ما الذي يميز عصرنا؟ عصر ما بعد الحداثة... ما هي مقوماته وخصائصه؟.... أعلم أن (بومة مينرفا) كما قال quot; هيجل quot; تأتي متأخرة دائما، ولا تطير إلا عندما يرخي الليل سدوله، غير أن ذلك يناقض الطابع العام للفلسفة وجوهرها، فلم يكتف الفلاسفة بالتعبير عن روح عصرهم، ولم يكونوا فقط مجرد أصداء لوعيه الصادق، فكثيرا ما تجاوزا عصورهم بأفكارهم ورؤاهم المستقبلية، وهنا تكمن جسارة الفلسفة وجرأة الفلاسفة في كل زمان ومكان.
قبل عشرين عاما، أصدر quot;ديك هيبدايجquot; - D. Hebdige كتابا مهما حول ما quot; بعد الحداثة quot;، تحت عنوان: (Hiding in the Light: On Images and Things) عام 1988، يسلط الضوء بشدة علي ما نعيشه اليوم، قال فيه: quot; أن ما بعد الحداثة هى الحداثة الخالية من الأحلام ومن الآمال التى مكنت البشر من احتمال الحداثة. فما بعد الحداثة هى حالة من (فقدان المركزية) ndash; Decentring، ومن التشعب والتشتت، نساق فيها من مكان إلى مكان عبر سلسلة من السطوح العاكسة كالمرايا المتقابلة (1).
أما السمة المميزة التى أنتقاها الناقد الأمريكي - المصري الأصل quot;إيهاب حسنquot;- الذي يعد أبرز الرواد المعتمدين لحركة ما بعد الحداثة ndash; لتمييز ما بعد الحداثة، فهى (استحالة التحديد) الأمر الذي يجعل من الصعوبة بمكان وضع أية خصائص محددة لها، وبالتالى تعريفها تعريفاً دقيقاً، وبيان أوجه الاتفاق والاختلاف بينها وبين quot;الحداثةquot;.
وقد أثار quot;حسنquot; فى كتابه: The Postmodern Turn, Essayes in post modern theory and culture. (التحول ما بعد الحداثي: محاولات فى نظرية وثقافة ما بعد الحداثة)- وهو عبارة عن إسهاماته المتعددة عبر عشرين سنة، والتى جمعها فى هذا الكتاب - أهم مشكلة فى تعريف ما بعد الحداثة وهى quot; استحالة التحديدquot; هذه- كما تؤكد مارجريت روز- ويسرد quot;حسنquot; مجموعة من المشكلات التصورية، ويري أنها جوهر ما بعد الحداثة، فى الوقت نفسه، منها:
إن لفظ quot; ما بعد الحداثةquot; يتضمن فكرة quot;الحداثةquot;، وهى الفكرة التى يقصد تجاوزها أو نقضها، أى أن اللفظ ذاته ينطوى على خصم له. كما أن لفظ quot;ما بعد الحداثةquot; يشير الى التوالى الزمني، ويوحي بالتأخر الزمني في الوقت نفسه. ويتساءل quot;حسنquot;: أهناك تسمية أفضل من عصر quot;ما بعد الحداثةquot;: أنسميه مثلاً، العصر الذري، أو عصر الفضاء أو عصر التليفزيون، أو العصر السيموطيقي أو عصر التفكيك، أم نسميه quot;عصر استحالة التحديدquot; (2).
لا يوجد إجماع بين النقاد على تعريف واضح لمفهوم quot;ما بعد الحداثةquot;.
مفهوم quot; ما بعد الحداثةquot; ذاته عرضة للتغير، كغيره من المفاهيم.
معنى هذا أن فترة ما بعينها هى استمرار وانفصال فى آن واحد، ومن ثم فإننا بحاجة الى أن ننظر إلى quot; ما بعد الحداثةquot; بمنظارين هما منظارا quot;التشابهquot; و quot;الاختلافquot;، quot;الوحدة والتعددquot;، quot;التبعية والتمردquot;، كل ذلك لازم إذا راعينا التاريخ، وتفهمنا ما يحدث خلاله من تغيير.
إن لفظ quot;الفترةquot; بصفة عامة ليس بـ quot;فترةquot; على الإطلاق، بل هو quot; بنيةquot; تمتد فى الزمان وتتشعب فى quot;لحظةquot; معينة فيه. لقد كونا نموذجاً لـ quot; ما بعد الحداثةquot; فى أذهاننا، فرض علينا أنماطاً محددة من الثقافة والخيال، والعديد من الكتاب واللحظات التاريخية من ناحية أخرى، أى اننا كما يقول quot;حسنquot;: quot; أعدنا خلق أسلافنا.... بحيث أصبحنا نرى بعض قدامى الكتاب بوصفهم متوافقين مع تيار ما بعد الحداثة، بينما نرمي البعض الآخر بـ quot;الحداثةquot; وهنا تحديداً تبرز إحدى أهم المشكلات في دراسة quot; ما بعد الحداثةquot;، وهي: من الباحثين يختار من الكتاب بوصفه من كتاب ما بعد الحداثة؟ وما هى دوافع هذا الاختيار؟ (3)
أما الفيلسوف الأشهر الذي نعي خبر موت عصر الحداثة، وأعلن عن ميلاد عصر quot;ما بعد الحداثةquot; فهو الفيلسوف الفرنسي quot; جان فرانسو ليوتارquot; - Lyotard - كما سبق وذكرنا - وذلك فى كتابه الشهير: quot; الوضع ما بعد الحداثي:
تقرير عن حال المعرفةquot; La condition postmodern - Rapport sur lesavoir والذي نشر بالفرنسية عام 1979، ثم ترجم إلى الإنجليزية عام 1984.
هذا من جهة، من جهة أخرى نجد أن quot; آلان تورين quot; يقترح في كتابه quot; نقد الحداثة quot; إعادة تعريف الحداثة كعلاقة يسودها التوتر بين العقل والذات، بين العقلنة وتحقيق الذات، بين روح النهضة وروح الإصلاح، بين العلم والحرية. وهو موقف بعيد عن حداثية اليوم التي دخلت في مرحلة الانهيار وعن ما بعد الحداثة التي يجول شبحها في كل مكان.(4)
هكذا يتضح أنه إذا كان تيار ما بعد الحداثة يقوم على أساس من هجوم مركز على قيم quot; الحداثةquot; الغربية، ومفاهيمها المحورية، بل ويذهب - كما فعل ليوتار - الى الزعم بأن مشروع الحداثة قد سقط نهائياً، بعد ان وصل إلى نهايته، وأخفقت الحداثة فى تحقيق وعودها، وعود عصر التنوير والعقلانية الغربية بتحقيق التطابق الكامل بين quot; العقلquot; و quot;العالمquot;، فإن هناك من يقترح نقد الحداثة وليس نقضها أو هدمها، ولكن من منظور جديد hellip; وهو ما سنتعرف عليه في المقال القادم.
الهوامش
1-Dick Hebdige: Hiding in the Light: On Images and things (London and New York, 1988, P195.
2-Ihaab Hassan: The Post modern Turn-Essays in Post modern Theory and Culture (Columbus, oh, 1987, PP: 120-122.
3-Ibid: P. 124.
4-آلان تورين: نقد الحداثة، ترجمة: أنور مغيث، المجلس الأعلى للثقافة، 1997، ص 23.