 2016.
الهند والصين
المسكن الخاص الأغلى في العالم، يملكه رجل الأعمال موكيش أمباني، ويقع في مدينة مومباي الهندية. أي شخص يقود سيارة جاغوار أو لاند روفر يجب أن يعلم أن سيارته مصنوعة من قبل شركة هندية، بعد أن حازت تاتا موتورز على شركة صناعة السيارات البريطانية التقليدية. والهند أكبر منتج في العالم للبوليستر، وقوة رائدة في مجال الطاقة المتجددة، كما أن بيون في غرب الهند هي موطن لتوربينات الرياح quot;سوزلونquot; التي استحوذت على ريباور في هامبورغ. ونيودلهي مقر للشركات الرائدة المنتجة لبرامج الكمبيوتر وتكنولوجيا الفضاء في العالم.
أما الصين فسوق مثالية لشركة فولكس واغن، التي تبيع سيارات في هذه الدولة أكثر مما كانت تبيعه في ألمانيا لفترة طويلة. وتخطط الشركة لفتح خمسة مصانع جديدة هناك في هذا العام وحده. وعلى العكس، فإن الصين تستثمر أيضًا في ألمانيا، حيث أنها استحوذت حتى الآن على شركات توريد السيارات وقامت بشراء بعض من أهم الشركات المتوسطة الحجم في ألمانيا.
جبهة سياسية
من الناحية السياسية، فإن القوى الكبرى الجديدة تزداد ثقة بالنفس، وأحيانًا تشكل جبهة موحدة ضد الغرب، وهذا ما يظهر بوضوح في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث تمنع الصين أي قرار لا يعجبها بشأن الشرق الأوسط، في حين تفرد البحرية الصينية عضلاتها في مياه الشرق الأقصى من دون منازع.
من جهتها، تخالف الهند الاتجاه الدولي السائد من خلال حشد ترسانتها من الأسلحة النووية بدلًا من خفضها، في حين أن الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف ألغت رحلتها إلى الولايات المتحدة واجتماعها مع الرئيس الأميركي باراك أوباما احتجاجًا على ممارسات وكالة الأمن القومي، وهي خطوة لن تتجرأ المستشارة الالمانية انجيلا ميركل أن تقدم عليها، على الرغم من أن بلادها شهدت معاملة مماثلة من قبل وكالة الأمن القومي.
ولا يمكن تجاهل انضمام الاقتصادات الناشئة الثلاثة إلى روسيا وجنوب أفريقيا لتشكيل مجموعة بريكس، التي قرر قادتها إطلاق بنك التنمية الخاصة بها برأسمال يبدأ من 100 مليار دولار، كبديل للبنك الدولي، الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة.
اضطرابات داخلية
من ناحية أخرى، تهتز الصين والهند والبرازيل حاليًا بسبب الاضطرابات الداخلية. فالناس يخرجون إلى الشوارع في جميع هذه البلدان للاحتجاج على الفساد والمحسوبية وعدم كفاءة الحكومة. وهذه الدول الناشئة بدأت تشهد ضعفًا كبيرًا في اقتصاداتها في الأشهر الأخيرة، اذ من المتوقع أن تكون معدلات النمو في العام 2013 نحو نصف ما كانت عليه في بداية فترة الازدهار في عام 2007، مع انخفاض الصين من 14 إلى نحو 7.5 بالمئة، وفي الهند من حوالي 10 إلى 5 بالمئة، وفي البرازيل من 6 إلى ما يقدر بنحو 2.5 بالمئة.
لكن هذه الارقام لا تزال أفضل من معدلات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، انما ليست جيدة بما فيه الكفاية لتلبية توقعات القوى الصاعدة.
وفي الوقت الذي يخبو فيه لمعان هذه الدول، بدأت الاختلافات بالعودة إلى الضوء مرة أخرى، فعلى الرغم من أن القوى الثلاث الجديدة في اتفاق معظم الوقت عندما يتعلق الأمر بمعارضة الهيمنة الغربية، إلا أنها تختلف بشكل جذري عندما يتعلق الأمر بسياساتها ونماذج التنمية الخاصة بها.
إلى أين؟
يعتبر بعض الخبراء أن القوى الغربية مريضة للغاية، في حين أن بكين ونيودلهي وبرازيليا تعاني من مجرد سعال بسيط. لكن كيف سيبدو العالم في العام 2025؟ من المرجح أن يستمر صعود الصين والهند والبرازيل انما بوتيرة أبطأ، وبدون تحقيق معدلات نمو قياسية كالسابق.
المسألة الآن تتمحور حول مرحلة التطوير الأكثر صعوبة التي سوف تضطر الدول الثلاث أن تدرك أن الطريق من الطبقة الدنيا في العالم إلى الطبقة المتوسطة هو أسهل من الوصول إلى الطبق الأعلى.
في بكين، على وجه الخصوص، سيحدث ما يسمى بـ quot;نقطة تحول لويزيانquot;، تيمنًا بالاقتصادي البريطاني الذي تحدث عن الحالة غير المرغوبة عندما يتم امتصاص عمال المزارع ذوي الأجور المنخفضة والمفيدة للاقتصاد في القطاع الصناعي، فيصبحون عبئًا بسبب ارتفاع الأجور والتأمين الصحي والمعاشات التقاعدية.
أما الهند والبرازيل فستعانيان من ظاهرة أخرى غير سارة وهي quot;فخ الدخل المتوسطquot;، الذي يؤدي فيه ارتفاع تكاليف الإنتاج السريع إلى ركود النمو النسبي.
رمق أخير
من المرجح أن تستمر أوروبا في غفلتها الحالية، وتصبح رهينة في يد القوى الجديدة، ما يجعلها متنزهًا ثقافيًا للقوى الجديدة. وفقًا لدراسة أجرتها شركة ميرسر للاستشارات، فإن فيينا وزيورخ وأوكلاند وميونيخ هي مدن ذات أعلى نوعية للحياة في جميع أنحاء العالم.
أما روسيا، فمن المرجح أن تواجه المسار الأكثر صعوبة لا سيما في ظل تقلص عدد السكان، واستناد الاقتصاد الى السلع الأساسية بشكل شبه حصري، وانخفاض المشاركة المدنية في الحكومة منذ فترة طويلة. أما في الديبلوماسية الدولية، فإن استخدام موسكو للتكتيكات الذكية بشأن المسألة السورية ليس أكثر من الرمق الأخير، إذ أن الصين ستتغلب على موسكو من آسيا الوسطى إلى أفريقيا.
وعلى الرغم من اتجاه واشنطن نحو التدمير الذاتي في ظل الشلل الحكومي في واشنطن، إلا أن لدى الولايات المتحدة توقعات اقتصادية قوية، يمكن تلخيصها في كلمة واحدة، وهي التكسير. نتيجة لهذه التكنولوجيا المثيرة للجدل بيئيًا لاستخراج الغاز الطبيعي من أعماق كبيرة، فإن الولايات المتحدة ستصبح مستقلة من حيث واردات الطاقة في العقد القادم، ويمكنها أن تعمد على ذاتها في هذا المجال، وبالتالي تصبح أكثر قدرة للتركيز على بناء الأمة في الداخل.