كان آخر الكبار، ذلك الذي لم يكن وفيا سوى لفلسطين. كان محمود درويش مسكونا بفلسطين. كان أنسانا شفافا ألى أبعد حدود، لكن شفافيته كانت تتوقف عند فلسطين التي عاد أليها من دون أن يعود. ذهب ألى فلسطين مودعا. ذهب العام الماضي ألى حيفا، وعاد مؤمنا

اقرأ أيضا:

محمود درويش: الشاعر الذي خدشته المؤسسة

رحل مجنون التراب وبقي التراب

في رحيل محمود درويش

عباس ينعي محمود درويش ويعلن الحداد في الاراضي الفلسطينية

أكثر من أي وقت بأن المجتمع الأسرائيلي مريض وأن الأسرائيلي في حاجة دائمة ألى أن يظهر في مظهر الضحية. في احدى المرات قال لي محمود درويش أن الأسرائيلي يخاف من الفلسطيني لأنه يسلبه دور الضحية. بالنسبة أليه، ثمة حاجة مستمرة لدى الأسرائيلي لأن يكون في وضع الضحيةفي حين أن الضحية الحقيقية هي الفلسطيني. كان الأسرائيلي، ولا يزال، يرفض ذلك ويصر على أنه هو الضحية. يغار من الفلسطيني بصفة كون الأخير ضحية. هذه الصورة لم تفارق محمود درويش يوما. لم يغفر للأسرائيلي أنه يريد أن يسرق حتى من الفلسطيني حقيقة أنه الضحية. كان يرى في تلك الصورة ذروة المأساة الفلسطينية والمثل الأوضح على البؤس الأسرائيلي وعمق الأزمة الوجودية التي يعاني منها أولئك الذين جاؤوا من أصقاع الأرض ألى فلسطين وشردوا شعبها.
أمتلك محمود درويش ما يكفي من التواضع ليرفض كل من لا علاقة له بالذكاء أو خفة الدم. لم يكن متساهلا أو متسامحا في أي شكل مع ثقلاء الدم والأغبياء. لم يكن يتحمل سوى أولئك الذين كان لديهم حد أدنى من البريق. لذلك كان اصدقاؤه نادرين على الرغم من أن كثيرين كانوا يعتبرون نفسهم قريبين منه. لم يكن محمود درويش سهلا ولم يكن متساهلا ولا حتى متسامحا. كان يرفض الأبتذال بشكل صارم وقاطع وكان يرفض المبتذلين، كان أكثر ما يكرهه أن يقول أحدهم أن قصائده quot;حماسيةquot; او أنه جاء ألى ندوة ما ليلقي قصيدة quot;حماسيةquot;. لم تكن لديه اية أوهام في شأن الآخرين. لذلك لم يكن يتعاطى بعمق سوى مع الأنقياء. من بين هؤلاء الشهيد سمير قصير وزوجته جيزيل خوري. أما الصحافيون الآخرون، بمن في ذلك أدعياء الوطنية والتقدمية من الذين عملوا لدى صحف تابعة لأجهزة وأنظمة معروفة... فكان يعرف تماما ثمن كل منهم من الأحياء والأموات للأسف الشديد! لم تكن لدى محمود درويش أوهام. لم يكن مجرد شاعر لا مثيل له في العالم العربي. كان سياسيا في الدرجة الأولى. لكنه على خلاف السياسيين، كان يرفض الدخول في مساومات، خصوصا عندما يتعلق الأمر بفلسطين. كان يحتمي بمحمود درويش الشاعر عندما كان عليه الدخول في دهاليز السياسة ومتاهاتها. عندئذ كان يعود ألى الشاعر يستنجد به كي يبقى محمود درويش وفيا لمحمود درويش ولفلسطين أولا.
ما لا يعرفه كثيرون أن محمود درويش كان عاشقا لبيروت. رفض مغادرة العاصمة اللبنانية حتى بعد الأحتلال الأسرائيلي لها في العام 1982. بقي صامدا ينتقل من مقهى ألى آخر في مرحلة ما بعد أنحسار الأحتلال عن شوارع المدينة. لم يرحل عن بيروت وعن شقته في رأس بيروت، الواقعة في شارع محاذ لشارع بلس حيث الجامعة الأميركية، الا بعدما تلقى تهديدات مباشرة من الأسرائيليين ومن كان يمثلهم في تلك المرحلة المشؤومة. غادر على أمل العودة قريبا، لكن غيابه طال ألى أن عادت بيروت وعاد لبنان بفضل رفيق الحريري أبتداء من السنة 1990.
ما لايعرفه كثيرون أيضا أن محمود درويش لم يكن يوما بعيدا عن القرار السياسي الفلسطيني وعن كل الخطابات المهمة التي ألقاها ياسرعرفات، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، بدءا بخطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1974. كان محمود درويش، عبر بصماته وعبر صياغات معينة، حاضرا في كل خطاب من تلك الخطابات، بأستثناء تلك التي كان فيها ضعف ما. أبتعد محمود درويش عن القرار الفلسطيني بعد التوصل ألى أتفاق أوسلو في العام 1993، لكنه لم يبتعد عن ياسر عرفات. كانت لديه تحفظاته من منطلق أنه لم يكن شريكا في القرار. كان محقا في كل كلمة قالها وقتذاك. كان يعرف الفلسطينيين أكثر من غيره وكان يعرف خصوصا الأسرائيليين من داخل وكان يدرك تمام الأدراك هواجسهم وأمراضهم... حتى أنه كان بين القلائل الذين توقعوا أغتيال أسحق رابين على يد متطرف أسرائيلي بعد توقيع أتفاق أوسلو.
بعد محمود درويش، يصعب الحديث عن شاعر كبير في العالم العربي. يصعب الحديث عن شاعر وسياسي وأنسان أحب المدن العربية وغير العربية. احب القاهرة وبيروت وعمان وأحب باريس خصوصا وقد أقام فيها سنوات عدة. كان محمود درويش أستثنائيا. رفض دائما الدخول في أي نوع من المساومات حتى مع نسائه. طبّق ذلك على السياسة. لم يكن لديه وفاء سوى لفلسطين. كانت حبيبته الأولى والأخيرة. مات عاشقا لفلسطين ومن أجل فلسطين.