بعث عبد الرحمن الجبرتى مؤرخ مصر العظيم (1756 - 1825) برسالة تتحدث عن الأحوال فى (بر مصر) يقول فيها: quot;....والحمد لله لا عرب ولا جربquot;. وكان وقتها فيما يبدو ينتشر مرض الجرب فحمد الله الجبرتى عن أنه فى تلك السنة لم يكن ينتشر مرض الجرب، وفيما يبدو لم يكن هناك إنتشار للعرب. والعرب فى عرف المصريين هم من يسكنون خارج ضفاف النيل فى الصحراء الشرقية وصحراء سيناء والصحراء الغربية بالقرب من الحدود الليبية. وكانوا يعيشون على الرعى ويبدو أنه عندما كان يتعثر الرعى يأخذ البعض منهم فى الإغارة على قرى حدود الوادى يخطفون معزة أو جاموسة ويقطعون طريقا، وقديما عندما كان يحج الناس برا كانت مصر ترسل حامية مع الحجاج حتى مكة وذلك لحمايتها من قطاع الطرق من الأعراب.
وحتى اليوم فى مصر عندما يكثر السياح يقول المصريون: quot;العرب ماليين الفنادق السنة دىquot; على إعتبار انهم ليسوا عربا فى الحقيقة، ولكن بعد اكثر من قرن ونصف من الزمان من مقولة الجبرتى و فى عام 1958 إستطاع ميشيل عفلق وحزب البعث السورى وفى لحظة تجلى من إقناع جمال عبد الناصر بأنه باعث القومية العربية وبأنه صلاح الدين الجديد، وأقنعوه بالوحدة مع سوريا، فإندفع الرجل بإخلاص لا يدانيه إلا سذاجته السياسية وخدع بشعبيته الجارفة فى سوريا وبالذات فى حلب عندما رفعت الجماهير المعجبة بالقائد العربى الجديد سيارة عبد الناصر من على الأرض، ولم يكن حوله حرس ولا يحزنون، وتعجب عبد الناصر من تلك الشعبية الجارفة والتى لم يجد مثلها حتى فى القاهرة، وعلى الفور تمت الوحدة وقام عبد الناصر بجرة قلم بشطب كلمة quot;مصرquot; من على الخريطة، ذلك الأسم الذى دام لأكثر من خمسة آلاف سنة تم إستبداله بكلمة الإقليم الجنوبى، وأعجب المصريون السذج بتلك الوحدة بالرغم ن أنها شطبت إسمهم من على الخريطة، واصبح أسم مصر: quot;الجمهورية العربية المتحدةquot;، وتحولت جنسية المصرى إلى: عربى ndash; إقليمى جنوبى!! وصدق عبد الناصر تماما مسألة العروبة حتى جاءته الصدمة من حماة العروبة فى دمشق بالإنفصال عن مصر (الإقليم الجنوبى) وأرسلوا له صديق عمره وقائده الهمام (عبد الحكيم عامر) بشنطة هدومه مثل اى زوجة يطردها زوجها، وبالرغم من هذا فإن عبد الناصر لم يكفر بالعروبة وإستمرت مصر تحمل إسم (الجمهورية العربية المتحدة) حتى بعد ان تخلت عنه سوريا، ثم جاءت الإشاعات من موسكو مرة أخرى أن هناك حشودا إسرائيلية فى عام 1967 على حدود سوريا، الأمر الذى إدى بعبد الناصر إلى التورط مرة أخرى مع سوريا وكانت هزيمة 1967 النكراء، ولم يعد إسم مصر مرة أخرى إلا بعد وفاة عبد الناصر، حتى أن السادات لم يهن عليه أن يعد إسم مصر فقط بل أضاف إليها لقب (العربية)، وذلك من باب ذر الرماد فى العيون.
وما لم يدركه حماة فكرة العروبة والقومية العربية بأن جامعة الدول العربية تم إنشاؤها بواسطة بريطانيا ليس حبا فى العرب ولكن لضمان عدم عودة الخلافة الإسلامية مرة اخرى ولضمان هزيمة الإتجاهات الإسلامية وذلك بتقوية الإتجاه القومى العروبى.
والقومية العربية مثلها مثل أى قومية إخرى هى حركة أعتبرها عنصرية لأنها تؤمن بتفوق عنصر على عنصر آخر، لذلك إصطدمت الحركة الصهيونية بالقومية العربية فى التنازع على فلسطين وحولت قضية فلسطين من مضمونها الأساسى كأرض واحدة يمكن تقسيمها بين الفلسطينيين واليهود إلى قضية قومية وتم إخراج الصراع من مضمونه المحدود وتم إخراج نصف الفلسطينين من اراضيهم وتحولت القضية إلى قضية إقليمية ودولية كل هذا بإسم القومية العربية، وقامت بسببها عدة حروب وكل مرة تتقلص مساحة الفلسطينيين لحساب الإسرائيليين.
ومصر كانت دائما وأبدا طرفا فى كل حروب فلسطين حتى جاء السادات وأخرج إسرائيل من مصر وأخرج مصر من معادلة هذا الصراع الذى تحول إلى عرضامستمرا يستفيد منه الأرزقية والقومجية، الأمر الذى لم يعجب معظم العرب وطردوا مصر من جامعتهم، وقاطعوا مصر وكأنها فجأة أصبحت العدو رقم واحد، وحديثا بدأ الإسلام السياسى من الإستفادة من هذا الصراع ونجحوا فى تحويله من صراع بين القومية العربية والصهيونية إلى صراع بين المسلمين واليهود.
...
حتى حدثت أحداث مباراة مصروالجزائر وحدث هجوم همجى على الفريق الجزائرى فى القاهرة كما حدث هجوم همجى آخر على المصريين ليس فقط فى شوارع الجزائر ووهران والخرطوم ومرسيليا وأسبانيا ولكن على معظم القنوات العربية ظهر إنحياز العديد من تلك القنوات ضد مصر وظهرت الشماتة الحقيقية والحسد على مصر، حتى السودان والتى نعتبرها جزءا من وادى النيل لم تستطع إخفاء الشماتة.
لذا اخذت أتساءل: هل حقا يشمت باقى العرب فى مصائب مصر؟ هل لأن تعداد مصر بلغ 80 مليون (وهى أكبر مصيبة فى إعتقادى) ؟ هل هو الحسد والغيرة الطبيعية بين أولاد العم؟ هل لأن مصر قدمت إلى العالم العربى السينما والموسيقى والأدب والعلم وجوائز نوبل؟ هل لأن المصريون يعتزون بغرور وبطريقة مبالغ فيها بأنهم حضارة خمسة آلاف سنة؟ هل لأن مصر كانت تعلم العديد من العرب مجانا، وكانت ترسل لهم المدرسين والكراريس والأقلام وحتى الأساتيك؟ هل لأن المصريين ما زلوا يشتركون فى بناء المدن العربية الحديثة والشوارع والمدارس فى العديد من البلاد العربية؟ هل لأن الأطباء والممرضات المصريات ما زالوا يعالجون العديد من العرب داخل وخارج مصر؟ هل لأن بعض العرب يأتون إلى مصر للتهييص وللزواج من فقيرات مصر؟ هل لأن مصر تقدم لهم الأفلام (والتى يطلقون عليها زورا أفلاما عربية بينما هى فى الحقيقة أفلاما مصرية)؟ هل لأن مصر تملأ قنواتهم الفضائية فى رمضان وغير رمضان بمسلسلات مصرية مملة فى معظم الأحيان؟ هل لأن القاهرة كانت أول بلد تستقبل بن بيلا كأحد أبنائها والذى أعلن من القاهرة اول حكومة جزائرية فى المنفى؟ هل لأن عبد الناصر منع دراسة اللغة الفرنسية فى مدارس مصر الحكومية فى أوائل الستينييات إحتجاجا على الإنتهاكات الفرنسية ضد الشعب الجزائرى؟ هل لأن المدرسون المصريون علموا الجزائريين كيف يشتمون بالعربية بعد أن كانوا يشتمون بالفرنسية؟
...
هل تلومون بعض أفراد الشعب المصرى إذا كفروا بالعروبة؟ واين تلك العروبة؟ هل هى فى الحرب على حدود اليمن؟ هل هى فى تفجيرات لبنان أم فى تفجيرات العراق؟ هل نجدها فى دارفور؟ أم فى حرب حماس وفتح؟ هل هى فى تهريب الإرهاب من سوريا للعراق؟ هل هى فى محاولة حماس إرسال أسلحة إلى مصر؟ أم هى فى محاولة حزب الله للنيل من السيادة المصرية؟
لقد أدت الحروب العربية ndash; العربية إلى ضحايا وخسائر أكثر كثيرا من حروب العرب مع أعدائهم.
أما الآن الأوان للتخلى عن فكرة القومية العربية ونقوم بتأجير مقر الجامعة العربية فى القاهرة شققا مفروشة؟
أما آن الأوان لكى نعى أن إنتساب المواطن إلى وطنه أقوى من أى إنتماء آخر؟
أما آن الأوان لكى تتعامل الدول العربية مع بعضها من منطلق المصالح الإقتصادية؟ ونبدأ بتكوين سوق عربية مشتركة حقيقية ونفتح الأسواق بين الدول العربية ونقضى على تأشيرات الدخول بين الدول العربية ونسمح بالتملك والتجارة والإقامة بين البلاد العربية؟
عندها سوف تتحق الوحدة العربية الإقتصادية وسوف تليها الوحدة الإجتماعية والثقافية (وليست الرياضية!!)، وعندها سوف تنتهى حالات الردح الجماعى بين مصر والجزائرعلى شاشات التليفزيونات العربية وعندها من الممكن أن نغنى جميعا:quot;وحدة مايغلبها غلابquot;.
[email protected]