أعلن الرئيس الإيراني أحمدي نجاد في خطابه الأخير الذي وجهه لأهالي شهداء الحرب العراقية الإيرانية في أصفهان. بمناسبة الاحتفال بعيد غدير خم. أنه لديه الدليل على أن الولايات المتحدة والغرب بشكل عام يعملون على منع ظهور الإمام المهدي، وعودته من غيبته. ويستند إلى أن كل محاولات أمريكا للسيطرة على الشرق الأوسط ومحاصرة إيران، سواء من الجنوب العراقي او الشمال الأفغاني لهو دليل كاف على ما يقول. فالغرب يعلم جيداً كما صرح نجاد أن هناك من سيظهر في الشرق الأوسط من سلالة بيت النبوة لينزع شوكة كل الظالمين المستكبرين في العالم. لذا قرروا أن يتواجدوا بشكل مكثف في هذه المنطقة تحديداً. ليس بهدف مقاومة الإرهاب كما يعلنون. أو للسيطرة على منابع الطاقة كما يرى بعض المحللون. لا، بل بسبب منع الإمام المهدي من الظهور. وإضعاف العالم الإسلامي الذي ينتظر قدومه. وبالطبع يقصد العالم الإسلامي الشيعي أو الإيراني تحديداً. فكما أكد أن إيران هي أهم دول العالم.
استخدم الرئيس نجاد في خطابه هذا منطق يمزج فيه بشكل واضح بين الهوية القومية الإيرانية والطبيعة الشيعية المذهبية. يشكل هاذين العنصرين محورا خطابات نجاد الموجه للشارع الإيراني بشتى طوائفه. وإن كان يستهدف طوال الوقت الطبقة البسيطة. ليحقق منها أكبر مكاسب ممكنة. وهذا ما لاحظناه في الأزمات الإيرانية على التوالي. فدائماً القاعدة الشعبية هي سند نجاد الأخير أمام كل مخالفيه ومعارضيه سواء المثقفين أو النخبة الحاكمة. وبالبديهة فإن مشروع دولة المهدي وما يسكن العقلية الشعبية الإيرانية عنه. يعتبرهو المدخل الأوسع للسيطرة على تلك الجموع التي ظلت مهملة في المرحلة النخبوية الثقافية في عهد محمد خاتمي أو الإقتصادية وسيطرة البازار في مرحلة رفسنجاني.
القضية في رأيي أهم من رغبة نجاد في التوحد مع جموع الشعب الإيراني. فما يقدمه يتجاوز تلك المرحلة المحققة بالفعل. فنجاد يطرح امتزاج واضح بين مشروعه هو الشخصي وبين المشروع الشيعي الأكبر بدولة المهدي. أي أنه قد قفز بما يدعيه من معجزات مهدوية لحدود مجرد رئيس الجمهورية أو رئيس السلطة التنفيذية. ليحتل المكانة الدينية لمقام الإرشاد ذاته. فسياق الإلهام والقداسة دائماً ما كان من نصيب المرشد. ولكن يبدوا أن نجاد قد قرر استغلا ل تلك المساحة المقدسة، ليؤسس لمشروع أكبر من رئيس للجمهورية ستنتهي صلاحيته في وقت معلوم.
فلم تكن هذه هي المرة الأولى التي يدعي فيها نجاد معرفته بخبايا الأمور الدينية المذهبية. فيكفي أن نعلم أنه قد أعلن بشكل رسمي مثلاً، رؤيته لهالات النور التي تسبح أمامه أثناء خطابه الشهير في دربن. وأنه شعر أن الإمام المهدي هو من يملي عليه ما يقول. ولم يتورع نجاد أن يعلن ذات مرة أن المهدي قد قارب على الظهور. فلابد أن يبسط الأرض لقدومه، ولذا فهو مصمم على موقفه من المشروع النووي الإيراني أياً كانت الخسائر. وكذلك الإشاعات التي يروجها قادة الحرس الثوري من أن رئيسهم ملهم من قبل السماء. وأن كل قرارته بمباركة الإمام المهدي. بل أن بعضهم قد تعدى تلك الحدود ليزعم أن الحرس الثوري بكامل قوامه يحركه المهدي بإلهام مباشر بوصفه جيش المهدي وحربه القادمة. متجاوزين بذلك سلطان المرشد الولي الفقيه. أو اختصاصه إن صح التعبير.
وفي الحقيقة دائماً ما شكل الخطاب الديني خاصة في جانبه الغيبي بنية الخطاب السياسي الإيراني في مرحلة الدولة الإسلامية. وحسب الثقل الذي يرسو لديه الخطاب من الممكن تحديد الجانب الذي يسطير على الأوضاع الداخلية في إيران. ففي بداية الثورة كان الخوميني هو المالك الوحيد لتلك الهبة الدينية. وكذلك رجال الحوزة. مما أكد لرجال الدين سطوتهم الكاملة في بدايات الثورة وإلى وقت قريب. ولكن أن يتحول الثقل الغيبي للخطاب السياسي إلى كفة الحرس الثوري وأحد قادته السابيقين الذي أصبح رئيساً للجمهورية. فإن لذلك مؤشراته ودلائله على عسكرة الدولة الإيرانية الحديثة. ولكن تحت رداء من الغيبية المقدسة. وتجاوز التراتبية الدينية القائمة منذ بداية الثورة.
فالمشروع المهدوي للدولة الدينية محدد في أدبيات التشيع، بوصفه نهاية التاريخ أو بناء للعالم الجديد على أسس مذهبية شيعية. تصنف العالم بين تابع للمهدي أو منكر له. وتحقيق كل الإنتقامات المكبوتة على المستوى التاريخي من المنظور الشيعي. وما تحتويه تلك الأدبيات من مفاهيم الرجعة للأئمة بشكل عام والعودة لإمام الغائب. وصحيح أنه لا يوجد مذهب أو دين يخلو من فكرة المخلص أو الغائب العائد. ولكن أن يكون ذلك من الأسس العقائدية الأصيلة، فهذا يختص به التشيع بشكل خاص. فالمهدي سوف يحكم العالم بعد حرب مقدسة تفني كل أخر. و المهدوية فكرة ذات تسلسل منطقي تبعاً لمفهوم الإمامة والعصمة. ومأزق التشيع بغياب الإمام الثاني عشر. وللفكرة في النهاية احترامها على مستوى حرية العقيدة والاعتقاد. ولكن يظل امتزاج التشيع كمذهب اعتقادي بالسياسة كرد فعل تاريخي منذ نشأة التشيع للان، فكرة مركزية يصدرها دائماً الخطاب الشيعي بشقيه المذهبي والسياسي. وتجليات هذا الخطاب تبدوا واضحة في السياق المعاصر للدولة الإيرانية.
ونجاد في خطابه قد وحد بين موقفه السياسي من الغرب عامة، وأمريكا على وجه الخصوص. واشارته الواضحة لمشروع المهدي المنتظر بتطهير العالم. أي اعتماد فكرة الحرب المهدوية التي يؤسس لها بنفسه بوصفه الملهم من قبل الإمام الغائب. فأوهام الحروب المقدسة تظل مسيطرة على الخطاب السياسي المطروح الأن على الساحة الإيرانية. ويظل نجاد هو المروج لتلك الأوهام والتي تعبر بشكل مباشر كذلك عن نشأته العسكرية في الحرس الثوري، حيث تتم أدلجة الوعي العسكري للدولة تحت مظلة جيش الخلاص، أو جيش الدولة الدينية.
كما تمكن الرئيس الإيراني مع إلحاحه على تلك الحالة المقدسة، أن يكتسب شيئاً من العصمة الدينية. التي يتسم بها الأئمة في السياق الشيعي. فتخرج أفعاله وقراراته الداخلية والخارجية من نطاق المحاسبة الشعبية أو الرأي العام. لتدخل ساحة القداسة. خاصة مع تمكن النظام العكسري الحالي من تغييب أي دور فعال للحوزة الدينية. والتي كانت أحياناً ما تنتج حالة من الجدل المذهبي والفكري يسمح بتعددية الأفكار المطروحه على الرأي العام. فقد تمكن النظام العسكري الحالي من تحديد دور الحوزة الدينية في إطارها فقط كحلقة للدرس والتعليم الديني. لتصبح الساحة فارغة أمام الخطاب العسكري المقدس الذي ينتجه نجاد بشكل دائم.
ومن خلال نفس الخطاب يطرح النظام الإيراني نفسه بوصفه المخلص الوحيد لمنطقة الشرق الاوسط ككل. فكما قال الرئيس الإيراني أن الشرق الأوسط أهم منطقة في العالم، وإيران أهم دول الشرق الأوسط. خاصة وأن إيران تطرح نفسها دائماً كما تعلن أنها الوحيدة المتصدرة للإمبريالية الغربية. أي إعادة ضياغة للمشروع المذهبي في سياقه السياسي القومي لتحقيق أكبر شعبية ونفوذ ممكن داخل المنطقة بشكل عام. خاصة مع غياب للمشاريع الوطنية أو القومية كسياق بديل أمام الشعوب الإسلامية أو العربية.
برأيي أن هذا الخطاب المقدس الذي يعتمده الرئيس الإيراني الحالي هو سر استمراره للأن أمام كل تلك المعارضات التي لم يسبق لها مثيل في إيران منذ بدايات الثورة. فتظل النخب المثقفة أو طلاب الجامعات. أو حتى النخبة المعارضة في النظام ذاته كموقف هاشمي رفسنجاني الذي اعترض رسمياً أكثر من مرة على استغلال نجاد للمشاعر الدينية لعامة الشعب الإيراني. ستظل فئة محدودة في النهاية تواجه العديد من الصعوبات للتحقق أو مواصلة الاعتراض. ومحاولة النظام الحالي محاصرتهم بتاريخهم الخاص أو بإشكاليات مرتبة تضعهم دائماً في موقف
الدفاع.

[email protected]